عمر الدقير
رئيس حزب المؤتمر السودانى
١٦ سبتمبر ٢٠١٧م
الأصل في المجتمعات هو التنوع والتعدد، ويكاد لا يوجد في دول العالم كلها مجتمع ينحدر من منبت اجتماعي واحد أو يقتصر على لون ثقافي واحد. وحتى في المجتمعات التي حققت قدراً من الانصهار الاجتماعي والثقافي يبقى التعدد في الرؤى والأفكار شرطاً لحيويتها ومرتكزاً لتطورها.
في المجتمعات السَّوية تتحول الدولة إلى ضابط إيقاع لحركة المجتمع وناظمٍ لتعايش مُكوِّناته المختلفة وضامنٍ لانسجامها وتماسك نسيجها، استناداً إلى مبادئ المواطنة المتساوية والعدالة والكرامة الانسانية وقبول الآخر والاعتراف بحقه في الحضور والمشاركة في صياغة المصير الوطني عبر الحوار الحر المتكافئ الذي يُفضي إلى التوافق حول الفكرة الأرشد والسلوك الأقوم .. والوصفة المجربة لتحقيق ذلك هي اعتماد الديموقراطية، غير المزيفة أو المختزلة في بعدها الإجرائي، نظاماً للحكم .. فالديموقراطية، من خلال مؤسسات التمثيل التشريعية والرقابية والقضاء المستقل والإعلام الحر والمجتمع المدني الفاعل، توفِّر ساحات ومنابر يرتضيها الجميع لصراع الرؤى والأفكار والمصالح وتأمين تعايش مُكوِّنات المجتمع برُشْد إدارة تنوعها وحسم تناقضاتها ونزاعاتها بصورة عادلة ومتوازنة تراعي مصالح مختلف هذه المُكوِّنات وتحترم خصوصياتها.
وفقاً لأوكتافيو باز، فإنَّ “الديمقراطية ليست هي المطلق، وليست تصوراً مستقبلياً نهائياً، ولكنها منهجية تسمح للناس بأن يعيشوا معاً بطريقة متحضرة”، وهي بالفعل ليست كمالاً مطلقاً خالٍ من أوجه القصور في بعض الحالات .. فقد يحدث، خصوصاً في المجتمعات حديثة العهد بالديموقراطية أو تلك التي ترتفع فيها نسبة الأمية أو تقلُّ فيها عناصر التنوير والحداثة، أن تؤدِّي نتائج العملية الانتخابية إلى هيمنة قوىً معادية للديموقراطية على مقاليد السلطة السياسية أو أن تكون هذه النتائج تعبيراً عن الهُويَّات الفرعية، كالطائفية والقبلية والجهوية، أكثر من كونها تعبيراً عن فكرة المواطنة تحت سقف الوطن الواحد .. وقد يحدث، كما قال جان جاك روسو، أن يتغرَّب الناخب عن صوته وأن يقوده تصديق الشعارات والوعود التي تصكُّ أذنيه خلال الحملات الإنتخابية إلى خيارٍ ليس هو الأفضل .. لكن يظل الحل في التمسك بالديموقراطية والصَّبر عليها حتى تستكمل نصابها وتتجذر في تربة الواقع، فليس شرطاً أن تولد الديموقراطية بأسنانها أو أن تبلغ رشدها بين يومٍ وليلة، وهي ليست مجرد وصفة يمكن لمن يحصل عليه أن يستحضرها على الفور ولا يمكن استصدارها بقرار، بل هي عملية تفاعل مجتمعي وتطور تراكمي وبناء مستمر تمتلك آليات التخلص من العيوب والنواقص واستدراك أخطاء الاختيار والسعي الدائم لتجويد الممارسة.
تُعَدُّ السلطة السياسية في أي مجتمع، في معنىً من معانيها، تعبيراً عن صراع تناقضات مكوِّنات ذلك المجتمع وتوازناتها .. وإذ تُثبِّت الديموقراطية وظيفة الدولة كناظم رشيد لحركة المجتمع وتحفظ موقعها على مسافة واحدة من جميع مكوناته، فإنها تُبقي على مقاليد السلطة كمتغير تتحكم فيه إرادة الناخبين، ولكنها تضمن في الوقت نفسه تقييد أيٍ من مؤسسات هذه السلطة ولَجْم تجاوزاتها وتصحيح مسارها، إن حادتْ عن مبادئ الديموقراطية أو جنحتْ نحو الاستبداد، عبر قاعدة فصل السلطات وسيادة حكم القانون ووجود المجتمع المدني المسنود بآليات النقد والمراجعة والمساءلة والمحاسبة والمُتاح له حرية استخدام مختلف أساليب الضغط والمعارضة السلمية .. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ الحراك الإنساني الحر الذي يوفره الجو الديموقراطي سينتصر حتماً، بمرور الزمن، لدعوات التنوير ونشر الثقافة الديموقراطية وبثِّ الوعي في شرايين المجتمع وترسيخ فكرة المواطنة كهُويَّة جامعة وعابرة للهُويَّات الفرعية، بينما يوفر صندوق الاقتراع الذي يُحْتَكَم إليه دورياً فرصة البحث الدائم عن أفضل الخيارات والدفع لمواقع المسؤولية بأكفأ الأشخاص وأكثرهم صدقية وأشدِّهم برَّاً باليمين الدستورية وأرهفهم سمعاً لأصوات الناس.
من ناحيةٍ أخرى، فإنه لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق نصراً حاسماً في المعركة ضد الاستبداد، لصالح الديموقراطية، إذا تم الإكتفاء بالنظر للبعد السياسي لظاهرة الاستبداد – أي بِعَزْوِهِ إلى قيام فئةٍ ما باحتكار السلطة بالقوة والهيمنة بها على مقاليد الأمور في كل فضاءات الواقع بعد قمع الآخرين وإقصائهم – دون استصحاب الأبعاد الاجتماعية والثقافية للظاهرة، إذ أنَّ الحاضنة الرئيسية للديموقراطية هي الثقافة المجتمعية التي تقرُّ بمشروعية التمايز والاختلاف وتعترف بأنَّ جميع الناس أحرارٌ ومتساوون، ولكن ليس على طريقة سخرية جورج أرويل في كتابه الشهير “مزرعة الحيوان” حيث يقال إنَّ الناس متساوون ولكن بعضهم متساوٍ أكثر من البعض الآخر .. ولا سبيل لتأسيس نظام ديموقراطي حقيقي ومستدام عندما تكون ثقافة الاستبداد مشاعة في الأسرة والقبيلة ومؤسسة الخدمة العامة، وعندما تعتمد مناهج التعليم النقل وتلقين المُسلَّمات بدلاً عن التربية على إعمال العقل وتشجيع الروح النقدية، وعندما تكون الأحزاب مختزلةً في رؤسائها أو قيادتها بدلاً من أن تكون فضاءً حُرَّاً لجميع أعضائها للحوار والأسئلة والمساءلة والمساهمة الجماعية في صوغ الرؤى وضبط بوصلة الحراك، وعندما تكون ألوانٌ من الأعراق والثقافات مستعلية على غيرها، ويكون الوعي العام مصاباً بالمطلقية ولا نسبية فيه، وكل فريقٍ سياسي أو تيارٍ فكري يتوهم المعصومية واحتكار الحقيقة وسبيل الرشاد ويرى غيره على باطلٍ وضلال .. جماع ذلك، أو بعضه، يعني غياباً لمداميك مهمة للديموقراطية وبالتالي فتح الطريق أمام الاستبداد السياسي ليصعد مستقراً في القمة، مسيطراً على نظام الحكم وجاثماً به على الصدور.
وأيَّاً كان الأمر .. فإنَّ الاستبداد كله شرورٌ وآفات، يُلوِّث الحياة العامة ويضاد الكرامة الانسانية، ويستهدف الدولة “بمعناها المُتعارَف عليه دستورياً وسياسياً وسسيولوجياً” حتى يجرِّدها من مقاصدها الحقيقية ويختزلها فيمجرد سلطة تتوسَّل القوة المادية لقمع الخصوم واحتكار الحكم عبر نظامٍ مغلق لا مكان فيه للآخَر المُختلِف .. الدولة في هذه الحالة لا تزيد عن كونها نظام مصالحٍ بيد الفئة التي تهيمن على السلطة والثروة وأدوات العنف وتدفع بالفئات الاخرى، في الأطراف والمركز، إلى دائرة الإقصاء والتهميش والحرمان من الحقوق وتفرض عليها إراداتها، وفي نفس الوقت تحيط نفسها بفيالق الأجهزة الأمنية وسياج القوانين القمعية التي تحرِّم الحِراك المطلبي والاحتجاجي السلمي بعد أن تكون قد أغلقت أو زيَّفت المنابر العامة الموثوق بها والتي يمكن أن تتم فيها وعبرها تسوية النزاعات وإحقاق الحقوق: مثل المجالس النيابية غير المزورة، القضاء المستقل، الاعلام الحر ومنظمات المجتمع المدني غير المُدجَّنة .. وحينئذٍ تجد الفئات الاخرى نفسها مضطرة لتحدِّي القوانين السائدة واللجوء إلى ساحات وأساليب أخرى لمقاومة الظلم والتهميش وانتزاع الحقوق، ولو كان ذلك حِراكاً جماهيرياً راعفاً في الشوارع والسَّاحات أو مواجهاتٍ بالنار وكتل الحديد مع ما يرافقها من هلاك الأنفس وهدر الموارد وتعطيل مُمكِنات النهوض والتقدم.
صفوة القول أنَّ الديموقراطية هي الوسيلة الأنجع لبناء دولة المواطنة التي تساوى بين أهلها وتعدِل بينهم وبالتالي تحقيق الوفاق المجتمعي وحماية المجتمع من التوترات والهزَّات وتحصينه ضد العنف، وتحويل التنوع إلى مصدر إثراء وتخصيب لحركة المجتمع ورافعة لنهوضه وتنميته وتقدُّمِهِ .. أمَّا نقيض الديموقراطية، سواء كان استبداداً أو ديموقراطية زائفة، فإنَّه ينسف المضامين النبيلة للدولة ويقعد بها عن أداء دورها في استيعاب كلِّ فئات المجتمع تحت مظلتها ومراعاة مصالح هذه الفئات وتسوية تناقضاتها ونزاعاتها بالتي هي أحسن، فيتحوَّل التنوع إلى نقمة تتمظهر في الاحتقان الاجتماعي، وإضعاف الشعور بالانتماء الوطني لمصلحة العصائبيات الأضيق، وانسداد الآفاق والتتابع المحموم للأزمات السياسية والإقتصادية، وتكون المحصلة إفساد الحاضر وإظلام المستقبل .. ولا حاجة لتدعيم هذا الكلام بشواهد وأدلة من التاريخ الإنساني، إذ تكفي مسيرة حكم الإنقاذ شاهداً ودليلاً.