السودان وعبر تاريخه الحديث مر بمراحل عديدة من نظم الادارة، ابتداءً بقانون الحكم المحلي للعام 1951 م الذي اعتمد نظام المديريات كمستوى ثان للحكم والمجالس المحلية بالمستوى الثالث، والذي اعقبه نظام الحكم الشعبي المحلي عام 1971 م، ثم تلاه الحكم الذاتي للمديريات الجنوبية في سنة 1972 م بعد التوقيع على اتفاقية اديس ابابا، بين حركة التمرد الجنوبية وحكومة مايوالتي منحت المديريات الجنوبية الثلاث الحكم الذاتي، وما أن جاء العام 1980 م حتى قام النظام الحاكم بتطبيق منهاج الحكم الاقليمي الذي كان القشة القاصمة لبعير اتفاقية اديس ابابا،والممهدة لاندلاع تمرد جديد قاده ضابط في الجيش السوداني برتبة العقيد بعد ثلاث سنوات، وفي العام 1981 م انتفض شعب دارفور رافضاً تعيين حاكم للأقليم من غير ابنائه، فكانت تلكالتخبطات الادارية والتحولات المفاجئة في القرارات واحدة من جملة الأسباب التي ادت لاسقاط نظام مايو، ثم جاءت الهزّة الأكبر في عهد نظام الثلاثين من يونيو الذي حاول تبنى طريقة الحكم الاتحادي (الفدرالي) فقسّم السودان لـــ 26 ولاية، خلال هذه الرحلةالطويلة من التقلبات والتبدلات في أنظمة الحكم وطرائق الادارة، لم يجن المواطنون السودانيون غير التمردات العسكرية والحروب الأهلية وانفصال ذلك الجزء العزيز من وطنهم.
الاخفاقات المصاحبة لهذه التجارب غير المستطيعة على وضع نظام اداري يتناسب والحالة السودانية الفريدة، يجب أن تكون حافزاً لعدم البت في أمر كيفية حكم السودان الآن في هذه المرحلة المؤقتة، وارجاء الأمر لما بعد انتخاب حكومة الشعب ذات البرلمان الشامل لطيف المجتمعات العديدة، بعد انقضاء أجل الحكام المؤقتين المكلفين الذين ينحصر دورهم في ازالة تمكين النظام البائد وتسهيل عملية الانتقال، فالتوافق والاجماع الشعبي المعقول هو المشرعن الأوحد لعملية الوصول الى الصيغة النهائية لاختيار وتحديد نظام الحكم، هذه المهمة يجب أن لا توكل لأي لجنة مهما كانت عليا أم دنيا، لقد انجرفت مياه غزيرة تحت الجسور ولم تعد الشعوب السودانية بولاياتها واقاليمها ومدنها واريافها، تلك الكتل السكانية القابلة لأن تصبح فئران للتجارب أوحقول لزراعة الفوم والبصل والعدس، فليُترك الأمر كما هو عليه حتى اكتمال انتقال أمانة التكليف الى اصحاب الحق المشروع المسنود بصندوق الانتخاب، ولا قدسية لأي اتفاق مبرم بين هذه التنظيمات والأحزاب التي لا يدري أحد حجم شعبيتها على الأرض، حتى لا يأتي دكتاتور آخر يمزق كتاب السلام كما مزق الزعيم المايوي كتيب أديس اباب.
عندما منح نظام مايو الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية وترك الجزء الشمالي على ذات نمط الحكم الشعبي المحلي، وصف المهتمون بالقانون الدستوري الحالة السودانية بأنها الأكثر غرابة، وذات الأندهاشة تكررت بعد اتفاق السلام الشامل المبرم بين حكومة حزب المؤتمر الوطني المحلول والحركة الشعبية لتحرير السودان – الموحّدة، عندما قام القانوني والنائب الأول للدكتاتور بمنح الحركة الشعبية حكماً ذاتياً كامل الدسم سيطرت به على جنوب السودان، واشركها بالمناصفة الكاملة في حكم الشق الشمالي، ضارباً بعرض الحائط الفاعلين السياسيين في غرب ووسط وشرق وشمال البلاد، وكانت النتيجة المحبطة بعد سنوات الانتقال الست هي ذهاب السودان الجنوبي الى غير رجعة، وإني أرى أن العطب الملازم لعقلية الساسة في بلادنا مازال متمظهراً في سلوكهم الفطيرالباذر لبذور التشظي والأنقسام والتباعد الوطني، فهذه هي اتفاقية سلام جوبا ذات المضمون النبيل تفرغ من محتواها ليجهز عليها القبائليون والاثنيون ليحصروا مغانمها في الكادر النخبوي القادم من الشق الشمالي للأقليم، فاذا القيت نظرة فاحصة على اجراءات تنسيب المستحقين لحقائب مجالس السيادي والوزراء والشركاء، ترى بكل وضوح استحواذ نخبة شمال الاقليم علىالكيكة، ولا عزاء للصفوة القادمة من جنوب الاقليم.
هذه الحكومة المؤقتة لها مهام حصرية، تتمحور حول ترتيبات كنس آثار نظام الثلاثين من يونيو، ومحاكمة رموزه واسترداد المال المنهوب وتحقيق السلام، وتهيئة الجو الصحي للانتقال الآمن والسلسل نحو الأنتخابات العامة ليقول فيها الشعب كلمته، وليس من حقها البت في القضايا المصيرية المتروكة لصميم عمل الأجهزة المنتخبة شعبياً ورسمياً صاحبة المشروعية الحقيقية، فاختيار الطريقة المثلى للنظام المحدد لكيفية حكم السودان، لايجب أن يتم بقرار سياسي فوقي من لجنة صغيرة مكونة من بعض الفاعلين السياسيين الحاضنين لمنظومة الانتقال – قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية، ولنا في التجارب السابقة وقفة متساءلة: لماذا غادر رئيس مجلس تنسيق الولايات الجنوبية والتحق بمفاوضات نيفاشاابان فترة حكم الدكتاتور؟ وماذا استفدنا من تجربتي السلطتين الاقليميتين لدارفور – (1) ابوجا (2) الدوحة؟، إنّ المؤتمر المعني بصياغة نظام ادارة وحكم البلاد لا يمكن أن يأتي بثمار ناضجة،مالم يقام تحت ظلال رواكيب الحكومة الديمقراطية المنتخبة، وأخيراً،ماهي الدوافع التي جعلت الراحل الأستاذ احمد ابراهيم دريج حاكم اقليم دارفور في عهد مايو يغادر ارض الوطن؟ وهو الحاكم الأوحد من بين حكام الأقاليم الذي حكم الاقليم نزولاً عند رغبة شعبهآنذاك؟.
اسماعيل عبد الله
26 ابريل 2021