د. فيصل عوض حسن
كتبتُ كثيراً عن الاقتصاد باعتباره أحد التحديات (الخطيرة) التي تُواجه السُّودان، وحَذَّرت من إمكانِيَّة استغلاله/تطويعه لـ(تركيعِنا) وتحوير خياراتنا، وللأسف حدث ما كنت أخشاه وأُحذِّر منه، وأصبحنا نحيا في أسوأ ظروف يُمكن أن يحيا فيها الإنسان، وبلغنا قاعاً ما بعده قاع، وأضحت بلادنا (مُخْتطَفة) بمعنى الكلمة، و(مَرتعاً) للطَّامعين والسَّاقطين والمُجنَّسين والمَقاطيع، والشعب وغالبيتنا غافلون وتائهون بفعل الأزمات الاقتصادِيَّة المُتزايدة، والتي ستزداد أكثر وأكثر ولن تتوقَّف، طالما بَقيَ هؤلاء العُملاء (عسكر/مدنيين) في الحكم.
قناعتي رَّاسخة بأنَّ التدهور الاقتصادي بدأه الكيزان، لكن حمدوك ومُعاونيه (عَمَّقوا) ذلك التدهور والتدمير، وتَفَنَّنوا في (تعقيد) أحوالنا أكثر من ذي قبل، وعملوا على (تعطيل) بناء الدولة المحترمة/القَوِيَّة التي ننشدها مع سبق الإصرار. فرغم مظاهر الانهيار الكامل الماثلة، إلا أنَّ السُّودان يملك جميع مُقوِّمات/مُتطلَّبات الدولة الحقيقيَّة، عدا (الحاكم الوطني/المُخلِص)، وهذه مُشكلتنا الرئيسيَّة التي ظللنا نُعاني منها على مَرِّ التاريخ، حيث افتقد جميع من حكموا بلادنا لـ(الأخلاق)، بمضامينها وقِيَمِها العديدة، كـ(الصدق، الوطنيَّة، التَجرُّد، العِفَّة، الاستقلالِيَّة، الكرامة، عِزَّة النَّفس، الرَّحمة، الحُب، التواضع، الإخلاص… إلخ القِيَم الأخلاقِيَّة)، وارتهنوا للعالم الخارجي (القريب والبعيد)، ولم يعملوا لأجل البلد وإنسانها، وفق ما عايشناه نحن أو الأجيال السَّابقة/اللَّاحقة، وهي أحداثٌ ووقائعٌ مُوثَّقةٌ لا تحتاج لاستدلال، ونحيا الآن نتائجها الكارثِيَّة!
حمدوك لا يختلف عَمَّن سبقوه من (التوابع/العُملاء)، في إضعاف وتدمير السُّودان، وسَحْق و(استحقار) أهله واستكثار خيرات البلد عليهم، رغم أنَّهم مُتفوِّقين على الصعيد (الأكاديمي)، لأنَّ (الشطارة) بدون أخلاق تُصبح مُدمِّرة. ولنتأمَّل (قادة) الكيزان، سنجدهم في الغالب (شُطَّار أكاديمياً)، لكنهم عديمي الأخلاق، لذلك أوردونا موارد الهَلاك. وحمدوك لا يقلُّ عنهم سوءاً، إنْ لم يَفُقْهُم، لأنَّه وَجَدَ مساحة لم يَحظَ بها غيره، لكنه خان الثقة وكَسَر خاطر الشعب، و(ضَيَّع) الفرصة التاريخيَّة الأقوى والأبرز لبناء دولة رَّاسخة، على أُسُسٍ علميَّةٍ وقانونِيَّة وإنسانِيَّة وأخلاقِيَّةٍ سليمة. ويُمكن القول بأنَّه أضاع أعظم ثورة سُّودانِيَّة (بعد اللواء الأبيض)، واستخفَّ بنضالات الشعب، وعَزَّز المُهدِّدات أكثر من ذي قبل، لتشمل جميع أوجه الحياة، تاريخاً وحاضراً ومُستقبلاً.
التضيقُ الاقتصادي أو الإفقار والتجويع، من (الأدوات) الرئيسيَّة التي استخدمها حمدوك لتكسير عظام وإرادة الشعب، وهو ذات النهج الكيزاني (اللئيم/الخبيث)، لكن حمدوك يُمارس (الإفقار) بإيقاعٍ أكثر قسوةً وسرعةً وتدميراً، مُستعيناً بالسفهاء وآكلي الفِتَاتِ وسَقَطِ المَتَاع، الذين تَفنَّنوا في إلهاء الشعب (المسحوق) وتضليله، وجعلوا من (عَمَالة/فشل) حمدوك وقحتيوه نجاحات وإعجازات، تستحق الألقاب والصفات (الخُرافِيَّة)، المُتقاطعة مع واقع المُمارسات ونتائجها الكارِثِيَّة. والتزاماً بالموضوعِيَّة، وعلى سبيل المثال فقط وليس الحصر، لم نَرَ لحمدوك ومُعاونيه أي استراتيجيَّة/رُؤية رصينة وخطط (واضحة)، لمُعالجة الاختلالات الاقتصادِيَّة، وإنَّما تركيزهم كان ولا يزال على العالم الخارجي، والاستناد لفرضياتٍ مجهولة (خارج السيطرة). حتَّى الأنشطة الإنتاجِيَّة والاقتصادِيَّة التي كانت قائمة، تَرَاجعَت لمصلحة الكيزان وأزلامهم العَسْكَر وسادتهم بالخارج، وارتفعت مُعاناتنا بنحوٍ غير منطقي أو مسبوق! وتَجَاهَلَ حمدوك الكثير من (الكفاءات) السُّودانِيَّة المشهودة، في اختياراته للوُزراء/الوُلاة، رغم أنَّ الكثير من تلك الكفاءات يفوقون حمدوك نفسه أكاديمياً وأخلاقياً ونضالياً، وأبدوا استعداداً كبيراً لتقديم خبراتهم (مُجاناً)، ولكنه أغفلهم وتَعَمَّد اختيار من يُنفِّذون أجندته!
بالتوازي مع ذلك، استمرَّت طباعة العملة المحلِيَّة دون رقابةٍ أو حساب، وتعَمَّد حمدوك (إبقاء) مطابع العُملة تحت سيطرة الكيزان، رغم التنبيهات المُتواصلة لخطورة/خطأ ذلك، مما جعل الأضرار (مُركَّبة). فمن جهة استطاع الكيزان (التهام) العُملات الأجنبِيَّة بالكامل من السوق، لأنَّهم يملكون كميات كبيرة من العُملة المحلِيَّة تساعدهم على شراء العملات بأي سعر، عبر عُملائهم وطفيلييهم المُتناثرين هنا وهناك. ومن جهةٍ ثانية، وهي الأخطر، انعكست الطباعة المُتوالية للعملات المحلية سلباً على الاقتصاد، حيث ارتفع التضخُّم و(ضَعُفَت) العملة المحلِيَّة أكثر! والأدهى من ذلك، أنَّ حمدوك ومُعاونيه لم يبذلوا أي جهود (جادَّة/رسميَّة) لاسترجاع الأموال (الضخمة) التي نَهَبها المُتأسلمون، ومن ذلك على سبيل المثال، ولكم أن تعلموا أنَّ عوض الجاز وحده يملك (64 مليار دولار)، وفقاً لجريدة “المدينة” في 26 أبريل 2019، وهذا مبلغٌ يُسدِّد جميع ديون السُّودان بفوائدها ويفيض، فكيف ببقِيَّة أعضاء العصابة الإسْلَامَوِيَّة! كما (ترك) حمدوك ومُعاونيه عدداً من الشركات/المُؤسَّسات والأنشطة الاقتصادِيَّة تحت سيطرة العَسْكَر، بل مُساعدتهم في نهبها وتدميرها على نحو فضيحة شركة الفاخر وغيرها.
إنَّ التجويع والإفقار لا يحدثان بلا مُقدِّمات أو دون أسباب، ولا يستقيم وصفهما بـ(العقاب الإلهي) كما يدَّعي شيوخ الغفلة، وتحميل الضحايا/الشعوب أوزار ذلك بنحوٍ مُطلق، لأنَّ الله أرحم بنا من أنفسنا ولم يخلقنا ليُعذِّبنا دون جريرة، ولكنَّ التجويع والإفقار نتاج لعمل استراتيجي/منهجي مدروس بِدِقَّةٍ وعناية، لـ(كَسْرْ) إرادة الأفراد/الجماعات أو الشعوب وتعزيز السيطرة عليها، وهذه منهجِيَّة تاريخيَّة قديمة استُخْدِمَت في مُختلف العُصُور، سواء على الصعيد الدولي والإقليمي (الاستعمار)، أو الصعيد المحلي/الدَّاخلي عبر الجماعات أو النُخَب الحاكمة. والتجويعُ/الإفقار يُؤدِّيان إلى التَبِعِيَّة والإذعان، لأنَّ الحرمان المُتـواصل يُضعِف الهِمَّة، ويقتل المروءة والكرامة وعِزَّة النَّفس، ويَسْلِب القُوَّة العقلِيَّة (التَدَبُّر/التأمُّل)، ويَهْلِك الجَسَدْ والرُّوح (حرارة القلب) من الموارد وحرمان من المال والسلطة والنفوذ والعلم وشرف المحتد، أو القوة الجسدية أو القدرات العقلية أو الحرية. وعلى سبيل المثال، صَنَعَ البريطانِيُّون (مَجاعات) من العدم في المناطق الهندِيَّة، ثُمَّ استغلُّوا الهُنُود كـ(عبيد) في تشييد السِكَك الحديديَّة والطُرُق والمعابر، واحتكار ونهب ثروات الهند بعد الاستعانة بـ(الخَوَنة/العُملاء) الهُنُود، ونجحوا في ذلك إلى حدٍ بعيد مُقابل (الفتات).
لعلَّ هذا ما فعله المُتأسلمون ومن بعدهم حمدوك وقحتيُّوه بالسُّودان وأهله، حينما استخدموا سلاح (التجويع) والإفقار والتضييق الاقتصادي والمعيشي على الشعب السُّوداني. ولَئِنْ كان الجُناة واضحون إبان حكم الكيزان (الظاهر)، فقد أصبحوا (مجهولين) الآن في عهد (العميل) حمدوك ومُعاونيه من سَقَطِ المَتاع، وازدادت مُعاناتنا بنحوٍ يفوق حدود الوصف والخيال. ولقد فاقت المُهدِّدات التي تُواجهنا الآن حدود السياسة والاقتصاد والثقافة والمعرفة، لتصل إلى (وُجودنا/بقائنا)، تبعاً للواقع الماثل الذي يعكس سيطرة شاملة للمُجنَّسين على مفاصل الدولة، وتعزيز سيطرة الطَّامعين الخارجيين على ما تَبَقَّى من البلاد ومُقدَّراتها، بمُباركة ودعم ومُساندة غير محدودة من حمدوك ومُعاونيه، وثمَّة تفاصيل أكثر في مقالاتي (اَلْمَشَاْهِدُ اَلْأَخِيْرَةُ لِمَخَطَّطِ تَمْزِيْقِ اَلْسُّوْدَاْنْ) يوم 21 أبريل 2019، و(حِمِيْدْتِي: خَطَرٌ مَاْحِقٌ وَشَرٌّ مُسْتَطِيْر) بتاريخ 29 أبريل 2019، و(السُّودان بين مليشيات المُتأسلمين والجَنْجَوِيْد) بتاريخ 14 يونيو 2019، و(الغَفْلَةُ السُّودانيَّة) بتاريخ 26 مايو 2019 و(أزمةُ الشَرْقِ حَلَقةٌ مِنْ حَلَقَاتِ تَذويبِ اَلسُّودان) بتاريخ 18 أغسطس2020، و(اَلْسُّوْدَاْنُ وَاَلْمُهَدِّدَاتُ اَلْسِيَادِيَّةُ اَلْمُتَعَاْظِمَة) بتاريخ 15 يوليو 2020، و(السُّودانُ والخَرَابُ القادمُ من جُوبا) بتاريخ 23 نوفمبر 2020 وغيرها.
المُحصِّلة أنَّ جميع مُمارسات/تَوجَّهات حمدوك ومُعاونيه التي أشرنا لبعضها أعلاه، ضاعفت مُعاناتنا الاقتصادِيَّة، وكانت مَدْخَلاً/آلِيَّة لفرض واقعنا المُفزع في كافة أوجه حياتنا، وسيشتدُّ (التجويع) والإفقار أكثر، وسيُواصل حمدوك والقحتيُّون في تنفيذ توجيهات سادتهم بالخارج، دون سُقُوف أخلاقِيَّة أو إنسانِيَّة أو قانونِيَّة، لأنَّها مهامهم التي جُلِبوا لتنفيذها. ومن السذَاجةِ تَوَقُّع الخير من أمثال هؤلاء، ومن الغفلة الصمت أو الانتظار حتَّى يكملوا (خياناتهم)، والسبيل الوحيد لإيقافهم يكون باقتلاعهم بأسرع ما يكون، وهذه مسئوليتنا نحن كشعب بالدرجة الأولى.فلنعلم بأنَّنا قادرون على الاستقرار والنَّهضة، بعيداً عن ذل الحاجة (داخلياً وخارجياً)، لأنَّ بلدنا يملك جميع موارد/عناصر النهضة والاستقرار، وأهمَّها المورد البشري، فنحن نحتاج فقط للأخلاق وتطبيق مبادئ الإدارة العلمِيَّة، حتَّى نرتقي ونحيا كبقيَّة خلق الله في عِزَّةٍ وكرامة.
لا تسألوا عن البديل، لأنَّ هؤلاء ليسوا الأفضل، ونحن لم نَثُر على الكيزان ليكون هذا واقعنا، كما وأنَّ (البديل) موجود وسط الشعب السُّوداني، الذي أجبر البشير على الاختفاء، وابن عوف على التَنَحِّي، وبإمكاننا إنجاح ثورتنا وتحقيق التغيير الحقيقي، بعد مُعالجة العيوب التي (عَطَّلت) حِرَاكنا الشعبي الفريد، وأوَّل تلك العيوب (إبعاد/تلافي) الخَوَنة والعُملاء الذين سرقوا الحِراك، وتلاعبوا بمصائرنا وعلى رأسهم ما يُسمَّى تِجمُّع مهنيين، وجميع كياناتنا الفاشلة والانتهازِيَّة (مدنِيَّة/مُسلَّحة)، وليكن الاعتماد فقط على بعضنا البعض، باعتبارنا (أصحاب الوَجْعَة) الحقيقيُّون.
رُبَّما مُفرداتي قاسية لكنها واقع نحياه، والإنكارُ والمُكابَرَةِ لا يُلغي هذا الواقع، ولا يحمينا من مآلاته المُفزعة، وبدلاً عن انتظار تَحَقُّقِ الآمال/الأحلام، فلنتَّحد ونُسخِّر طاقاتنا وقُدراتنا، ونقتلع جميع الحاكمين الآن بجِدِّيَّةٍ وسرعة، إذا أردنا اللحاق بما تبقَّى من البلاد والعباد.
بعض الكتابات السابقة لمزيدٍ من التفاصيل:
- مقالة (خِيَاْنَةُ اَلْثَوْرَةِ اَلْسُّوْدَاْنِيَّة) بتاريخ 22 يوليو 2019.
- مقالة (إِلَى أَيْن يَقُوْدُنَا حَمْدوك) بتاريخ 24 سبتمبر 2019.
- مقالة (المُتَلَاعِبون) بتاريخ 24 أكتوبر 2019.
- مقالة (اِسْتِرْدَادُ الثَوْرَةِ السُّودانِيَّة) بتاريخ 2 فبراير 2020.
- مقالة (مَتَى يَنْتَبْهْ اَلْسُّوْدَانِيُّون لِعَمَالَةِ حَمدوك) بتاريخ 12 فبراير 2020.
- مقالة (كَيْفَ اَلْلِّحَاْقُ بِاَلْسُّوْدَاْنِ قَبْلَ فَوَاْتِ اَلْأَوَاْن) بتاريخ 23 يونيو 2020
- مقالة (فَلْنَحْذَر صِنَاعة الطُغَاة) بتاريخ 6 أبريل 2020.
- مقالة (السُّودان وعبث وتضليل الحُكَّام) بتاريخ 17 فبراير 2021.
- حوار في الشأن السوداني https://www.snn-news.net/?p=40718&fbclid=IwAR1xzLUE4q8ewncSuWcv5UL2wuc3Xxx6IgBdgZEin25-EsUAzy8PTOmcXjk