أتينا الى عاصمة بلادنا من مدن السودان واريافه المتنوعة، بحثاً عن التجارة والتعليم والسياسة و(الصعلكة)، منا من وجد ضالته فيها وهناك من غادرها غير مأسوف عليها دون سابق انذار واستقر به المقام في قريته او مدينته النائية وكفى خيره شرها (الضمير هنا يعود للخرطوم)، ما زلت استحضر ذلك اليوم العبوث الذي وقف فيه ممثل الطلاب بالاتحاد امامنا، على عتبة باب مكتب عمادة الطلاب مخاطباً جمعنا بخصوص قضية طلابية شائكة سببها عميد الطلاب، وكانت لكنة ممثل الطلاب دارفورية بائنة دعت احد الواقفين بالقرب مني لأن يقول ممتعضاً (بالله مالقوا غير هذا الغرباوي متحدثاً باسمنا؟)، حينها تذكرت رفض ذلك الصحابي الحديث العهد بالاسلام لبلال بن رباح لأن يكون مؤذناً في الناس يوم فتح مكة، وظننت أن ذلك العنصري كان مجرد فرد واحد ناشز ومريض، لكن خاب ظني عندما حدثت المفاصلة الشهيرة بين الانقاذيين، والتي كان اساسها صراع الجهة والعرق، فتلوثت حوائط دورات المياه بفاحش القول العنصري البغيض، واتسخت بجارف سيل السجال الجهوي المقيت بين الفئتين، ومازال قول الشهيد بولاد يخالج تفكيرنا – اكتشفنا ان رابطة العرق اثقل من رابطة الدم – وما تزال هذه المقولة الأليمة ماثلة في عقول الناس، والتي ادلى بها أمام رائد مشروع السودان الجديد عندما سأله لماذا تركت اخوتك في الله وأتيت لتحتمي بنا نحن (الكفار).
الفِرقْ الدرامية المنوط بها اضحاك الناس وابهاجهم في الخرطوم تسخر من المكونات الاجتماعية السودانية، وتتخذ منها مصدراً للضحك والتهكم والاستصغار، يحدث ذلك كل ليلة سمر وكأن شيئاً لم يكن، في البلدان المحترمة تعتبر اقوال وافعال مثل هذه الفرق الدرامية جرائم حاضّة على الكراهية توجب المحاكمة، لكن في الخرطوم تعمل مؤسسات الدولة الثقافية على تشجيع المفاهيم الخاطئة و(المفرتقة) للحمة نسيج المجتمع، وهنالك ظاهرة اجتماعية سالبة هي ارتفاع اصوات المتفاخرين بالانساب والأحساب والرافعين لرايات اشجار النسب المنحوتة بدكاكين وحوانيت القاهرة، هؤلاء في المقابل لا يقبلون بالآخر القادم من دارفور او الانقسنا برفع عقيرته والصياح باسم عزة وكرامة نسبه الزنجي الشريف، وإن حدث وتجرأ واعتد بنفسه وبجهته وصمته آلة الخرطوم الثقافية بالجهوية والعنصرية والاقليمية – احرام على بلابله الدوح و حلال على الطير من كل جنس، هكذا هي العاصمة المثلثة، مكتظة برواسب العنصرية وموبوءة بداء اقصاء الاخر ورفضه والحط من مقداره، لمجرد أن هذا الآخر مواطن اصيل قدم الى حضن بلاده من الاطراف البعيدة – (أهل العوض) نموذجاً.
الحروب التي هرست الاخضر واليابس سببها الكراهية العرقية والتمييز الجهوي، الشرقاوي لدى اهل الخرطوم مصنّف على أساس أنه ارتري والغرباوي حشر مع زمرة التشاديين، اما النوبي المشترك مع اسوان لا احد يتناول سيرته، وذلك لتمكن نزعة الدونية الاجتماعية تجاه مصر من عقول ناس الخرطوم، تجدهم يفاخرون بالانتماء لمجتمعات تركيا والهند ومصر والمغرب ويعملون جهد ايمانهم على هيمنة هذه الثقافات الوافدة على مصير الوطن ويشجعون على الانبهار بها اعلامياً، من هنا جاءت خيبات الأمل والاخفاقات المتتالية في تأسيس دولة المواطنة، لان هنالك مواطن لايرى نفسه عبر مرآة وطنه العزيز بل دائماً تجده هارباً لخارج الحدود للتمسح والتبرك بهوية ليست هويته، والانتساب لعرق لاجذر يربطه به على الاطلاق، من هنا انطلقت عواصف وارهاصات ازمة الهوية التي ازهقت ملايين الارواح في الجنوب ودارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الازرق، انها رحلة البحث عن قتل ذلك الرجل الاسود القابع في دواخلنا، كما قال الدكتور الباقر العفيف، ناس الخرطوم قهروا سكان السودان القادمين من الاطراف قهراً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً لم يخطر على بال هتلر.
الوحدة الوطنية لن تتحقق اذا لم تجتث العقلية الصفوية المسيطرة على جماجم صانعي القرار السياسي والمستلبين الدونيين التابعين لهم، حديث عبد الرحيم دقلو صحيح مائة بالمائة عندما قال أن الخرطوم ليست قطعة ارض مسجلة باسم مواطن بعينه، ما الخطأ في هذا الحكم؟, نعم انها ليست حكر لاحد ولا على احد كان، هذه هي الحقيقة المرّة والمجرّدة لمن اراد ان يتعظ مما فعلته التفرقة القبلية والحروب الاهلية بمواطني السودان في اطرافه، الدوافع التي ساقت دقلو لأن يقول مثل هذا الحديث ماثلة للعيان وراسخة في وجدان كل مهمش ومقهور، وموثقة على صفحات منصات التواصل الاجتماعي، ولكل مضطهد قصة ورواية مع عنصرية الخرطوميين، في المواصلات والاسواق والحفلات والحافلات، وفي الجامعات والحدائق العامة والمؤسسات الحكومية والخاصة، فكل الملفوظين اجتماعياً في ذهنية الصفوي الخرطومي في الواقع هم عزيزين في موطنهم البعيد، وما كان لهم أن يروا وجه احد لولا قدر وجودهم في محيط هذا الكيان المسمى بالسودان، فاذا استمرت لواعج وضغائن هذه الروح العدائية المنطلقة من النخبة الخرطومية في التصعيد، فسوف تلجأ الشعوب السودانية الى تقرير مصيرها، وبذلك يكون الناس قد حقنوا الدماء التي من المتوقع أن تسيل مرة أخرى بحور وانهار اذا لم يرعوي العنصريون الخرطوميون.
اللهم إنّي قد بلغت اللهم فاشهد.
اسماعيل عبد الله
[email protected]
18 مارس 2021