ألحرب الشعواء الممنهجة والموجهة لاتفاق سلام جوبا التي شنتها أقلام مركزية شهيرة، نابعة من عقدة قديمة متعلقة بأزمة الثقة الغير متبادلة بين المركز والأطراف، ومدفوعة بالخوف من الآخر الذي أمسى فوبيا عصيّة على المعالجة، إنّها تابوهات ترسخت كعقبة كؤود وأزمة دائمة وقائمة في عقلية النخبة المركزية، نتيجة لعوامل تاريخية واجتماعية معلومة، وكلما قربت الصفوة المهمشة من الإمساك بمقاليد القرار السيادي في البلاد تقوم الدنيا ولا تقعد، فينقسم الشعب السوداني إلى فرحين بما آتاهم الله من فضله، وآخرين مغاضبين لا يعجبهم إلا الصنيع الذي تخبزه أيديهم، هذا الإنقسام شهدناه إبّان الإحتفال بالوثيقة الدستورية عندما توشحت الخرطوم أزهى الأزياء وتجملت بأبهى الحلي، ورقص شباب الصبّة طرباً أمام خشبة مسرح قاعة الصداقة مع أهزوجة الراحل صلاح بن البادية (من رهيد البردي لوحة)، تزامناً مع الحزن الذي كسا وجوه الذين لم تشملهم محاصصة دستور وثيقة قوى الحرية والتغيير المحتفى بها يوم عرس السودان.
ألتباين الوجداني المكشوف الذي تفضحه ردود أفعال النخبة المركزية عندما تكون الصفوة الطرفية قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى شراكة حقيقية في ديوان الحكم، نابع من الأعتياد على هيمنتها الكاملة ولمدى اكثر من نصف قرن على الوظائف المفتاحية، وارتسام صورة تقليدية ذات تقاسيم معينة في ذهنها عن رجل الدولة الذي يجب أن يسود الناس ويسوسهم، لذلك يكون من الصعوبة بمكان أن يستوعب العقل المركزي أن ملامح وتقاسيم الوجه البشري لا علاقة لها بالكفاءة والأهلية لتولي المنصب العام، كما كان يمازحنا ظرفاء شوارع الخرطوم ومتسكعي أزقة حواريها عندما شغل مني أركو مناوي حقيبة كبير مساعدي الطاغية، حينما وصفوه ببائع الترمس تشبيهاً له بالمتاجرين الجائلين لهذه السلعة الحلال والقادمين من جغرافيا الإقليم الذي ينتمي إليه مناوي، هذه هي تصورات أفندية مقرن النيلين التي جعلت الحزن يدب في قلوبهم وجرفت أحبار اقلامهم نحو هذا الحنق الجهوي المقيت، عندما علموا بحتمية مقدم – الغبش الشينين كما قال الحردلو – للمشاركة في إدارة دولاب حكم بلادهم.
الأموال الطائلة المصروفة على بند الحرب لا يجب أن تكون مدعاة للرفض إذا ما وجهت لسد الفجوة التنموية المجتاحة لمناطق النزاع، إذ أنه ليس من العدل ولا المساواة أن تستمر المعادلة الغير متكافئة التي خلقتها ظروف المأساة، وعلى ذات الدرب علينا أن لا نمتعض من التمييز الأيجابي بحق الطلاب المقبولين في الجامعات والمعاهد العليا والآتين من نفس الأراضي المتأثرة بالنزوح والتشرد، لأن البون شاسع ما بين ما خلفته المعاناة هناك وبين الرفاهية التي عاشها مركز البلاد ردحاً من الزمان وقتما كانت إيرادات وأموال التبرول تنهمر كتدفق مياه النيل الأزرق المنجرفة من بحيرة تانا، حينها عاشت شعوب أواسط البلاد في رغد من العيش بينما قضى الواطئون للجمر سنوات عجاف لا تعي لا تنطق، فسيف العدل لابد وأن يجعل الظالم يصرخ ويتألم من سوء المنقلب المفاجيء، ويعوي ويحترق من وقع حسام الإنصاف المهند على الأجساد التي نبتت من سحت.
ألمتطرفون المركزيون يتداعون إلى فصل إقليم دارفور كلما حمي وطيس حرب المطالب والحقوق، يدعون إلى افتعال جرح آخر بعد بتر وطن القائد توت قلواك الحريص على عدم تكرار عار تقطيع أوصال الجسد السوداني بفصل جزء آخر منه مرة أخرى، هؤلاء المركزيون لا يدركون مغبة دعواتهم الحاسدة لأنهم لا يستوعبون حقيقة رفد هذه الأقاليم للسودان الكبير بالثروات، بل يكاد يكون عماد اقتصاد البلاد مركوز على إقليمي دارفور وكردفان، وأعمى البصيرة والبصر لا يرى مآلات دوافعه المتهورة إلا بعد أن تقع الفأس على الرأس، كما كان الحال بعد مباركة ذهاب ثلث أرض الوطن، وعلى هذه النخبة ذات العقل المتكلس أن تعي بأنه قد جاء الوقت الذي يجب أن تتحقق فيه العدالة الأجتماعية والبناء الوطني الحقيقي، وأنه قد ولى زمان الأستهبال السياسي إلى غير رجعة ومضى معه منهاج تغبيش الوعي والخم والحديث بالوكالة عن الآخرين، وجاء زمان قيام صاحب الحاجة إلى حاجته.
ألأفراح لا تكتمل إلا بدخول كافة الناس في السلم، فقد عدل القائد عبد العزيز آدم الحلو عن رأيه المتطرف والمشخصن حول قيادة ممثل الحكومة الأنتقالية لملف السلام فتصافح معه يوم أمس، و الأيام الحبلى ربما تأتي بالرجل الوحيد العنيد المتبقي إلى طاولة التفاوض، مثلما أسهمت الحكمة الجنوبية في إحضار الحلو، وإنه لمن أبلغ العبر والمواعظ أن تربأ جوبا صدع الخرطوم التي استئصلتها من جسد الوطن الذي كان واحداً، فأهلنا حينما يختلفون حول تقسيم حصصهم وأرباحهم التجارية يرجعون إلى ما يطلقون عليه (حساب دينكا)، وهو منهج محاسبي وعدلي قديم يتبناه حكماء سلاطين الدينكا عندما يوزعون أربع قطع من العملة المعدنية على ثلاثة من الأفراد، فيقومون بألقاء القطعة الرابعة في النهر، عسى أن يتبع الدكتور جبريل والأستاذ مناوي ورفاقهما ومن يأتي بعدهما، الحكمة الدارفورية المتوارثة من زمان السلطان العادل محمد الفضل في توزيع الحقوق وتقسيم الواجبات بين أهل دارفور بالقسطاس المبين.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
9 أكتوبر 2020