صلاح شعيب
التهافت الواضح لكسر عزلته، واصطياد التأييد الرخيص له، أفقدا البشير ما تبقى له من ماء وجه. وبدا في خطاب الكريدة أكذب رئيس على وجه الأرض. لقد فرض شبيه النازيين نفسه في احتفال الكريدة ليستمد دعما فئويا شحيحا ذلك الذي هو زاده لسفك المزيد من الدماء. ووسط هذه الجماهير المغلوبة على أمرها يسبق الخصم، والحكم، مهام لجنة التحقيق الصورية التي كونها ليحدد أن قاتل الشهيد مندس.
وكالعادة ينهل مساعده الدموي قوش من معين الكذب ليشوه الحقائق الماثلة بوضوح للرأي العام حول أشجع حراك سياسي عرفته المنطقة.
فالثورة التي انطلقت في ديسمبر بمبرراتها المعروفة قد انحاز لها غالب الشعب السوداني. فكل ابناء، وبنات، معظم قرى، ومدن البلاد، خرجوا لتأييد تغيير النظام سلميا بمشاركة شبابها، وكهولها، ونسائها، ورجالها، وحتى الأطفال. ولذلك وصف قوش حراك الثورة بأنها محاولات يساريين لتغيير نظام الحكم لأجل فتح البارات، والتفسخ، هو مجرد تدليس، وكذب صراح لا يقبله المتعقلون.
والدليل الأكبر على ذلك التلفيق أن هذا الحراك الثوري حرك عددا من الإسلاميين، وانتهازيي النظام للانضمام إليه، فضلا عن أن تجمع المهنيين الذي يقف خلف تنظيم التظاهرات يضم أحزاب الإجماع الوطني، وقوى نداء السودان، والتيارات الاتحادية. بل تدعمه كل منظمات المجتمع المدني الساعية لإنجاز دولة القانون، وكذلك الشباب الثائر الذي ينتمي لكل بيت شريف.
باختصار أن الذين يتظاهرون اليوم، ويدعمون الحراك، هم كل قطاعات الشعب السوداني ما عدا كل الإسلاميين المنضوين للسلطة. ولعل هذا التوافق القومي على شعارات الثورة الممثلة لكل أحلام، ومطالب، السودانيين هو ما جعل إسلاميي السلطة معزولين، ومرتعبين، عن مصيرهم حين تصل هذه التظاهرات لقمتها. وعندئذ يدرك المنقلبون أيان المصير.
إن دلالة كذب البشير بادعائه أن قتلة الدكتور هم جماعة عبد الواحد بسلاح لا وجود له في السودان أكدها مدير قواته الأمنية. فقال إن فتاة الشنطة أخرجت خرطوشا ثم أخذت الطبيب على حين غرة فأردته قتيلا. وبعيدا عن سؤال من نصدق، نقول إنه قد انكشف للناس كيف أن الكذب كان، وما يزال، خصلة أساسية في تفكير الاسلاموي، وبها يعرف تاريخ حركته. متى ما احتاج لها أضافها لخصلات أخرى قاتلة للمروءة، والشهامة، والرجولة.
ولكن كيف يتخلون عن الكذب الذي به استهلوا مسيرتهم نحو التمكين، وعبره ضللوا به عقولا سياسية كبيرة بينما ظلوا يخادعون العامة عند كل منعطف خطير.
لسنا بحاجة لإثبات أن العنف الدموي هو دائماً سبيل البشير وسدنته للحفاظ على سلطتهم الواهنة. إذ شهد العالم كله بانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد حتى جعلت رئيسها مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية. فقد ارتكبت سلطة البشير المجازر الدموية في دارفور، وبقية مناطق النزاع، ومناطق أخري، وكل هذا موثق، وبدلا عن محاسبة المسؤولين كافأتهم السلطة بالتوزير، وأحاطت بعضهم بالحصانات الدستورية.
ولو أن سلطة البشير قد نجحت في الإفلات عن عقوبة الإبادة الجماعية الأولى فإنها لن تفلت عن المحاسبة على إبادتها الثانية للشباب المتظاهرين من أجل تحرير البلاد من أسوأ نظام ديكتاتوري مر في تاريخها الحديث. ومهما طال ليل الاستبداد فإن ما بدأته جحافل المناضلين الداعمين للحراك الثوري سوف يكلل بالنصر. ولن تخيفهم تهديدات قوات قوش التي لا تعبر عن قدرة النظام لفت عضد الشباب الثوري، وإنما تعبر في الأساس عن رعب قادة النظام، وبقية الذين انحازوا لسلطة البطش.
إن كذب البشير، وكل قادة حربه ضد السودانيين، ليس سوى الإفلاس أتمه لعزلتهم وسط غالب اهل البلاد، وتقهقرهم في الأركان الاجتماعية الضيقة حيث عندها يواجهون الهتاف ضدهم. والكذب حتما لن يحقق للبشير، وقوش، والداعمين الإسلاميين، استقرارا لسلطتهم الواهية التي استنفدت قدراتها التلفيقية فيما انكشفت عارية بلا كياسة في السياسة، أو أخلاق عند الممارسة، أو مروءة أمام السودانيين.
لقد انبثقت تظاهرات ثورة ديسمبر ضد السلطة الاستبدادية للإسلاميين لتبقى حتى تحقق أهدافها. ويخطئ أهل النظام كثيرا لو حسبوا أنهم قد كسبوا الجولة بالكذب، والتلفيق، وتبديل الحقائق على الأرض. فالسلطات المستبدة مصيرها مزبلة التاريخ عاجلا أو آجلا. وغدا سيدرك قادة النظام، وسدنته، أن المتظاهرين العزل الذين خرجوا لإنهاء ثلاثة عقود من الظلم، والقهر، والحرب، سوف يهزمونهم ليقيموا دولة المواطنة التي تحقق كل أمنيات الشعب السوداني.