أتعجب لصغار الساسة من أبناء وطننا الذين اعتلوا مسرح العمل العام مؤخراً , بعد ذهاب المخلوع عمر البشير , وهم يتحدثون عن مستقبل البلاد دون الأخذ في الاعتبار , تقاطعات المصالح الاقتصادية والأمنية في المنطقة , وسباحة بعضهم بعيداً عن شواطيء الواقع المرير , الذي وجدت البلاد نفسها متورطة فيه , بما فعله أبنائها العقوقين بها في الماضي القريب , فحاجب الدهشة لن يزول عن وجه المتابع الحصيف للأحداث, وهو يسمع و يشاهد ويقرأ لهؤلاء الساسة الجدد , وهم يغردون خارج سرب التحالفات الاقليمية , و لا يكترثون للخطر الداهم الناجم عن تمدد أطماع الغول الشره و الشرس المكشر عن أنيابه والمتربص بالمنطقة بأسرها.
إنّ صراعاتنا الداخلية حول جدلية الحكم المدني و سطوة الجبروت العسكري , لن تعفينا عن مسئوليتنا التاريخية في الحفاظ على تراب الوطن , سواء كنا مدنيين أو عسكريين , وما يحاك ضد الوطن من مؤامرات تقودها أجهزة المخابرات الدولية والاقليمية , لا يخفى على عيني الراصد اللصيق بمجريات الأمور , فجميع البلدان التي تأججت فيها نيران الحروب الأهلية , واندلعت على ارضها النزاعات الطائفية , من حولنا , قد لعب فيها عامل تفكك الجبهة الداخلية الدور الأعظم , وغالبية هذه البلدان كانت ولوقت قريب انموذجاً يحتذى به في الرفاه و الوفرة الاقتصادية وارتفاع مستوى دخل الفرد.
فالتنافس التجاري المحموم بين القويين الاقتصاديتين العالميتين لن يتركنا في حال سبيلنا , بينما نحن نمشي على سطح أرض ممتليء جوفها بنفيس الدرر , و نملك بلد موعود بأن يصبح جنة الله في الأرض التي تغري العالمين لأن يتوافدوا إليها , وحتماً هذا الفتح الاقتصادي المرتقب سيكون خصماً من رفاهية كثيرين , و سوف يتسبب في ركود سوق من يعملون ليل نهار لإخماد نار هذا البركان الثائر , خوفاً من نهوض هذا المارد العملاق الذي ما يزال قابعاً في قمقمه , وطمعاً في بتر ساقيه حتى لا ينهض ولا تقوم له قائمة.
والأمر الذي لا يدركه هؤلاء الساسة الجدد , هو أن الصورة الوردية التي يرسمونها لهذا الواقع المأساوي , و التعاطي الرومانسي مع أزمة الحكم في هذا البلد المترامي الأطراف , لا تجدي نفعاً , فالفرد و الجماعة و الدولة في عصرنا هذا لا يستطيعون أن يقولوا ما يشاؤون أو يفعلوا ما يريدون , من غير الارتباط بشراكات اقتصادية وتحالفات سياسية إقليمية و عالمية , فالدولة مثلها مثل الفرد الذي يكون نجاحه الأقتصادي و الاجتماعي , رهين بحسن تصرفه و جودة ادارته لعلائقه مع محيطه المجتمعي من جيرانه و وجهاء قومه .
ولكي يخرج السودان من أزمته الراهنة لابد من وجود سياسيين فاعلين , وقادرين على قراءة تشابك وتداخل ملفات الأمن و التجارة والسياسة في الاقليم و العالم , وقطعاً أن وفد قوى اعلان الحرية والتغيير المفاوض الذي جلس مع المجلس العسكري الانتقالي , لا يتمتع أعضائه ببعد النظر و لا بالمعرفة الكافية باستراتيجيات تكتيكات العمل السياسي , التي كان بالامكان أن تجعلهم قادرين على حماية مكتسبات الثورة و الثوار , و ما العمل التكتيكي الذي مارسه المجلس العسكري أثناء جولات التفاوض , إلا تأكيد على استغلاله لقصور الوعي التفاوضي لدى عضوية الوفد المفاوض الممثل لقوى الحرية , فقد رفس هذا الوفد المفاوض عديم الخبرة وبكلتا قدميه تلك الفرصة الذهبية , التي تمثلت في إمكانية حصوله على ثلثي التمثيل في البرلمان و الجهاز التنفيذي (مجلس الوزراء) , هذان التمثيلان اللذان يعتبران قوة الدفع الميكانيزمية الفاعله لانجاز أي مشروع سياسي طموح , ففي حال حصول البديل الانتقالي على ثلثي عضوية مجلس النواب و المثل من وزراء الحكومة , يمكن لهذا البديل أن يصبح الفاعل الرئيسي في تنفيذ أجندة مشروعه السياسي الطموح هذا.
وكما نعلم , فان إدارة أزمات الحكم و شئون السياسة , تعتمد على التخطيط السليم لوضع الاجندة و الخطط والبرامج , و التنفيذ السريع لها وفي الوقت المناسب , وفن التفاوض لا يجيده الا المتمرسين من السياسيين الذين عركتهم التجربة , وهو علم تعقد بشأنه ورش العمل و وتقام من أجله الندوات و المحاضرات , فأن تكل مسؤولية هذا العمل (المهني) لصبية لم يقوى عودهم بعد , هو بمثابة القاء الأحمال والأثقال العظيمة من التكاليف والأعباء الادارية , على ابنك الذي دخل لتوه مرحلة الأهلية القانونية , فقد أخطأ الثوار أيما خطأ عندما سلموا رقابهم إلى هواة يمارسون الفعل السياسي من باب التجريب و الاختبار , فمعظم من أطلوا بوجوههم على منصة التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي , في ظني أنهم لم يقرأوا لهنري كسينجر وزير الخارجية الأسبق , ما كتبه حول تداعيات ومآلات الصراع في الشرق الأوسط , وتصوري أنهم لم يطلعوا على التحليل الدقيق الواردة تفاصيله في كتاب (الحرب من أجل الثروة) لجابور.
ألعالم تقوده المؤامرات والتربصات و تحكمه التكتيكات , و ما يقع على بصرنا من إمبراطوريات للمال و الأعمال في شنغاهاي و نيوورك وطوكيو وسيول , لم يتأتى إلا بحكمة الممسكين بزمام الأمور في هذه البلدان , ودخولهم كلاعبين رئيسيين في أندية التجارة و اقتحامهم لصوالين السياسة والكياسة العالمية بكل جدارة واقتدار , فصراعات العجزة المسنين مع المراهقين الجدد من ساستنا , لا توصل (الجيل الراكب راس) الى الدولة المدنية المفعمة باسباب الرفاهية الاقتصادية , فنجاح الدول و الأنظمة الحاكمة يكمن في العامل الاقتصادي , والحكم الراشد هو الذي يستطيع تحقيق ذلك , وبطبيعة الحال لا يمكن أن يحدث هذا في وطن ممزق بالحروب الأهلية .
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com