الاتفاقيات المبرمة بين الحكومات السودانية البائدة والقائمة والحركات المسلحة السابقة واللاحقة، تقوم على مبدأ القسمة السلطوية بين الجانبين ولا عزاء للمواطن القابض على جمر القضية، فلم تقم أي اتفاقية بطرح الحصص المقدمة باسم الاقليم للعامة وانما يتم حصرها على الدوام بين خاصة الخاصة، وباعتبار أن وزارات المالية والمعادن والتجارة والمقاعد الثلاثة بالمجلس السيادي من نصيب الشعوب المهمشة، كان يجب تقسيمها بعد التشاور مع هذه الشعوب صاحبة القضية، ممثلة في النازحين واللاجئين والحركة الطلابية المقاومة والناشطين ورموز المجتمع ورجالات الادارة الاهلية الذين قدموا تضحيات عظيمة اودت بحياة بعضهم، فليس السياسيون وحدهم من يستحقون الحصول على هذه الحقائب والحصص الدستورية، واذا كان الأمر كذلك فلن يكون بالمستطاع معالجة جذور الأزمة وحلحلة المشكل من أساسه، بحسبان أن التنظيم السياسي (الثوري المسلح) عندما يكون وسيلة لكسب العيش تفقد القضية طعمها، ولا يتذوقها البائس المرفوع اسمه شعاراً لعبور (جزم) الساسة فوق رأسه للقصور، لتعود الساقية لدورتها من جديد وليطفو الى السطح المناضلون المسلحون الطرواديون الجدد.
حادثتان تعبران عن البؤس المصاحب لسلوك قادة التنظيمات المسلحة الداخلة للسلام، أولها الملابسات التي دارت حول اختيار من يشغل وزارة الشئون الاجتماعية، الحقيبة الدستورة الواقعة في كيس نصيب حركة العدل والمساواة، كان مشهداً داعياً للاحباط والسخرية أن تنتهي قضية الشهداء الثلاثمائة ونيف بهذه العملية التكالبية، ذلك السيناريو قدم الكفاح المسلح في اوضح صورة للعملالانتهازي الكبير الذي سعى له أهله سعياً حثيثاً ومشياً علىجماجم الشهداء لكي يحظوا بفتات الوظائف، أما الحادثة الثانية فهي ردود الأفعال تجاه قرار تعيين حاكم الأقليم الذي وصفه كثيرون بأنه اختيار لشخص غير جدير بهذا الأستحقاق الذي يخص سكان اقليم بمساحة تعادل ضعفي الأرض الفرنسية، ومعلوم مدى التذمر في الأوساط الأجتماعية التي يعود اليها أصل الرجل المحفوظ في ذاكرة الناس هنالك بأنه القائد العسكري الذي أقدمجنوده على قتل المواطنين ورجالات الادارات الأهلية في أقصى جنوب وشمال دارفور، هاتان الحادثتان جعلت قرون استشعار السكان تصحو وتقفز من جبينها لتنعش الذاكرة بأن الاتفاقيات السابقة لم تكن بائسة من حيث النظرية وإنما هدمها التكالب الجهوي والقبلي الضيّق عند التطبيق.
الصخرة الصماء القاسية المخيفة والمرعبة للناطقين نيابة عن المهمشين هي النازحين، عندما زار زعيم العدل والمساواة الجنينة وتناول في حديثه موضوع الأرض، اندلعت حرب أهلية لم تبقي ولم تذر بمجرد أن أقلعت طائرته من مطار حاضرة الولاية الغربية، بعدها فضّل الزعيم التجوال حول مسيد المتصوفة المتمركز في مركز الأزمة الوطنية منذ الأستقلال، وكذلك فعل الحاكم المعيّن الجديد بزياراته المتكررة لمشيخات الطرق الصوفية الموجودة داخل دائرة المركز الذي همّش الهامش، ولم يقم بزيارة ارض المحرقة التي صال وجال فيها منذ نعومة الأظفار، هكذا هي انتكاسات الأبناء غير البررة الناشدين للحكم بأي وسيلة كانت ولو أن هذه الوسيلة عبرتفوق جماجم البؤساء والفقراء والمحرومين، فالأزمات بأرض الممالك القديمة لا تحل بالجزئيات وترك الكليات، فالتاريخ الموروث هنالك يخبرنا بأقصوصة الملك (كسفروك)، الذي هزمت سطوته وجبروته إمرأة عجوز بأن أقنعته بامتطاء صهوة حيوان التيتل البري المتوحش، الذي فرّق دمه بين تسعة وتسعين قرية بعد أن أهلك هذا السلطان الجائر المئات من الناس تحت قاعدة جبل (أم كردوس) شرقي نيالا.
المثل الدارفوري يقول: (تيس ما بعرف راسو طاعم الا في كلول)، ما يعني أن الانسان لا يتحسس الخطأ الجسيم والورطة العظيمة الا بعد أن يقع ويتورط فيها، فارض الحكمة والأمثال الشعبية اخضعت كل الحكّام القادمين من الخرطوم لسياقات موروثها الحضاري، وهي ما جعلت رجل الانقاذ القوي يتعلم منها الكثير حتى أطلق اسم (تاجة) على كريمته المولودة في ديار السلطان علي دينار بفاشر السلطان، تيمناً بالميرم تاجة شقيقة السلطان، وهي (كنداكة) بأرض الحضارات العريقة المخيّبة لظن ذات الحاكم عندما ظن أن الموروث الثقافي في زواج الحاكم من عامة الرعية ينطلق من ذات الخلفية الثقافية لهذا الحاكم الغريب، وعلى ذلك فليقلب المقاييس كل من يريد أن يصبح علماً مركوزاً على قمة هرم السلطنة، وبهذه المناسبة يحكى أن أحد ولاة الفاشر في أواخر سنوات عهد الدكتاتور سولت له نفسه أن أطلق عليها لقب (سلطان)، حتى فاجأه أحد احفاد آخر السلاطين بقوله (السلطان لا يُنصّب سياسياً بل يولد أباً عن جد عن جد)، فيبدوا أن الدروس التي ستلقنها فاشر السلطان للحكام والولاة الجدد المتناسلين من رحم المحاصصات كثيرة لاتنتهي بحادثة ذلك الوالي الذي ظن نفسه أنه (الملك).
اسماعيل عبد الله