لم يشهد قاموس السياسية السودانية عنفاً لفظياً , مثلما نضح به إناء (الكيزان) بشتى ضروب العبارات والجمل المؤذية , الموجهة إلى مجالس ومسامع أفراد وجماعات الشعب المسكين , لقد أكتسحت الأسافير في الأسبوع الماضي موجة عارمة , من المقالات المكتوبة و التصريحات الملفوظة والكراكاتيرات المرسومة , المستهدفة لأحد رموز وجهابذة النظام (الكيزاني) الآيل إلى السقوط , والمتناولة له باعتباره أيقونة إعلامية شهيرة طرحت نفسها داعية من دعاة الحق والخير و الجمال , عبر صحيفتها المشهورة أيضاً , والشاعرية العنوان والرومانسية الألوان , التي خدمت الخط السياسي لتنظيم الجبهة الاسلامية منذ ما قبل الأنقلاب العسكري.
وفي مفاجأة غير متوقعة تحوّل هذا الرجل الرومانسي الوديع والأنيق , والكاتب و الإعلامي الشهير , المعروف بتقديمه لبرامج السمر والشعر والغناء و الأنس الجميل , إلى شاتم و راشق مؤذٍ للمفردات الهابطة والكلمات السقيمة في المعنى و المدلول , المؤكدة على أن (الكوز) مهما ارتدى الزاهي من الثياب , المطرزة بألوان الحق و الخير و الجمال , لابد وأن يأتي اليوم الذي يكشر فيه عن أنياب السيخ , في صراعه الفكري التقليدي مع القوى السياسية المعارضة , و المعترضة على نظام حكمه المتدهور , فبإخراج هذا الاعلامي الوسيم الوجه والناعم القول لآخر ما تبقى في جعبته , من ساقط القول (جرذان) , لهو مؤشر قوي على اجيتاح فوبيا التغيير لمضاجع حملة لواء فكر الدويلة الرسالية المزعومة.
لقد سبق هذا الاعلامي الكبير , ساسة و قيادات سالفون لنظام (الإخوان) , في مضمار التباري حول إصدار المفردة المستفزة القاسية و العنيفة , في وجوه جماهير الشعوب السودانية الصامدة و الصابرة , ابتداءً من (كتيب) نافع علي نافع المليء بمثل هذه الكلمات المؤذية , التي هي من شاكلة (لحس الكوع) , مروراً بكل من الحاج آدم يوسف (ساطور) , علي عثمان (كتائب الظل) , الفاتح عز الدين (جز الرؤوس) , حسبو عبد الرحمن (قطع الرقاب) , الطيب مصطفى (الجنوبيون سرطان) , ثم ختاماً بكبيرهم الذي علمهم هذا اللفظ في الساحة الخضراء (عندما تدق الموسيقى كل فأر سوف يدخل جحره).
إنّ هذا العنف اللفظي الذي أصبح علامة مميزة وديباجة ظاهرة , للمنتظمين في أحزاب جبهة الميثاق الاسلامي والجبهة الاسلامية القومية والمؤتمر الوطني , هو نتاج للتربية التنظيمية التي نشأ تحت رعايتها الطلاب الاسلاميون منذ الستينيات وحتى الآن , فأدب العنف الطلابي قد تحول إلى عنف دولة , نسبة لتولي ذات الكوادر الطلابية السابقة لحقائب وزارة الدولة , فجاءت الثمار فاسدة كمحصلة بديهية لما تم تلقينه لأولئك الطلاب الذين أصبحوا رجال دولة اليوم , وبذات الطريقة تطورت الاتحادات الطلابية المسيطر عليها من قبل سلطة (الكيزان) , إلى ثكنات عسكرية بها كل مستلزمات القتال الحديثة , والتقليدية من سيخ وغيره من ادوات البطش , فقام الطلاب الاسلاميون بحسم اختلافاتهم في الرؤى عبر فوهة البندقية , مع زملائهم الآخرين في التنظيمات السياسية المناوئة لهم , فأعادوا صياغة آليات الحوار السياسي و الفكري في سوح الجامعات السودانية , وأدخلوا ثقافة الارهاب الفكري وسط الطلاب مسنودين بسلطة الدولة , فكانت المآسي والأحزان في المشاهد والصور المروعة لجثث الطلاب الجامعيين المقذوفة على جنبات الطرق وداخل الترع .
ما أحدثته منظومة (الكيزان) الحاكمة من تخريب ثقافي واجتماعي و سياسي , يلزم البديل الديمقراطي القادم بعمل حفريات عميقة , لإقتلاع الأعمدة الخربة التي أسست للواقع المأزوم والماثل أمامنا , فعملية الاستئصال يجب أن تبدأ من أجهزة الاعلام المرئي و المسموع و المكتوب , وأن تسهدف الكوادر ذات الخلفيات الفكرية الأصولية والراديكالية المتشددة , وأن يشمل هذا المشروع إزالة المواد المكرسة للكراهية و تهميش الآخر وعدم القبول به, من مكتبات الاذاعات و الفضائيات , فالاعلامي الوطني الغيور لا يتخذ من عنيف المفردة وسيلة للتعبير عن غضبته , خاصةً اذا جعل شعار رسالته الاعلامية (الحق والخير و الجمال) , فالحق لا تظهره العبارة العنيفة , و الخير لن يتأتى باطلاق العنان لعاجز القول , و الجمال تفصله مسافات فرسخية و سنين ضوئية عن صديد القول وقيح العبارة.
إنّ للكلمة مسؤوليتها الأخلاقية عند خروجها من فيه صاحبها , وأي صاحب؟ , إنّه ليس فرد عادي من عامة الناس , ولا رجل عديم للحيلة يجلس على (بنبر) , يحتسي القهوة والشاي تحت ظلال (راكوبة) من الرواكيب الوريفة بسوق (قندهار) , ليطلق الكلام المؤذي على عواهنه دون حسيب أو رقيب , إنّه المالك لصحيفة سياسية معلومة وصاحب القناة التلفزيونية المعهودة , التي يشاهدها الناس في كل ربوع البلاد , فحري بمثل هذا الشخص في ظل دولة القانون و العدالة الاجتماعية المفترضة , أن يكون حاملاً لمشعل النور و ممسكاً بمكنسة تنظيف اليد واللسان , وداعية من دعاة الحق و الخير و الجمال فعلاً وعملاً لا قولاً مترفاً.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com