في الثلث الأخير من العام الماضي، نشرنا مقالا على هذه الصفحة ذاتها، جاء العنوان، كما هو وارد في الشق الأول من العنوان أعلاه، وفيه دعونا إلى ضرورة «إعادة تأهيل منبر الدوحة، ضمن مسارين لتحقيق السلام الشامل في السودان»، بعدما استقر – على ما يبدو- على اجتهادات العقل السياسي السوداني، في فعله اليومي لحل حرجه التاريخي الذي وقع فيه ماضيا وراهنا. جاءت تلك «الاجتهادات» على شاكلة مناورة أو مبادرة، على رؤيتين أساسيتين، إما تسوية سياسية تتحقق عبر تفاوض أو حوار ما مع مؤسسة الخلل القيمي، برئاسة البشير تنهي خلله وانحرافه، أو ثورة جماهيرية تعيد التحقق في كل شيء سوداني لصالح تغيير بنيوي، تتملك فيه زمام المبادرة. وهو معطى لم تكتمل اشتراطاته الزمنية والذهنية بما يكفي، بسبب تواطؤ بيّن مع دائرة ما، حيث بالتمعن فيه، ما يزال لم يتعد دائرة الخطاب السياسي، الذي يستدعي في أحايين كثيرة، رغم وجه المفارقة، التماثل التاريخي لمحطات من التاريخ السياسي السوداني الحديث، فيها وقع الاستبدال من «الخوذة» إلى «العمامة»، لتحقيق حاجيات وأواليات النخبة، بعقد اجتماعي ممنوح يوفر غطاء لتلك الحاجيات.
دعوتنا وقتئذ لـ»إعادة تأهيل» منبر سلام الدوحة، هي تلبية للرسم الذي رسمته القوى والمؤسسات الدولية، عبر قرارات مشتركة بين مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأفريقي، التي أوكلت مهام تنفيذها إلى لجنتها رفيعة المستوى في الاتحاد الأفريقي، التي تشمل ثلاثة رؤساء أفارقة سابقين، برئاسة رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابومبيكي، فيها رسمت مسارين للتفاوض عبر منبر واحد في العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا)، ورغم نتائج جولاتها التفاوضية الصفرية وعجزها عن إحداث اختراق حقيقي، غير ورقة واحدة موقعة من طرف واحد، لما يطلبه المشاهد الحكومي، أيضا لم تتمكن من إحداث توازن سياسي بين قوى المسارين، حيث تتعاطى بفهم أن هناك أصلا وآخر تابعا. وترى في كواليسها أن هذا التابع/ الملحق- إن صح القول- يعيق المنبر عن إحراز أي تقدم لاختلاف أولويات وأجندات كل مسار، رغم شراكة الأجندة والأولويات، وهما بين مسار دارفور بزعامة كتلة القوى الحركية الدارفورية، ومسار الحركة الشعبية/ شمال في قضايا جنوب كردفان والنيل الأزرق، هذه الرؤية التي ما انفكت ترسل الخرطوم إشاراتها في كونها غير معنية بقضية دارفور في منبر أديس أبابا، إلا بما يخدم أغراضها في الوصول إلى وقف العدائيات لأغراض إنسانية، وهي صيغة من صيغ وقف إطلاق النار، لم تنته إلى وقف إطلاق النار بشكل نهائي، وترتيبات أمنية ملزمة، تتم بعد الوصول إلى اتفاق سلام شامل.
هذا في جانب أول، وفي الجانب الثاني تسعى الحكومة إلى إلحاق القوى الثورية من الحركتين بوثيقة سلام دارفور، التي وقعت في الدوحة في إطار الثالوث القائم، إما دمجا او إلحاقا او انضماما، بدون اجتهادات أخرى، فضلا عن ذلك تمضي في إنتاج أدوات الإعاقة بقولها المتكرر بأن اتفاق «سلام دارفور» في الدوحة هو آخر صيغة سياسية لحل أزمة دارفور، رغم ان الاتفاقية لم يوقع عليها أي من القوى الثورية التي تمتلك المشروعية التاريخية في الصراع، فضلا عن انتهاء كل آجالها وجداولها القانونية، بدون أن تحرز أي استحقاقات غير تلك التي يريدها الحكم ويعمل على انتقاء جزء منها، مثل عملية التلاعب التي جرت مؤخرا باسم شعب دارفور، وفيما سبق السودان كله، وقيل في الأول إنه تم استفتاؤه. والثاني إنه انتخب رئيسه، أي شعب ينتخب ديكتاتورا، الديكتاتور لا ينتخب.
في مشروع «إعادة تأهيل» منبر الدوحة لسلام دارفور، حدثت اختراقات مهمة، وفق ترتيبات الوساطة الأفريقية، وكذا بعثة حفظ السلام الدولية «اليوناميد»، فضلا عن الشركاء الدوليين، فيها جاء لقاء باريس التشاوري الذي جمع نائب رئيس الوزراء القطري مع قيادتي حركة العدل والمساواة وتحرير السودان في يناير الماضي، فضلا عن رؤيتي الحركتين التي جاءت تلبية لاستحقاقات القضية السودانية، التي تجاوزت عمليا زمن الاتفاق وتاريخ توقيعه، والفاعلين فيه. فضلا عن تغيير مواعيد وآليات القوى وتوازنها بين صراع الإرادات داخل الجغرافيا السودانية، على إثر جريمة قطع الجغرافيا السودانية، التي ارتكبتها عصبة الإسلامويين التي تبين أن عقليتها قائمة على القطع والبتر والإقصاء، عبر الإبادة وتغيير الديمغرافيا وما بينهما منهج فساد متكامل، إن إسلامويي الخرطوم باتوا ظاهرة خاصة، تتنكر لها حتى «إخوة» الإسلام السياسي، خوفا من تشويه قد يقع عليهم.
تبقى الحاجة السياسية الملحة كيف يتحول منبر الدوحة من سلام دارفور إلى سلام السودان، هذا التحول يتطابق ويلبي التصاعد الكيفي والكمي الذي جرى للأزمة ومعامل تغيرها، إن كان على مستوى عناوين القضية الوطنية أو عناوين الجغرافيات السودانية الملتهبة، التي يجمعها ما أسميه بمجتمعات الإبادات السودانية واستحقاقاتها السياسية والاقتصادية والقانونية، ورفع مدرسة الهبة التي يتقدم بها جهاز التمركز إلى مدرسة الحقوق.
إلى ذلك، ايضا خلق توليفة دولية تحسم كم التفويضات الدولية التجزيئية وتقاطعها والجهات المخولة في شراكة متحدة، ومن منبر سياسي واحد في الدوحة، من شأنه ان يضع حدا لتسويفات الخرطوم وتمييع القضية المركزية، ضمن منهج تفويضات التجزئة والتقطيع الذي تستفيد منه الخرطوم وربما قوى دولية لها أجندات مختلفة.
إذن، إعادة تأهيل منبر الدوحة لرسم مستويين، أولهما، حل قضية مجتمع الإبادات السودانية التي تمثل حوالي نصف توازن القوى المجتمعي، وهو ما يعرف بقضايا «المناطق» في محاولة للاختزال ومن ثم التمييع للإلغاء، هذا أولا، ويلي ذلك، وعبر أولويات الشراكة الدولية ذاتها، التي ترمي إلى إقرار السلام الدائم في السودان، أن تبدأ وتنطلق أشغال التحضير لمؤتمر دولي في الدوحة، على غرار مؤتمر الطائف اللبناني، تجمع فيه كل القوى السودانية بدون إقصاء طرف أو جهة أو أي كيان، فيه تبحث القضية السودانية بشفافية. وأن خيار الطائف اللبناني الذي قسم المشترك اللبناني كعينة وصيغة وبواقعية أعتقد انه عينة ممتازة لحل الصراع السوداني، فيه يبقي الخاص السوداني في خصوصيته والعام السوداني المشترك المقيد بحكم القانون هو حق للجميع، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
القدس العربي