من المفزع اننا في القرن 21 ومفهوم “الهوية الوطنية” في بلداننا لايزال غامض ولم يتبلور في الوجدان كمفهوم يعكس انتماءآ وطنياً يؤدي إلى اندماج مجتمعي كامل. ومن وجهة نظري هذا عائد على فشل العديد من الإنظمة في دول العالم الثالث في بناء هوية لها ولمواطنيها تمكنهم من تحقيق الاندماج السياسي والاجتماعي لشعبها ومكوناتها الثقافية المختلفة. إذ يمكن تصنيف الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل الي عدة أشياء تتصل ببنية مجتمعاتنا التي تتكون من عدد من الجماعات المتمايزة ومختلفة الانتماء “الطائفي،المذهبي،القبلي، الأثني” وتتحاشي الانصهار في بوتقة واحدة داخل المجتمع. ومن رأي إن عدم الإندماج عائد علي فشل الدولة التي تخفق في تحقيق المواطنة وتوحيد مشاعر انتماء مواطنيها. فالنخب في بلداننا يجب ان يعلموا إن تمسك مجموعة اثنية ما بهويتها ولكن بشكل غير “شوفيني” هو حق مشروع ويجب أن يصان.لأن الأقليات بمختلف اتجهاتهم يجب إن يحصلون على حقوقهم العامة كأشخاص كاملي المواطنة وعلى النخب الحاكمة الاعتراف بوجودهم ككيان متمايز وذلك بالعمل الجاد لأفراد هذه الأقليات على نشر خصائصهم الثقافية ومقوماتها والتعبير عنها بكل الوسائل المشروعة إلى يتم تثبيتها في ذاكرة المجتمع وبذلك يفرضون هويتهم وذاتيتهم على المجتمع الكبير بحيث يضطرون في النهاية إلى تعديل مواقفهم المعارضة للإنصهار ونظرتهم الرافضة الي الاندماج. ولكن انا لا أخفي ان في وسط تلك المجموعات هناك بعض العناصر “الشوفينية” التي لديها بعض النزاعات العنصرية ولكن استمرار تلك النزعات هو نتيجة حتمية ايضا لتقصير العديد من النخب الحاكمة في بناء هوية تمكّنها في دمج الأقليات في بوتقتها الأجتماعية والثقافية وذلك نابع الي ان الدولة تكتفي بالهوية الجزئية التي لا تحظى بإجماع كل مواطنيها بمختلف انتمائاتهم. ولن يتحقق إلا من خلال الإجابة عن السؤالين المحوريين :
1 – هل نجحت الدولة في العالم الثالث في بلورة هوية خاصة ؟؟؟ بمعنى هل تحققت هويتها الجغرافية والبشرية بشكل قاطع ونهائي؟
2 – إلى أي حد تمكنت هوية دولة بها اقليات في العالم الثالث من جعل تلك المجموعات يشعرون بالانتماء إليها دون سواها ويقبلوا بها فضاءآ جغرافياً وسياسياً تتحقق في إطاره إرادتها العامة وتضمن مصالحهم العليا؟
للأسف ذلك لا يحصل لان الدولة في العالم الثالث تنازعتها مشكلات داخلية أو إقليمية أعاقت ظهور مشروع الهوية الوطنية فمثلا الدول في الشرق الأوسط و شمال افريقيا اصطدموا بما يسمي “بالأمة الإسلامية أو القومية العربية” تلك المشاريع التي صدمت مشاعر تكوينات إثنية ودينية كثيرة في داخلها واثارت العديد من الاضطرابات. وذلك عائد ان الدولة في ذلك المحيط لم تحسم بعد هويتها الوطنية النهائية وذلك ما جعلها لم تفلح في تحقيق الاندماج الاجتماعي ولم تنجح في صهر مواطنيها على اختلاف فئاتهم وشرائحهم. وهو ما يعني أنها لم تنجح في تقديم نفسها إطاراً جغرافياً وسياسياً وشرعياً لعيش مواطنيها وانتظامهم. وذلك لتأكيد أنها ماتزال تعيش في هواجس كثيرة في مقدمتها هاجس الخوف من التفكُّك أو الإلحاق بكيانات أوسع وهي مخاوف مترتبة عن وعيها باعتباطية حدودها الجغرافية وضعف تأثير خطابها الثقافي والإيديولوجي والأعلامي في توحيد مشاعر انتماء مواطنيها بمختلف تواجهاتهم لها والقبول الطوعي بقوانينها. وايضاً في القارة الأفريقية أشكالية الهوية تعبر عن أزمة حادة أخرى تتمثل في ضعف أو هشاشة الاندماج السياسي والاجتماعي والثقافي في محيط القارة الأفريقية سواء كان ذلك لأسباب إثنية (عرقية-قبلية) أم لأسباب “طائفية أو مذهبية” ويتعرض بعضها لخطر الزوال أو التفتت الداخلي. وإشكالية ضعف الاندماج تشكل عنصراً شديد الحساسية والخطورة في العديد من الدول الافريقية يهدد مستقبل العلاقات بين مكوناتها الاجتماعية المختلفة وكما الحال في الشرق الأوسط فحال النخب الحاكمة في افريقيا شبيه لها إلا أن هناك تجاهلاً متعمداً أو تغييباً لهذه المسألة تحت عناوين ومبررات زائفة ومسكنات وقتية غير مجدية من خلالها يحاولون إغلاق هذا الملف باي طريقة ولكن هذا يشكل هروباً من الواقع وعدم اعتراف بالمشكلة القائمة الذي لن يساعد علي اخفاء اثاراها المتفاقمة يوماً بعد آخر. فتلك العوامل سوف تؤدي إلى التنافر الذي سوف يستغلوها الجماعات الرجعية و التدخلات الخارجية. إن لم يتم دراستها وتحليلها وإشراك الفئات المهمشة والشرائح المعنية بها في بحثها ومعالجتها بصورة واقعية وبناءة فالمطلوب الإسراع في بناء مؤسسات الدولة الحديثة على أساس تعددي تقدمي وتنفيذ برامج تنموية شاملة، تخفف من حدة الاستقطابات والاختلالات العرقية والمذهبية فمن شأن ذلك يرفع من مستوى وفاعلية الاندماج السياسي والاجتماعي والثقافي لكل فئات المجتمع وشرائحه ومكوناته وكل هَذَا متوقف علي قدرة الدولة على التعامل مع هذه المسألة الشائكة وبخاصة في الأقطار الأقل تجانساً والأكثر تنوعاً. وعدم التصرف كسلطة وطنية للجميع بلا استثناء سوف يحول الدولة إلى عصبية أخرى بين البنى العصبوية القائمة. فذلك مايفقد دورها الجامع للشمل وذلك الأسلوب في التعامل سوف يهدد مصير العديد من الدول الافريقية مستقبليا ان لم ترتفع قيادتها للمشروع الوطني المشترك ودولتها “التقدمية” الحديثة وتتجاوز الجذور التاريخية “العرقية” لنشأتها الخاصة. وذلك سوف يكون من خلال عملية صهر ودمج للتكوينات الاجتماعية المختلفة في بنية جديدة تقوم على الإرادة الواعية للانتماء إلى الوطن بحيث تعلو على جميع التشكيلات العصبوية الكبري أو الصغرى المنغلقة من انتمائات (عرقية أو إثنية أو عشائرية أو طائفية أو مذهبية أو جهوية) فدور الدولة هنا تأسيس كيان وطني قائم على نظام من العلاقات الاجتماعية للمواطنة التامة لجميع أفراد ومكونات المجتمع المختلفة لإنهاء أزمة الأقليات .