في احد المحاضرات حول التاريخ الأمريكي طرح الأستاذ فكرة ان امريكا وكندا دولتين ليس لهما تاريخ طويل، فتاريخهما لا يتعدى ال400 عام. وطلب من الطلبة أن يذكروا أمثلة لدول ذات تاريخ طويل. فبدأ الطلاب في ذكر أمثلة للدول كالصين ومصر ودول أوروبا، فضحك الأستاذ وقال إن هذا بالضبط ما يريد الأوربيين الذين حضروا إلى أمريكا قبل 400 عام تثبيته في الأذهان. فامريكا وكندا كان فيها حضارة الهنود الحمر السكان الأصليين، ولكن تلك الحضارة وتاريخها أراد القادمين الجدد محوها، وتمكنوا من ذلك بزرع فكرة في ذهن الآخر انه بلا تاريخ قبل قدوم الرجل الأبيض.
ان رؤية الذات في المرآة التي صنعها الآخر لنا تؤدي بنا إلى النظر لصورتنا كما يريدنا الآخرون رؤيتها وليس كما هي حقيقة، وليس بالتأكيد كما نرغب نحن في رؤيتها. و الواقع السوداني الذي يسيطر عليه توجه ثقافي ونخبة معينة تمكنت من صناعة منظومة من المفاهيم والمصطلحات التي حبست فيها تحليلات الأزمة والقضية السودانية حسب ما تراها هي، يمثل هذا الواقع نموذجا مشابها لهذا الخضوع المعرفي والمفاهيمي للآخر. ولعل اول أبواب الخروج من أزمتنا والولوج إلى بوابة التحرر تبدأ من التحرر من تلك الأقفاص المفاهيمية لقضايانا وحقيقة أزمتنا على مستوى الواقع والتاريخ.
فالصراع الذي تحول في السودان من مطالبة بثروة وسلطة إلى انفصال وإبادة جماعية، خلق حالة دائمة من الأنهاك المستمر للقوي الضعيفة داخل مناطقها، في الوقت الذي بقيت منصات السلطة حصينة على أي خسائر محتملة. فتم بصورة ممنهجة المزيد من الحماية للنخب الحاكمة ومنطلقات سلطتها الجغرافية والسياسية والاقتصادية، في مقابل المزيد من الاستغلال والقتل والتدمير في المناطق الاخري. وهذه الخطة الناجحة في التمكين للنخب الحاكمة أتى من خلال زراعة المفاهيم الانعزالية والدونية التي لا ترى في الذات القدرة الكافية على نقل ساحة الصراع من مناطقها هي الي منصات إدارة السلطة في البلاد. وجري ذلك من خلال تحول مفهوم “التهميش” الي تعريف للذات الموضوعية والفاعلة وليس فقط تعريف للوضعية السياسية الاقتصادية. وبالتالي أصبح العمل من أجل اي تغيير، يحدث بشكل يجعل العمل في حد ذاته هامشي بالنسبة للسلطة. فالحرب تدور بعيدا والقتل يجري بعيدا والتدمير بعيد للغاية هناك في “الهامش”. ان التماهي مع التعريف الذي منحنا اياه الآخر لتعريف أزمتنا نجح في عزل الشعوب المقهورة والمظلومة في السودان عن منطلقات السلطة ومنصات قيادة التغيير في عمق نقاط التحكم والحكم السياسية والاقتصادية والثقافية.
لذلك فان استعادة القدرة على رؤية الذات كقوة فاعلة وذات حق اساسي في المطالبة بالحقوق الكاملة ليس على مستوى مناطق جغرافية ضيقة بل على مستوى وطن متسع بكامل سيادته وبكامل الحقوق لكل مواطنيه، هو البداية الحقيقية للتغير على مستوى الوعي بالذات والقضية دون الأنهزام للقوالب التي أعدها الآخرون والتي تحمي مصالحهم في التمكين والبقاء في السلطة. وتنمية درجة الوعي بأن السلطة لا تعني فقط الحكم والثروة والدولة والوزارات، والتنمية لا تعني فقط المدارس والمستشفيات، كلا بل هنالك سلطة أهم وأعلى وهي سلطة صناعة الوعي والمفاهيم. وبدون امتلاك سلطة بناء الوعي بالذات فلن تكون السلطات الأخرى أكثر من كونها سيارة يقودها اعمي لا يرى الطريق أمامه.
ان النظرة الانعزالية وعدم رؤية مساحات الحراك في اتجاه حلول ذات توجه مستدام ومستقبلي ينحو بالأزمة في مناطق الصراع إلى حلول جزئية مؤقتة لا تتناسب والخسائر التي دفعها أضعف الناس في تلك المناطق. ولكن مقاربة مختلفة للخروج من الأزمة تتطلب إعادة تموضع القضية في وعي القادة والشعوب المضطهدة. بحيث تتعالى الاهداف على الانحباس في اجترار الماضي ومراراته نحو صناعة مسار سياسي ذو رؤية واضحة وأهداف واقعية ومصالح محددة. بحيث تكون الاهداف مرتبطة بتحقيق “المصالح” وليس الاستجابة “للمطالب”. إذ يجب اولا الخروج من وضعية “الرعايا” الذين يرفعون “مطالبهم” لولي الأمر. والانتقال إلى مرحلة إدارة “المصالح الإستراتيجية” بالمعنى المستقبلي المستوعب للتحديات فى الواقع المحلي والعالمي والإقليمي. وللوصول إلى هذه المرحلة يجب كما ذكرنا الخروج من قوالب تعريف الأزمة التي صنعها الآخر، والتى أسهمت في العزل والانقسام الذاتي وعدم القدرة على رؤية المصالح الاستراتيجية التي تفرض علاقات وتحالفات مع الكثير من الفئات التي لا يريد من هم في السلطة لها أن تتجمع وتوحد قواها لأن ذلك سيعني نهاية تلك النخب الحاكمة بلا رجعة. ومن أهم نتائج هذه الرؤى الانكفائية والخسائر التي أوقعتها هو تجاهل حقيقة أن الملايين من سكان المناطق المنكوبة بالحروب هم في الواقع يسكنون في عمق مناطق آمنة وخارج مناطق الحرب وهم من أكبر المتأثرين بالاوضاع الاقتصادية قبل الأوضاع الأمنية أو الحروب التي تجري في مناطقهم الأصلية التي نزحوا منها قريبا أو قبل سنين. لذلك فإن عدم القدرة على رؤية أهمية دور هؤلاء ومعاناتهم لن يسهم سوى في تمكين حالة الانقسام التي تخدم النظام والنخب الحاكمة. وبالتالي فإن نظرة سياسية مبنية على المصالح والأهداف الواضحة والإمكانيات القابلة للتوسع عبر الفعل وليس العزلة والانغماس في الغضب العاجز الذي يحطم كل القدرات على التقدم هو السبيل نحو تحقيق بعض أهداف التخلص من هذا النظام والوصول تدريجيا إلى وعي بالذات وقدرة على القيادة لكل السودان وليس لاجزاء منه فقط.