إنّ الجريمة البشعة التي ارتكبها منسوبو الأجهزة القمعية لنظام البشير , بحق المعلم (أحمد الخير عوض الكريم) , أعادت إلى الذاكرة مسمار الجبهة الاسلامية المسموم , الذي غرسته في رأس الشهيد علي فضل الرئيس الشرعي لنقابة أطباء السودان , ذات الملامح المحزنة والمبكية و المؤلمة , تكررت في الأيام و الليالي الحالكات الثلاث الماضية , على جسد أستاذ أجيال (خشم القربة) , الذي كشف جريمة تزوير عصابة المؤتمر الوطني لانتخابات نقابة المعلمين بمنطقته , قبل عام , بناء على ذلك جاءت الأسباب واضحة وبينة ومدينة لنظام القهر و الجبروت , في محاولته اليائسة لإسكات صوت الحق بإغتيال المعلم (أحمد) , و انجلت الدوافع الحقيقية لأتباع النظام في إحداثهم لهذه المأساة الإنسانية , التي ارتعدت لها الفرائض و شاب من هول فظاعتها الولدان , و السؤال البديهي و التلقائي الذي يجب أن يصدر من كل انسان شريف سوي هو : ما الذي جناه هذا المعلم حتى يلقى هذا الجزاء القاهر , ولماذا وقع عليه ذلك التعدي السافر والظالم المجحف ؟ , ألهذه الدرجة يقوم الذين جاؤونا متاجرين بآيات المصحف الشريف ببث سموم الكراهية والبغضاء , تجاه المعلمين و المدرسين الأنقياء حملة مشاعل النور , الذين يؤدون رسالة الأنبياء الكرام الذين يقف على رأس قائمتهم , رسولنا رسول الإنسانية جمعاء محمد بن عبد الله (ص) , الذي أول ما افتتح به رب العباد كلامه معه ابتدره بكلمة (إقرأ) , ماذا يريد أهل المؤتمر الوطني أن يفعلوا بركائز المجتمع ودعاماته الأساسية , ألا وهم المعلمون المحترقون شموعاً من أجل التنوير ومحاربة الظلام , والذين يعتبرون بمثابة الأعمدة الراسخة التي تقوم عليها حياة الانسان , وتتحقق بها قيمة وجود هذا الانسان كابن لآدم مميز عن قطيع الحيوان , لا يوجد تفسير لحال هؤلاء الانقاذيين وهم ينحرون ويذبحون المعلم ناشر النور في ارجاء الكون , إلا مدلول ومعنى عجز بيت شعر للإمام علي بن أبي طالب , يقول فيه (و الجاهلون لأهل العلم أعداء) , فمنظومة البشير إغتالت الطبيب و المعلم و المهندس و الطالب و المزارع , فماذا ترجو من سكان السودان غير رفعهم لشعار (تسقط بس) , و ماذا تنتظر سوى خروجهم إلى الشوارع و الميادين حاملين لأرواحهم على أكفهم , وغير مبالين برصاص القناصة ولا اقتحام الملثمين لهم في بيوتهم , فمقتل هذا المعلم هو إطفاء لشمعة مضيئة من شموع الحق والعلم و النور , و إصرار عنيد من نظام البشير على استمراء العيش في غياهب جب الظلام.
لقد صاحبت مثل هذه الجرائم النكراء القذرة و الشنيعة , روح تشفٍ و غلٍ اجتاحت نفوس مرتكبيها , يحار معها الانسان القويم سلوكاً في مثل هؤلاء الأشخاص , الذين يقومون بكل هذا العار و يمارسون ألواناً من القبح في سبيل نيل رضاء الحاكم الظالم , الذي حرمهم أبسط حقوقهم و وقف أمامهم سداً منيعاً حتى لا يحيون ولا يعيشون حياةً كريمة يستحقونها , كيف لمن عرف فضل المعلم الذي كان سبباً في تأهيل الطبيب والمهندس ورجل الدولة , أن تراوده نفسه في أن يخرق بخازوقه المسموم جسد هذا الرسول !! , من منا لم يستحضر جميع من وقفوا أمامه وأمام السبورة , ممسكين بالطباشيرة يلقنونه الحرف تلو الحرف طيلة مراحله التعليمية , عندما ورد الخبر الأليم حول تعذيب و إغتيال المعلم (أحمد) , في ذات الوقت الذي يتهيأ فيه الشعب السوداني لطي آخر ملفات حكم الطاغوت , فربما تكون تضحية شهيد العلم والنور هي آخر القرابين المقدمة من الشعب السوداني لزوال الطغمة الفاسدة , وانقشاع الظلام الذي أرخى سدوله بفعل هذه العصبة الباطشة , فقد زادت هذه الفعلة الغادرة و الجبانة من لهيب واحمرار جذوة الثورة , في وجدان المنتفضين وداخل قلوب الثوار صغيرهم و كبيرهم , و ما إضراب وتوقف بعض المعلمين الشرفاء من ابناء هذه الارض الطيبة عن العمل , في هذا اليوم الذي تلى هذا الحدث الكارثي الجلل والمأساوي , حداداً على إزهاق روح زميلهم الشهيد ما هو إلا واحدة من الرسائل العظيمة , التي لن يستوعبها فرعون بلادنا إلا وهو هارب ومطارد بين خيران ومجاري الصرف الصحي , من قبل التلاميذ و الطلبة الذين قدمهم هؤلاء المعلمون للحياة , إنهم المعلمين الذين ذهبت أرواحهم الطاهرة فداءً للقضية الكلية , و أصبحت مهراً يضاف إلى المهور الأخرى الممهورة بدماء شهداء هبتي سبتمبر و ديسمبر العزيزتين.
لو يعلم الناس أن شريحة المعلمين في جمهورية السودان , هي من أكثر مكونات المجتمع تعرضاً للظلم و القهر و الاستباحة و هضم الحقوق و ابتسار القيمة , فقد صبروا على استهتار الحاكم حينما وضعهم في ذيل قائمة ذوي المرتبات الضعيفة والزهيدة , حتى أصبح الجندي الملائشي المرتزق الجاهل و القاتل المأجور , يتقاضى راتباً شهرياً كبيراً يساوي أضعاف ما ترمي به عليهم دويلة الفساد و الاستبداد , من فتات موائدها الطافحة بالدرهم والدينار و الدولار في نهاية كل شهر , بل ذهبت منظومة الحكم البشيري الجائر إلى أبعد من ذلك , بأن أهملت مرافق التصريف الصحي بالمدارس , حتى أدى هذا التقاعس في عدم ترميم هذه المرافق , إلى موت معلمة من المعلمات النابهات بإحدى المدارس في مدينة الثورة بأم درمان , نتيجة لانهيار بئر دورة المياه تحت قدميها أثناء اليوم الدراسي , بينما كانت تؤدي واجبها الرسالي وتقوم بدورها التنويري في تغذية عقول الطلاب بالقيم الفاضلة , وفي نهايات حكم سيئة الذكر الانقاذ , أتتنا بما لم يأت به الأولون و لا الآخرون , وهو إجلاس حملة مشاعل العلم و النور على الخوازيق , كآخر إبداع وابتكار من ابتكارات نظام كهنة إخوان الشيطان , في قهر وإذلال فئة القديسين و المعلمين , هؤلاء الأخيار الذين يتقاضون أعلى الأجور في كوكب اليابان , البلد الذي تقدم إقتصادياً و صناعياً و علمياً و إنسانياً , عندما منح المعلم ما استحقه , من واجب أخلاقي و إنساني ومادي من قبل الدولة والمجتمع على حد سواء , ماذا سيقول عنا سكان هذا الكوكب الياباني إذا علموا بأننا نغتال المعلم عمداً بإجلاسه على الحديد الصلب والمدبب , ذات الحديد الذي يصنعون منه سيارات التويوتا ؟ , حتماً سينكسون أعلامهم شهراً كاملاً و سوف يرتدون الأسود من الثياب , حداداً على روح المعلم (أحمد) التي أزهقت , تحت وطأة وطعن الخازوق المدبب والقاسي المصنوع من هذا الحديد.
ختاماً نترحم على روح الشهيد (أحمد الخير عوض الكريم) حامل لواء الاستنارة و التوعية , وربنا يجعله في الجنات العلى مع الصديقين و الشهداء و الصالحين , و يلهم أسرته المكلومة الصبر و العزاء الحسن , و يجعل طفلته اليافعة منارة من منارات الخير و الجمال في الحياة الكريمة القادمة , فقد أصبح أبوها أيقونة من أيقونات النضال السوداني الكبير , و أدى دوره كما وجب عليه ان يؤديه كمعلم مبجل واعي بدوره وبمتطلبات المرحلة , فنال شرف مقاومة الجبروت و الطغيان المقاومة الصادقة و المصادمة الجسورة , التي وضعت مدماكاً سميكاً في إرث النضال الوطني , والذي سوف يقوم عليه بنيان دولة القانون , و تؤسس عليه منظومة العدالة الاجتماعية و المواطنة التي لا يظلم فيها أحد.
إسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com