منذ السبيعينات و ان الارث الاستعماري في افريقيا بدا يتلاشي. وتحول الاعتمادات علي المساعدات الي مديونية بدا يقع في حفرتها دول تعتمد علي الاستدانة من اجل التنمية مثل كينيا، ساحل العاج، زامبيا، ومرة ثانية بدا التيار يتجه عكس ما تشتهية الدول الافريقية، خاصة في مجال أسعار المنتجات الاساسية بعدما حدثت التغيرات التكنولوجية الأساس المادي للرأسمالية الغربية. وعليه، فإن النحاس الأحمر، الذي يعد العمود الفقري لاقتصاد زامبيا الي حد بعيد جدا بدا في التراجع بشكل كبير بدءآ من عام 1974 فصاعدا. ومن هذه اللحظة بدأ التأثير السلبي للمعونات ان يظهر. وبدأ توازن القوي الدولية يتحول بعد ان انتهت الحرب الباردة في اواخر الثمانينات ففقدت افريقيا ميزة أساسية في مساومة الغرب.
وتحولت البلدان الغربية بسرعة بعد عام 1980 الي محاولة اجبار البلدان الافريقية علي تبني ما يسمي سياسات “التكيف الهيكلي” ان ارادت الحصول علي ايه قروض. و وضعت النظرية التي تقف وراء التكيف الهيكلي عبء التنمية الافريقية بالكامل علي كاهل الدولة. وكان ينظر الي دولة ما بعد رحيل الاستعمار علي انها دولة حكم الفرد الفاسدة و المهدرة للموارد “دولة النهب”. وكان من الضروري إغلاق المصانع او خصخصتها في حالة عدم تحقيق الربح. وكان الفلاحون بحاجة الي الحصول علي سعر عادي لمحاصيلهم الزراعية دون وساطة من الدولة. أما الخدمات الاجتماعية فأصبح من الضروري تقليصها حتي تستطيع الدولة الإنفاق عليها من مواردها. وان لم تستطيع الدولة ذلك تسند هذه الإنفاقات علي هذه الخدمات الي القطاع الأهلي غير الحكومي التي تشترط الدعم مُقَابِل مرهونا بما يسمي بالحكم الرشيد الذي كان يعني علي الأقل ظهور حريات للطبقة البرجوازية. وتبادل السلطة بين الاحزاب السياسية في ظل حكم القانون.
مما لاشك فيه أن سياسات التكيف الهيكلي قد فرضت الشروط الغربية علي الحياة السياسية الإفريقية. لأن في حفنة قليلة من الدول في القارة، علي رأسها غانا والسنغال، وصلت احزاب المعارضة الي السلطة بصورة دستورية من خلال عملية انتخابية نزيهة، وأضحي من النادر ان نري انقالابات عسكرية وهذا الشئ الإيجابي الوحيد في الموضوع من وجهة نظري، ولكن في تلك الدول لا يمكن القول أن الاحزاب السياسية سمح لها بالعيش والوصول الي السلطة، لأنها نادرا ما تتحدي أسس العلاقات الجديدة التي يفرضها الغرب، فهي في الواقع لا تقدم بديلا للأفكار السياسية والاقتصادية السائدة.
وفي الوقت نفسه تضطر الظروف الغرب الي التغاضي عن ظروف بعيدة كل البعد عن كونها مثالية في حالات اخري، فقد كانت الأنظمة المفضلة لكثير من البلدان الغربية هي تلك الأنظمة التي وصلت الي السلطة في اوغاندا. والقوي الغربية في تلك الفترة كانت تصور عودة السلام و النظام لجنوب اوغاندا بسبب الحكم الرشيد علي يد حكومة “يوري موسيفيني” التي أعقبت الديكتاتورية الوحشية ل “عيدي أمين” ، والحكومة المدنية الأكثر وحشية بقيادة “أوبوت” بعد عام 1981. وفي حين كان “موسيفيني” يعيد بناء اقتصاد بلده تحت توصيات الغرب فإنه لم يسمح بتنظيم انتخابات نزيهة تقوم علي التنافس بين الاحزاب السياسية حتي لا تصل هذه الاحزاب الي السلطة وتطيح به وبحكومته. وكانت ممارسات موسيفيني، ونظيره الرواندي “بول كاجامي” بداخل أراضي الكونغو، لا تتفق مع متطلبات منظمة الشفافية الدولية ومع ذلك كان هناك تراضي واسع بينهم وبين النخب الامريكية والاوروبية.
ولَم تنجح سياسات التكيف الهيكلي في اعادة الرخاء الي الريف الافريقي. فحين تعجز الدولة عن تشيد البنية الاساسية، أو تقوم بصيانتها، لا يهم كثيرا كيف يكون سعر المنتج الزراعي. كما عجز المزارع الافريقي عن الحصول علي دخل كريم لما يزرعه من محاصيل، وعن شراء ما يحتاج إليه. وإذا كان النموذج شبه الحكومي في التحول الصناعي المنطلق من قاعدة متدنية غير ناجح، فانه لا يلزم ان يكون التحول الاجتماعي والاقتصادي، الناشئ عن عجز الدولة عن التحول الصناعي، ناجحا تماما كاستراتيجية بديلة. فأفريقيا لا تستطيع ان تمضي قدما اذا ما أختزلت الي قارة تنتج علي اساس السوق الحرة المحاصيل نفسها التي كانت تنتجها قبل الاستقلال.
ونلاحظ ايضا بعد ما تقدم من المنظمات الغربية التي كانت تتدعي أن التكيف الهيكلي كان خطوة إضافية في أضعاف العلاقات مع القوي الاستعمارية السابقة، ولكن علي ارض الواقع فقد أثار ما يمكن ان نسميه أزمات الفوضي الشديدة في اجزاء معينة في افريقيا “الكونغو الديمقراطية، ليبريا ، سيراليون، غينيا ، الصومال”
الظروف الفعلية التي في ظلها تم تنفيذ برنامج التكيف الهيكيلي، لا تؤدي بشكل أصيل الي توسع إنتاج المحاصيل النقدية بالطريقة الاستعمارية القديمة؛ ذلك أن بعض أشكال التراكم التي كانت تجري في الحقبة الاستعمارية قد توارت. وبدلا من ذلك، يسعي الافارقة الي البحث عن نقد بطرق جديدة ومتنوعة فقد شهدت السنوات العشرون الاخيرة تدفقا عريض النطاق لافارفة يسعون الي تحقيق ثروات خارج المنطقة سواء في أوروبا او في امريكا. ومع ان خروجهم من القارة يمثل خسارة، فإنهم استطاعوا أن يكتسبوا مهارات و يحصلوا علي رؤس أموال ويعودوا بها الي افريقيا الولادة التي لا تتوقف عن الإنجاب. لكن الحقيقة أن أبناء القارة المهرة و المتعلمين قد هجروها وذهبوا الي البلاد الغربية فأفدوها اكثر مما افادوا أوطانهم.
واستخدمت الطريقة “المريدية” في السنغال مثالا لتكييف الهيكل الاجتماعي الأفريقي من أجل دعم اقتصاد المحاصيل النقدية الاستعمارية وتعزيزها. ففي ذروة محصول الفول السوداني، انتقل المزارعون السنغاليون الي ريف أقل ملاءمة لإنتاج السلعة التصديرية الاساسية لبلادهم لتصبح محصول البلاد الوحيد في الوقت الذي أصبحت فيه السنغال تعتمد واردتها الآسيوية من الأرز. وبعد عام 1980 رفضت القيادة الدينية الاستمرار في دعم هذه العملية. وبدلا من ذلك انتشر أفراد الطائفة في جميع أنحاء العالم : في البداية كانوا منتشرين في غرب افريقيا وفي باريس، والآن نجدهم في كل أنحاء أوروبا وأمريكا. وفي غيرها من الأماكن، وهم يستخدمون المزيد والمزيد من أنشطتهم التجارية المنتشرة لدعم زعماء طائفتهم. وفي السنغال جاء الكثيرون من أبناء الطائفة المريدية للاستقرار بشكل دائم في مدينة “توبة” المقدسة بعد ان هجروا حياة الريف معتمدين علي التجارة و علي عوائد ابنائهم من الخارج. ان دولة السنغال التي كانت تدعم في وقت من الأوقات بعض الصناعات الاستهلاكية بقوة، وكانت تعتبرها حصنا منيعا من حصون التحول الصناعي الذي تقوده الدولة، أصبحت الان واقعة تحت سيطرة عناصر تجارة السوق الحرة المهتمة بالواردات الرخيصة، لا بصناعة بدائل عن المستورد. وقد قال لي مؤخرا من احد الأصدقاء المفكرين السنغاليين : ” انه لأول مرة في حياته يسمح ان معاصريه يقبلون الرأسمالية في عالم العولمة، وان لديهم فكرة عّن كيفية التعايش معها، وأنهم مستعدون لأن يقدموا ثرواتهم الخاصة وثروات مجتمعهم في هذا الإطار، بدلا من البحث عن مخرج تاريخي لهذا الوضع” وهذه الكلمات كانت مأسوية الي. وهذا الوضع ليس قائم فقط في السنغال فالوضع لا يختلف كثيرا في القرن الافريقي.
تنتج الزراعة الافريقية في كثير من المناطق محاصيل اخذة في الضعف من اجل تصديرها الي أوروبا، ولكنها مندمجة بشكل متزايد في الانتاج للسوق المحلية. وتعتمد دولة ساحل العاج، التي يعيش 40 % من سكانها في المدن بعد ان هجروا الريف بشكل كبير، علي السلع الغذائية التي زرعت محليا لإطعام سكان عاصمة إيبدجان وغيرها من المدن. ويتم تسويق الزراعة المحلية بطرق كثيرة ومتعددة، وهذا بالضبط ما طلب به أنصار الرئيس “لوران غباغبو” الذي تكالبت عليه القوي الرأسمالية الغربية.
وبدأ السياق الديموغرافي في افريقيا أيضا في التغير بشكل درامي. فالزيادات السكانية، التي كانت عميقة جدا في جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت في التراجع بشكل كبير، خاصة خارج غرب افريقيا. وبعود السبب في هذا الي الموجة الكارثية من مرض الإيدز، ولكننا اذا اعطينا الإيدز حجما اكبر نكون قد تغافلنا الميل الحقيقي نحو إنجاب عدد اقل من الأطفال. اضافة الي ذلك، توقفت المدن الافريقية عن النمو بشكل درامي. فكثير من النمو الحالي يبدو وقد تحول الي المدن الكبري والصغري، مع هيمنة اقل من جانب العواصم التي تركز فيها الدول خدامتها. ومع ذلك، فان الجيل الحالي من الشباب قد يعيش ليري قارة يعيش فيها اكثر من نصف عدد السكان في مناطق حضرية وهو رقم تم الحفاظ عليه في جنوب افريقيا. وربما في زامبيا وأنجولا.
وعلي الرغم من الكتابات المفزعة عن محو افريقيا من وجه العالم الحديث والتي تؤيدها بعض الإحصاءات المرعبة التي ظهرت في الثمانينات. فان هناك أشكالا جديدة من الاندماج في نظام العولمة الجديدة .ذلك بشكل ملحوظ’ فالأرض الافريقية اذا ما وضعنا في الحسبان الأحوال المناخية وطبيعية التربة، تمثل احيانا أهمية متزايدة بالنسبة الي الاسواق الزراعية العالمية. فالزهور والفواكه والخضروات الافريقية تصدر بكميات كبيرة الي أوروبا. لكن الأحوال التي في ظلها يمكن بيع هذه المنتجات تتطلب رقابة وتدخلا ان لم يكن ملكية من جانب الشركات. وللمزارعين علاقة اكثر مباشرة بسيطرة رأس المال مما كانت في ذروة انتاج المحاصيل النقدية ايام الاستعمار، وكثير من المنتجين الآخذين في النمو إنما هم بقايا السكان المستوطنين البيض. وفي الوقت نفسه، وفي الجنوب الافريقي، فإن هناك أزمة دائمة في الأمن العذائي؛ وذلك نتيجة لان السلع التي تمثل مورد رزق لا تساوي إلا القليل نقدا؛ ولذا اصبح وجودها أقل مما كان في الماضي.
تعليق واحد
مقال وتحليل رائعان بالفعل