الاتفاقيات الموقعة بين الحكومات السودانية المتعاقبة والحركات المتمردة لم تطبق تطبيقاً معقولاً يمكن أن نصفه بالمتجاوز لنسبة الخمسين بالمائة، اتفاقية اديس ابابا بين نميري وجوزيف لاقو صمدت عشر سنوات ثم اندلعت الحرب مرة أخرى وبصورة أكثر دموية وأمضى بشاعة، دخول رياك مشار عبر اتفاق الناصر الموقع بينه وبين الزبير محمد صالح لم يلبث طويلاً حتى التحق الأول بقرنق بعد أن انشق عنه، أما الاتفاقية الأشمل التي توصلت اليها حكومة حزب المؤتمر الوطني المحلول مع الحركة الشعبية الأم وقائدها جون قرنق ديمابيور، فشلت في تحقيق الوحدة الجاذبة فانفصل الجنوب، اتفاق ابوجا بين الدكتاتور ومساعده الكبير لم يوقف الحرب في دارفور ولم يعالج قضية النازحين واللاجئين وكذا اتفاق التجاني سيسي مع الطاغية، وبين ظهرانينا اتفاقية جوبا المهددة بالانهيار نتيجة لذات الأسباب التي افشلت صويحباتها،يشكو احد طرفيها من عدم تنفيذ بند الترتيبات الامنية، واتفاق ثاني بين الحلو وكباشي على الطريق السريع وربما يعقبه اتفاق آخر يجر عبد الواحد الى حلبة هذا الصراع الذي لا ينتهي في الخرطوم، ماذا وراء الاخفاقات المتتابعة لاتفاقيات السلام السودانية المنعقدة بين الحركات المتمردة والحكومات المركزية على مر تاريخ الدولة السودانية الحديثة؟.
الحقيقة الأولى التي لا تخفى على المراقب لسيرورة الحكومات المركزية المتناسلة من بعضها البعض، هي أن هذه الحكومات ومعها التمردات لا تولي أية قدسية للوثائق والدساتير المبذولة بتوافقاتوتفاهمات الفرقاء السياسيين والعسكريين، وأن الفجور والتربص والخصومة والغدر والخيانة بين هذه الحكومات وتلك التمردات كلها خصائص ملازمة للحراك السياسي بين هذه المكونات، فالمفهوم الحكومي المركزي منذ عهد عبود الى حقبة البرهان لم يتغير تجاه المواطنين الذين يرفعون البندقية في وجه السلطة المركزية مطالبين بالأنعتاق، ودائماً ترضخ الانظمة الحاكمة لضغط القوى الكبرى حتى تقر وتستجيب وتمثل أمام طاولة التفاوض مع المتمردين، لكن يظل ما في القلب في القلب ولاتطيب النفوس بين الاطراف، ذات القلب المملوء بالتشكك وعدم المصداقية والتربص والبحث عن الذرائع تجده ايضاً ماكث في وجدان المتمردين، فهذه الاتفاقيات المبرمة بين الخرطوم من طرف وجوبا والفاشر وجبال النوبة والانقسنا وكسلا وبورتسودان كاطراف اخرى ، لم تأت بدفع وطني صادق لعجلة الدولة لتتجاوز محطة الخوف من الآخر كي تحقق الشراكة الحقيقية في السلطة والثروة بين المتمرد والحاكم.
جميع اتفايات السلام من اديس ابابا الى جوبا تتضمن محتوى نظري جميل، يمكن أن يفضي الى واقع أجمل اذا حسنت النوايا وصدقت المقاصد، لكن كيف يحدث ذلك والكل يحمل في كنانته ما يحمل من سهام النوايا المعاكسة والمتوعّدة التي تظهر خلاف ما تبطن، ففي كل مرة يتم فيها توقيع اتفاق للسلام تندلع الاختلافات ويرشق الشركاء بعضهم بعضا بالاتهام بالتلكؤ، ويتلاومونبالتقصير وعدم الجدية في تطبيق بنود الاتفاق الذي هلل وصفق له ذات الشركاء، في هذا الخضم يقفز الى الذهن سؤال عارض: ماذنب الكادحين والبؤساء الواردة اوصافهم في تفاصيل نصوص هذه الاتفاقيات؟ متى ياتيهم حصاد حرثهم وصيرهم على المكاره؟، هل هكذا تورد الأبل يا ايها المتمردون الموكول اليكم قضيتهم العادلة بأن تنتهي مهمتكم بالحصول على الوظائف العليا؟، لقد قاتل العقيد جون قرنق عشرون عاماً من أجل وحدة رومانسية لوطن مزعوم ومرسوم في خيال الطيبين، وفي آخر مطاف ثورته الشعبية انقسمت البلاد وتجزأت اجزاؤها ولم تعد كل ارجاءها لنا وطن، فمادامت هذه هي النتائج المرجوة من موت ملايين السكان في الاطراف البعيدة لماذا نرهق العزم ونبذل الجهد؟، ولماذا لا نوقف سيل الدم المنجرف بالعودة لخارطة العهد القديم (سنار –المسبعات – دارفور – البجا)؟.
لكن على الرغم من أن الأصوات النخبوية المنادية بالتقسيم قد ارتفع صياحها وعويلها هذه الأيام، الا أنه في المقابل كثرت وازدادت حدّة تلك الأصوات الأخرى المتمسكة بالوحدة، وحجتها أنها قدمت قرابين من الدماء والدموع والأجيال والآجال لا يمكنها التنازل عنها ولا المساومة عليها، وطالب الوحدويون اشقائهم الانفصاليين الجدد بتقديم المهر المستحق إن أرادوا الانفصال والتقسيم، وشدد الكثيرون من المتمسكين بالوحدة على حتمية المواجهة مع كل من تسول له نفسه (العبث بوحدة الارض) الشعار الذي كان يرفعه الانفصاليون الجدد عندما كانوا وحدويين حتى النخاع في الماضي القريب، حينما كانت الأمور غير الأمور والأحوال ليست الأحوال والظروف لا تشبه هذه الظروف الآنية، فاليوم اتضحت الرؤية وتبينت الحقيقة بظهور بوادر وارهاصات معركة فاصلة تضع حداًلجدلية المقولة التاريخية المنقولة – السودان الوطن الواحد ما قد كان وما سيكون، فهل ينجح الوحدويون الجدد فيما فشل فيه الوحدوي القديم الدكتور جون؟، وهل يمتلكون آلية أخرى توفرت لهم ولم تتوفر لرائد مشروع السودان الجديد يمكن لهذه الآلية أن تصنع لنا هذه الوحدة الحلم؟.
اسماعيل عبد الله
4 يونيو 2021