لا شك أن التنافس الاقتصادي هو العامل الأول , و السبب المباشر في اندلاع الحروب في الإقليم وكذا في بقية بلدان العالم , ومضيق باب المندب بالبحر الاحمر , يعتبر واحد من مراكز التحكم بحركة التجارة العالمية , وبالأخص تجارة النفط الذي تستحوذ على النصيب الأكبر فيه دولتان , هما المملكة العربية السعودية و جمهورية إيران , لذلك نشأت ثنائية المحاور في المنطقة , بناء على المنافسة التجارية بين هذين العملاقين النفطيين.
ومن أسباب تسارع انهيار نظام المخلوع عمر البشير , هو التذبذب في المواقف بين المحورين , وسوء إدارة نظامه للعلاقة مع هاتين الجهتين , فكانت بداية نهاية نظامه عندما أعلن مذعوراً أمام القيصر الروسي , حاجته وحاجة نظامه للحماية من العدوان الأمريكاني , وخوفه من التدبير المحسوس لليانكي الأمريكي الساعي للإطاحة بسلطانه , وقد حدث , كما يقول المثل :(ما تخافه سيلحق بك عاجلاً أم آجلاً) , و (المحتضر يعرف ويدرك ماهية المرض الذي يؤدي إلى موته).
وجد المتظاهرون الطريق ممهداً نحو مدخل قيادة الجيش , و أعلن قائد أكبر قوة عسكرية حياده و عدم تدخله في أي شأن مطلبي أو مدني , يخص شعب ثائر من أجل الخبز والوقود والكرامة والنقود , كل هذه الأحداث لم تأت مصادفة ولا إعتباطاً , كما ظل يتوهم بعض السذج من بني الانسان , فالحراك الذي وجد طريقه إلى بوابة رئاسة القوات المسلحة , أخرجه ورعاه رجال من داخل مؤسسات النظام البائد نفسه , بناءً على معطيات وإرهاصات الملفات الأمنية التي تلقي بظلالها على دول الإقليم , ولأن المصلحة الأقليمية هذه قد حزمت أمرها , و قررت إزالة ديكتاتور السودان من على عرشه , ليس حباً في تحرر الشعوب السودانية وانعتاقها من سطوته وجبروته , وإنما تأميناً لانسيابية بضائعها التجارية باهظة الأثمان والمنداحة إلى الأسواق العالمية , لا سيما وأن الدكتاتور قد أرتكب خطأ عمره عندما باع السلطان العثماني (أردوغان) , جزيرة على مرمى حجر من صحن طواف الكعبة الشريفة.
إنّ المجلس العسكري الانتقالي يحيط علماً بالدور المنوط به تماماً , وذلك بفضل كونه قد خرج من مؤسسات حكم النظام البائد , تلك الدوائر الحكومية التي يعرف كل صغيرة وكبيرة بها , ولأن رموزه يمثلون رؤوس اللجان الأمنية والشُعب والأقسام العسكرية لذلك النظام المقبور , فهو (أي المجلس العسكري) الأدرى والأكثر وعياً بالمخاطر الأمنية التي تتهدد البلاد , لذلك كان رؤوفاً و عطوفاً بمفاوضي قوى إعلان الحرية و التغيير , لأنه يعلم ما لايعلمون , مثل الأب الذي يحمل ضيق وهم وغم إيفاء سداد المستحق من قيمة إيجار المنزل , الذي يلعب ويتبارى في ساحته فلذات كبده في براءةٍ سعيدة , ظناً منهم أن البيت الذي ينامون هانئين تحت سقفه يؤول إلى ملكية أبيهم , لذلك قالها نائب رئيس المجلس العسكري في خطابه أمام حشد بسجن كوبر , أنهم كجيش لن يرجعوا إلى ثكناتهم كما ظل يطالبهم بذلك مراراً بعض الناشطين , والسبب على حد وصفه هو أنهم يمثلون الضمانة الوحيدة , لتحقيق أهداف الشعب الذي أستأمنهم على أرضه وعرضه وماله واستجار بهم .
في المفاوضات التي جمعت قوى اعلان الحرية والتغيير من جهة و المجلس العسكري من الجهة الأخرى , وضحت معالم ضعف و هشاشة البناء السياسي لعقلية مفاوضي قوى الحرية والتغيير , وذلك لإضاعتهم لجميع الفرص التي توفرت لديهم أمام مفاوضي المجلس العسكري , والتي جاءتهم على طبق من ذهب , وسوف يندمون على ضياع تلك السوانح , لقد حدث ذلك لأن النسق المفاهيمي الذي دخلوا به إلى بهو قاعة التفاوض , لم يبارح منظومة الأفكار الهتافية التي يطلقونها عبر شعارات (الصبّة) , ولم يتجاوز مضامين الخطب الحماسية التي تلقى في أركان النقاش بسوح الجامعات , فاوصلوا قطار الحوار و التفاوض إلى نفق مسدود , وفي المستقبل القريب , سوف يقعون في فخ الرفض المستمر من قبل المجلس العسكري , لأي مقترح يقدمونه حول شرطية الرئاسة المدنية لمجلس السيادة , فالفرصة التي سنحت لهم في مواجهة رصفائهم , القابضين على مفاصل السلطة العسكرية الانتقالية , وتفاعلهم مع بعضهمم البعض تفاعل الند للند , سوف يرهقوا كثيراً في الأيام القادمة حتى يتمكنوا من الحصول عليها مرة أخرى.
إن إغفال دور المحاور والتحالفات السياسية الاقليمية و الدولية , المتعلق بأمن و استقرار البلدان التي تجمعها المنطقة الجغرافية الواحدة , إن مثل هذا الإغفال ليس من الحصافة السياسية في شيء , ومن ظن أنه يستطيع التغريد في سربه وحيداً وبعيداً عن الآخرين , يكون قد جنى على نفسه و قومه على حد سواء , فمن بديهيات الحقائق التاريخية نشوء الأحلاف و التكتلات الاقتصادية و السياسية , فيما بين الجيران وشركاء الجغرافيا والعقيدة و المصير الواحد , و السؤال المطلوب أن يجيب عليه كيان قوى إعلان الحرية و التغيير هو : مع أي محور يجب عليه الوقوف و التضامن ؟ محور الشر الإخواني ؟ أم محور المصالح الاقتصادية الذي لا تحكمه الايدلوجيا ولا التطرف الديني؟
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com