صلاح شعيب
ما تزال المعلومات الموثقة شحيحة عن محاولات الانقلابات الأربع، أو الخمس، التي أعلن المجلس العسكري عن قيام جهات بها. فبخلاف محاولة الانقلاب الأخيرة التي وضحت بعضا من معالمها فإن تعتيم الرأي العام دون الإلمام بمعرفة ما سبق من انقلابات هو السمة الأبرز في سياسة المعلنين عن هذه الانقلابات التي ووجهت بالفشل كما صُدِر إلينا.
وأيا يكن الإعلان عن الانقلاب القادم، أو الذي يليه قبل تكوين الحكومة المدنية، فإنه سواء فشل هذا، أو نجح ذاك، فهو لن يغير شيئا في المشهد المأزوم. فالقارئ بشكل جيد لعمق تجذر الحالة الثورية في نفوس السودانيين سيجد أن الانقلاب لن يعرقل السعي المثابر إلى نظام ديموقراطي يخرج من بين ثنايا تحديات الثورة الراهنة، والتي مهرت بالدماء، وصمود، وجسارة الأبدان.
وإذا كان الانقلاب على البشير بواسطة ابن عوف مصيره الفشل الحتمي، ثم تبخرت بعده أحلام انقلاب اللجنة الأمنية للبشير على ابن عوف نفسه، فما الذي يمكن أن يفعله أي انقلابيين جدد في ظل وعي الشعب السوداني بحقوقه، وفي ظل المعوقات الإقليمية، والدولية، لأي انقلاب سوداني، أو بورندي؟.
لاحظنا أن الإعلان عن تلك الانقلابات السابقة لا يتبعها إعلان عما جرى من محاكمة للمتهمين، أو تفاصيل مبوبة لماهية الانقلاب، وجملة شخوصه الحقيقيين، والمتسترين خلفه من تنظيمات، أو دول. إننا نفهم أن هناك إجراءات بيروقراطية تسبق إعلان نتيجة التحقيق. سوى أن هذا التعتيم المستمر، وإظهار المعلومات بالقطاعي، من ما يقدح في حقيقة بعض هذه الانقلابات. ذلك بالنظر إلى أن الشعب السوداني ابتلُي بتمثيليات سخيفة ظلت تعرض له طوال الثلاثين عاما الماضية، وكذلك خلال ما بعد هذه الفترة.
إذن فغياب المصداقية في تخريجات الممسكين بالسلطة المركزية هو ما يجعل الكثير من الناس لا يصدقون وجود محاولات انقلاب سواء أعلمتهم بحدوثه أم لا، وكذا لا يصدقون أية حبكات سياسية درامية أخرى. ومع ذلك فلنقل أن السلطة المسيطرة على البلاد صادقة إزاء حقيقة اكتشافها لهذه الانقلابات المتناسلة عند مستهل كل شهر، وأن الانقلاب الأخير كُشِف عن بعض من ذيوله. ولكن ما الذي حمل هؤلاء المغامرين بتكرار التجربة، والمثابرة في تعضيد هذه المحاولات حتى تنجح واحدة منها؟
-٢-
اعتقد أن الاستراتيجيات التي يعتمدها مستشارو البرهان، وحميدتي، تحديدا مسؤولة وحدها عن هشاشة الوضع الأمني الذي يغري بالتجريب الانقلابي. فالقائد السياسي لا ينهض بلا قواعد تسنده ناهيك عن الحاكم. ومما بدا بعد سيطرتهما على السلطة أنهما يحاولان من جهة أن يكونا ثوريين أكثر من المعتصمين سابقا أمام القيادة، ومن جهة ثانية يريدان تجيير بعض قواعد سياسية، وشعبية لنظام الحركة الإسلامية للاستقواء بها ضد الحرية والتغيير.
فمن خلال المشاهد التي سُرِبت عن استجواب قائد الانقلاب الأخير سمعنا رئيس هيئة الأركان السابق يؤكد لحميدتي، كما قيل، تواصله مع قادة الحركة الإسلامية، وذكر بعضا من أكابرهم أمثال كرتي، ونافع، والزبير، وود الجاز. وربما في تلك اللحظة أدرك حميدتي – ومعه البرهان – أن السياسة الناجحة ليست في ركوب السرجين، أو الفهلوة، واستعراض تاتشرات، وتهديد، ووعيد بجعل عمارات الخرطوم مليئة بالثعابين، والقطط في ظرف ثلاث ليال.
فقد استغل الانقلابي هاشم عبد المطلب ضعف البنية التي يستند عليها المجلس العسكري، وكذلك الأريحية التي يتمتع بها فلول النظام في ذات الوقت. وما كان له وتابعيه أن يفكروا في المحاولة الفاشلة لولا وجود براح فاعل للذين سيدعمون نجاحها لاحقا. فكوادر الحركة الإسلامية – كما كتبنا مرارا، وتكرارا – ما تزال تمسك بخيوط الدولة العميقة في المال، والإعلام، والأمن، والجيش. وكذلك ما يزال مجلس البرهان يتساهل معهم، ولم يصدر جملة قرارات مستحقة لشل قدراتهم إذا كان فعلا يؤمن بأن الثورة جاءت للتخلص من قواعد الحركة الإسلامية التي دمرت البلاد. بل ما يزال المجلس الضعيف في استراتيجيته السياسية يحمل عداء لقوى الحرية والتغيير بعد أن عادى الثوار، وحطم رمزية اعتصامهم بكثير من الدماء، ووضع هو المتاريس أمام الثورة لمنع تحقيق أهدافها الاساسية: حرية، سلام، وعدالة.
إن اعترافات عبد المطلب المعادي للثورة، والموظف عند الإسلاميين، ينبغي أن تعيد الروح والعقل معا للمجلس العسكري حتى يسلم السلطة بأسرع فرصة للمدنيين ليضطلعوا بالمسؤوليات الضخمة التي تنتظرهم، ومن ثم يحققوا قدرا من الاستقرار المعترف به اقليميا، ودوليا. ذلك حتى نقفل الباب أمام مطامع الانقلابين، وأصحاب الأجندة المحليين، والإقليميين، وهم الذين ينخرون الآن في جسد أمن البلاد ليحولوها إلى الصوملة.
-٣-
بصرف النظر عن اختراق الإسلاميين للمجلس العسكري بواسطة أحد أطرافهم المؤثرة في الجيش، والقريب جدا من البرهان، وحميدتي، لإنقاذهم من مصير قاتم، فإن انقلاب عبد المطلب لن يكون الأخير ما دام الاتفاق الذي وقعته قوى الحرية والتغيير مع المجلس العسكري قد حرمها من إعادة هيكلة الجيش وبقية القوات النظامية – على رأسها قوات جهاز الأمن.
وإذا كان عبد المطلب قد اعترف عبر التسجيل المسرب أنه ظل مجندا لصفوف الحركة الإسلامية منذ أن كان ملازما حتى وصل إلى قيادة هيئة الأركان المشتركة فالسؤال هو كم عدد الإسلاميين داخل الجيش من المجندين الذين أدوا القسم أمام مسؤولي التنظيم ليعملوا لصالحه لا صالح القوات المسلحة، أو الوطن؟
لا نعتقد أن حال البلاد سيستقيم ما لم تتم إعادة هيكلة المؤسسات النظامية جميعها حتى تتعافى، وتكون قادرة على حفظ السلم والدفاع عن البلاد. إذ إن اعترافات عبد المطلب تضعنا أمام حقيقة الإسلاميين المندسين الآن داخل كل أجهزة الدولة، ولكنهم – وفقا لفقه الضرورة -يظهرون خلاف ما يبطنون حتى إذا سنحت لهم الفرص ظهروا على حقيقتهم.
ونعتقد أن عمل الحكومة المدنية مع وجود المندسين الذين يدينون بشكل مطلق للحركة الإسلامية يهدد تنفيذ كل الأحلام والشعارات التي حملها الثوار، ما دام هناك خلايا نائمة للإسلاميين في كل مراكز الدولة وتعمل على استهداف استقرار البلاد، وإعادة إنتاج الإسلام السياسي بثوب جديد. ولذلك لا بد أن تكون فرصة التفاوض حول الإعلان الدستوري هي الأخيرة لقوى الحرية والتغيير للضغط على المجلس العسكري للاستجابة لكامل الشروط التي طرحها الثوار بأن تكون هناك سلطة مدنية حقيقية يكون لها تأثير حقيقي في إعادة بناء كل مؤسسات البلاد.. بلا أي استثناء.