ألرحمة والمغفرة للسيد الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وزعيم الأنصار، لقد رحل قبل أشهر قريبة منصور خالد واحمد إبراهيم دريج وقبلهم بأربعة أعوام غادر الفانية حسن الترابي، كما بارحنا فاروق أبوعيسى وأمين مكي مدني وسبقهم جميعاً في الرحيل المحتوم محمد ابراهيم نقد، هذه واحدة من سنن الحياة وقانون من قوانين الناموس الكوني، وحتمية من حتميات جدل الحياة والموت، هؤلاء قد مضوا إلى بارئهم فلهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا، وقد تركوا لنا مكتبة عظيمة حفظت آثارهم وصانت اجتهاداتهم، وهذا من حسن حظ الجيل المعاصر أن وجد توثيقاً كاملاً لكل من صال وجال في ميدان العمل العام، خطّت أقلامهم تنظيراتهم وتطبيقات افعالهم التي لا يستطيع أحد أن يشكك في أيلولة ملكيتها الفكرية إليهم، ولا يمكن لكائن التحايل على حقبة تاريخ السودان في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي مثلوا فيه الدور الأساس كلاعبين أصيلين على خشبة مسرح الحياة والسياسة، ولن يأتي جيل بعد حين ليدمغ تاريخنا بالتزوير كما درج الكثيرون على ترديد هذا الأفتراء، ممن يهابون مواجهة الحقيقة والهاربين من لعنة التاريخ، فالمكتبة الوطنية محتشدة بمؤلفاتهم الطارحة لمكتسباتهم الفكرية والثقافية، ولكل طالب علم أوباحث تاريخ وسياسة واجتماع الرجوع إليها في أي وقت وكل حين، ومن حسن حظ هؤلاء الكبار أيضاً أنهم واكبوا طفرة تكنلوجيا المعلومات فنحتت مخطوطاتهم على جدار (قوقل).
ألكبار وجدوا حظاً كبيراً في نيل عظيم الإجازات العلمية من أعرق جامعات الأرض، ومشوا في مناكب البراحات الواسعة ومارسوا نشاطهم السياسي في مجتمع يرزح غالب أهله تحت وطأة الجهل والأمية، فاستقطبوا الناس وجذبوا المريدين والمؤيدين باتباعهم لموضة ذلك الزمان، الدائرة حول الأيدلوجيات الوافدة وامتطاء صهوة حصان الدين وفرس الطائفة ، فلكل زمان رجاله وكل أوان له نساؤه، لذا لا يجوز محاكمة ذلك الماضي التليد بأحكام هذا الزمان الماثل، فقط يقع على ظهر جيل اليوم من الموالين لأحزاب الكبار واجب أن يقيسوا الأمور بمقاييس زمانهم وأن يخرجوا من جلباب آبائهم ويقول الفرد منهم ها أنا ذا, فلم تعد أطروحة (الصحوة الاسلامية) جاذبة لشباب (الصبة) لكي يدخلوا في حزب الأمة افواجا، ولا فكر ماركس ولينين جدير بأن يخاطب هؤلاء النشأ المنفتحين على العالم الرأسمالي الذي يقود الدنيا ، كما أن المشروع البعثي لا مجال لمعتنقيه سوى أن يتواروا خجلاً من أن يقدموه لبنات وأبناء هذا الزمان الذين تعج عقولهم بمفاهيم المركزية الأفريقية وجدلية المركز والهامش وفكر السودان الجديد ، اما يتامى الحسنين (البنا والترابي) فلا عزاء لهم غير الإنسلاخ التام من جلد الأفعى الرقطاء، وأن يتوبوا توبةً نصوح من ما جره تلمود معالم طريق الحسنين لهم وللوطن من سوء خاتمة، لقد نهلوا من اجتهادات فكرية ومذهبية عرجاء شوّهت الدين وأفسدت الحياة الدنيا.
ألبلاد مقبلة على تجربة ديمقراطية سنامها الحرية والنزاهة والشفافية وتحكمها وتضبطها تطبيقات تكنلوجيا العصر، لا يجد فيها الانتهازي والوصولي والجاهل بالأبجديات المعرفية للتقانة المعلوماتية فرصة لممارسة الخج والتزوير، على التنظيمات الكبيرة التي رحل كبارها أن تحدث انقلاباً على مستوى الممارسة وطرائق العمل، فلم يعد الزمان هو ذلك الزمان العفوي الذي سادت فيه روح المجاملة واستهانة الناخب بقيمة صوته الانتخابي، ومضت السنين التي تلاعب فيها الساسة بمصائر الأوطان، وخير دليل على ما نقول خوف وهلع حكامنا من المليونيات التي تنطلق بكبسة زر على الأيقونتين الصغيرتين الخضراء والزرقاء (الواتساب والفيسبوك)، على خلفاء الزعماء الكبار في أحزابهم أن يعوا خطورة واهمية التحدي الماثل أمامهم، فإذا لم يتحرر الحزبان الكبيران من إزدواجية الربط بين المؤسستين (الطائفة والكيان السياسي)، فليبشر انصارهما بذوبان هاتين المؤسستين وتبعاً لذلك لن يتمكن القائمين على أمر الإدارة والتنظيم لحاق ما يمكن لحاقه من اضمحلال الحزب ونفاذ مشروعه، السيد محمد عثمان الميرغني والراحلان الصادق المهدي ومحمد ابراهيم نقد عندما كانوا في ريعان الشباب، خاطبوا أقرانهم بلغتهم ولهجة ذلك العصر ،فذات الحكمة يجب أن يتبعها خلفاء هؤلاء الزعماء الكبار.
ألخارطة الدالة على معالم الطريق الذي يوصل الحزبيين والمتحزبين الجدد إلى مراميهم، تؤشر على الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية والفرص الاستثمارية والاقتصادية التي يرنوا إليها الشباب، كمشاريع واطروحات بديلة، ولم تعد الأشواق المتعلقة بفتح بيت المقدس تحرك ساكناً في حماس هؤلاء اليافعين، ولا عراقة الماضي الرعوي في صحراء الجزيرة العربية يشكل عنصراً من عناصر إثارة القومية والشعبوية في نفوسهم، ولا حتى الحضارة السودانية الكوشية لها ما يميزها غير الزخم المشحون بالخيال الجميل، فاطفالنا في المنازل يأخذون موجهاتهم الثقافية من المصدر العولمي الساعي لمحورة المجتمعات حول محددات الثقافة الانجلوسكسونية واللغة الانجليزية، ومع تسارع خطى الغرب (للتكويش) على عقول صغارنا لا تجد المتباكين على اطلال صلاح الدين وامجاد العمرين يفعلون شيئاً ذا بال، تراهم يحومون حول الحمى ويدورون في الحلقات المفرغة يستجدون مخزونهم العاطفي المستلب ويستدعونه عسى أن يكون معزياً ومكففاً للدموع، يجترون مرارات الخيبات الآملة التي تنوء بحملها قلوبهم المثخنة بجراحات الماضي دون أن يكدوا ويكدحوا ويعملوا من أجل الحاضر الأجمل.
إسماعيل عبد الله
[email protected]
28 نوفمبر 2020