عبدالله مكاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
مسلسل الإغتيالات المجانية، وحالة الموات والدمار العام، التي تخيم علي واقع البلاد المنكوبة، ليس مكتوب لها أن تتوقف! وذلك ليس لإعتبارات الأقدار وسوء الحظ، او نتيجة للجهل بفنون إدارة البلاد! ولكن السبب الأساس يعود الي، أن من يدير البلاد لا يعرف وسيلة حضارية لإدارتها، غير إعتيادية الإغتيالات ومأسسة الدمار وتقنين النهب وشرعنة الإحتيال؟! أما المرجع الأساس لهذه الإدارة التخريبية، فيجسده في المبتدأ القيام بجريمة الإنقلاب! لأن عملية الإنقلاب علي السلطة الشرعية، لا تعني فقط الإستيلاء الغادر علي السلطة وتسفيه الإختيار العام للجماهير! فهذا رغم بؤسه قد يكون أخف الأضرار، مقارنة بالمأساة الحقيقية، والتي تكمن في حذف الشرعية والقانون وتوابعهما من المشهد العام؟! وعندها تتم إستباحة البلاد بمختلف صور الإستباحة ودرجاتها، قبل نزع ممكنات الحماية الدستورية وإعتباراتها الأخلاقية، من الأفراد او بقية المواطنين خارج دائرة السلطة الضيقة. وبما أن اللحظة الحضارية الراهنة لا تبيح الممارسات الهمجية الصراح، فعندها تقوم السلطة الإنقلابية بإضفاء نوع من الشرعية الشكلانية علي ممارساتها ووجودها، ولكن دون المساس بمكانة السلطة وحدود سلطاتها المطلقة (بوصفها سلطة متعالية ليس علي الرقابة والمحاسبة والجمهور القاصر فحسب، ولكن قبل ذلك علي حقائق الواقع ومتطلبات الواقعية! أي بالمجمل هي سلطة تملك كل شئ ولكن من دون أن تضع إعتبار لشئ، ولذلك تنتهي الي اللاشئ ولكن بعد دمار كل شئ؟) بمعني، لكي تصبح السلطة الإنقلابية بعوارها الشرعي وهمجيتها المسلكية، في مصاف الدول، لابد من إيجاد مظاهر الدولة، وبما فيها المسؤولية الخدمية تجاه المواطنين (بغض النظر عن طبيعة الخدمة وكيفية تقديمها وإبتعادها عن الإلزامية!). ومن هنا يظهر مصدر الإزدواجية الذي يسم السلطات الإنقلابية، ليس في الداخل فقط، ولكن في علاقتها مع الخارج كذلك؟! أي عندما يضحك الجميع علي بعضهم البعض وهم يعلمون أنهم يصحكون علي بعضهم البعض، من أجل المحافظة علي المصالح المشتركة؟! وبصورة واضحة عندما تغض الدول والمؤسسات الخارجية الطرف عن شرعية النظم الإنقلابية غير الشرعية، وهذا في حال لم تكن هي مساعدة او محرضة علي هذه الإنقلابات ذاتها؟! أي بما يخالف عقيدة تكوينها ومبادئها المعلنة ومصادر فخرها، او ما يبيح أستاذيتها للآخرين ومعياريتها لدرجة الحداثة والتحضر، التي تصر علي فرضها علي العالمين، بالكيفية التي تراها فقط! وكل هذا التناقض الفاحش، نظير أن تقوم النظم الإنقلابية بواجبات حماية مصالحها، وهذا ما لا تقصر فيه هذه الأخيرة مطلقا، إن لم تبالغ في هذه الرعاية او الحماية لدرجة الإبتذال؟! وتلك الدول تجهل او تتجاهل أن ليس هنالك مصالح مستدامة، أقوي وأكبر من الإلتزام بالمبادئ المعلنة والتقاطعات المصلحية بين الشعوب وإعلاء القيم والمشتركات الإنسانية! وكل ما هو عكس ذلك يصبح تكتيكات قاصرة والي زوال. المهم، هذه العلاقة الأخيرة (الإزدواجية/التناقضية) بطبعها او بسبب لا حضاريتها يتم التغطية عليها، بتشجيع او خلق أجسام وسيطة او رقابية، لكي تعمل كضمير علي اللحظة الحضارية الراهنة، كالمنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان والبيئة والثقافة والصحة..الخ من أجسام وهياكل منزوعة الأنياب والفاعلية المادية (مختلفة عن الإحسانية التي تحافظ علي علاقة اليد السفلي والعليا، التحضر والتوحش..الخ! فالضعفاء لا يحتاجون للعطف بقدر حاجتهم للعدالة، او أقلاه الإلتزام بجزء من المبادئ الحقوقية، التي يبدو أنها معلنة للمباهاة والتمويه فقط، فيما يتخطي مجتمعات معلنيها!) أي هي تعمل كضمير غير ملزم وليس هنالك تبعات لعدم الإلزام؟! ولكنه كافٍ بالقدر الذي يحافظ فيه علي فاعلية القيم الأخلاقية المعنوية؟ والأصح تمنع الإنفجار وإنهيار النموذج الكلي، ولذا لا بأس من منحها بعض الإنتصارات المادية، غير المؤثرة علي الإخلال بالتوازن المصلحي القائم لصالح الأقوياء؟! وإذا صح هذا علي النظم الإنقلابية بعامة، فهو تجاه نظام الإنقاذ أكثر مأساوية وتجريمية، سواء من خلال صمت الخارج تجاهه او تأنيبه الخجول له! او من خلال درجة الإستباحة لمصالح الداخل كدولة وأفراد، والتي يقدمها النظام الإنقلابي علي طبق من مهانة ومذلة لذاك الخارج، الذي لا يكف إعلامه عن شتمه بأقذع الألفاظ؟! فنظام الإنقاذ هو نوع من الأنظمة المجاهرة بالخطيئة، أي التي تتغذي علي القتل المجاني والسرقة في وضح النهار، والأصح تدمن إنتهاك كل القيم الوطنية والمجتمعية والأخلاقية، بل وحتي القيم الدينية ذاتها، التي ترفع شعاراتها وإن بتأويلاتها الخاصة؟! أي هو مصمم من مواد الفساد والتلف بكل أنواعها، وتاليا هو مبرمج علي التخريب بأمتياز؟! وعليه يصبح خروج خير او منفعة او صالح عام من صلبه، هو مسألة من رابع المستحيلات! بل الأقرب للصحة أن الإنقاذ هي نتاج لتزاوج النفاق الديني مع الإنحراف العسكري! وكان نتيجة هذا اللقاء المحرم او المزيج الشيطاني، أن فساد الأتباع أفسد المنظومة ككل، وهي بدورها أصبحت لا تنتج إلا الفساد والفاسدين! أي فساد من ظهر فساد؟! والحال كذلك، تصبح دعوات الإصلاح (من الداخل) والحوار (مع الخارج/المعارضة) أي مع هكذا نظام معطوب وممتنع عن إنتاج مصلحة عامة (مبرمج لخدمة المصالح الخاصة) هي/هو من باب الإنتظار السراب والمفضي في مسيرته/لا نهائيته، لمزيد من ضياع الوقت والأرواح وفرص او إمكانات الإصلاح الحقيقي! وهذا في حال لم يقُد هذا النظام الأخرق البلاد الي مستنقع الركود ووضعية التعفن والتحلل، كمقدمة طبيعية للفناء.
وفي هكذا أجواء معتكرة ومصير قاتم، تأتي مأساة مقتل طالبين في جامعتين مختلفتين، ووفق سيناريو يكاد يكون متطابق، لولا إختلاف المجرمين او الأيادي الآثمة! لتُشكل نوع من الصدمة او الرسائل، التي لا تختص بها المعارضة وحدها، ولكنها مرسلة كذلك لكل أفراد ومكونات المجتمع من غير الإنقاذويين! بأن هكذا مسلسل قتل إذا ما استمر وهو لابد مستمر، لإنعدام البدائل أمام نظام القتل (الحجاجي/الصدامي) المعمم! سيطال الجميع، وليس هنالك فرد او جماعة او جهة، بمنأي من هذا المصير الفاجع. وبمعني آخر، إن أهمية هذه الحوادث المتكررة، وبعد الترحم علي الشهداء والتمنيات بعاجل الشفاء للجرحي والمواساة لأسرهم. هي في التنبيه الي أن كل الجهود المبذولة السابقة، في مواجهة هكذا نظام عصابي إجرامي قتلوي، هي في الحقيقة جهود غير كافية بالمرة! ليس علي مستوي إزاحته من المشهد، كمطلب سياسي وطني وإنساني أخلاقي قبل ان يكون عادل وحضاري، ولكن حتي علي مستوي ردعه، لمنعه من ممارسة او إستسهال القتل المجاني للمواطنين؟! وعليه، فلا يمكن إعتبار كل الجهود والتضحيات وتكتيكات الفعل المعارض، هي ذات أثر إيجابي واضح، او أقلاه قادرة علي إحداث تحول مؤثر في سلوك النظام الإجرامي! طالما مسلسل القتل اليومي لم يتوقف منذ مجئ هذه الكارثة الإنقاذوية المرعبة! فبعد الإنتهاء المؤقت لمسلسل القتل اليومي في الجنوب الدامي، إنتقل الي دارفور الجريحة ومنها الي جنوب كردفان والنيل الأزرق! أي عزَّ علي آلة القتل الجهنمية التوقف، وفيها ما فيها من فوائد لمشغليها، بعد رحيل الجنوب الي حال سبيله، وإخراج نفسه من هذه المقتلة المفتوحة علي طول البلاد وعرضها! لتصل بأذرعها الأخطبوطية الي فضاء الجامعات، وتطال كل التكوينات الأهلية، المناهضة لتعديات السلطة الجائرة، علي الدولة وممتلكاتها او المواطنين وحقوقهم! بل حتي العُزّل في المعتقلات وداخل معسكرات التجنيد الإلزامية/الإرهابية، لم تعتقهم هذه الآلة الدموية الصماء اللعينة! لتلعب السلطة وأزلامها دور مصاصي الدماء بامتياز، وإذا كان مصاصوا الدماء وما شاع عن أسطورتهم، أنهم يعتبرون الدماء مصدر حياة، فلدي الإنقاذويين الدماء مصدر سلطة وثروة ووجاهة وبقاء في الدنيا، وجنة عرضها الأرض والسماء في الآخرة! ويا لها من جنة ملطخة بدماء الأبرياء؟!
المهم، الطريقة المنهجية التي أتبعت في تصفية الطالبين، تنذر بتكرارها علي نطاق الجامعات، او هي الطريقة المتبعة للتصدي لأبسط أنواع الإحتجاجات! كما أنها تفضح الإستسهال للقتل والإستهتار بأرواح الطلاب، إن لم تعبر صراح عن الإندفاع السلوكي الهمجي، والمزود بشحنة عالية من الرغبة في الإنتقام! علي أعتبار الخروج من بيت الطاعة او نشاز الطلبة الجامعيين ورفضهم قانون الخنوع ومذلة الإستسلام، هو جرح لكبرياء الفحولة الإستبدادية، إن لم يكن جريمة كبري تستوجب الإعدام رميا بالرصاص في الهواء الطلق، عبر أحكام يصدرها رعاع الأمن والطلبة الإسلامويون! الذين تم تدريبهم مسبقا علي أخذ القانون باليد والتصويب بقصد القتل، اي تنفيذ العقوبات الإنتقامية الهوجاء إيجازيا او في التو واللحظة! وهذا في حال لم يكافؤ علي هذا الصنيع المقدس؟! خصوصا وقد تم ليس غسل أدمغة هؤلاء السفهاء فقط، ولكن تم مسخهم الي آلات قتل وأدوات تعذيب ومخالب ممارسات قذرة. أي هم مجموعات مجردة من أي أبعاد إنسانية، ناهيك عن قيم وطنية او مثل أخلاقية! وأبعد من ذلك مُشرَّبة بكره فطري لكل معارضة او معارض او رافض لهذه السياسات العدمية والمسالك الإجرامية، التي تتبعها وتمارسها طغمة الإنقاذ، كمنهج يتيم لا تملك غيره وليس في إمكانها إمتلاك غيره؟! بمعني، نحن ليس أمام مواطنين شركاء ولا طلبة زملاء، ولكن وفي أحسن الفروض، نحن في مواجهة قتلة إنتقاميين وعملاء خائبين، غائبة عنهم مصالح الوطن ويفتقدون موجبات رعاية حقوق الزمالة؟! وهذا بدوره يقودنا لملاحظة أخري، تخص الطلبة الإسلامويين تحديدا! وقد تعرضت أكثر من مرة، لنوعية الإسلامويين الذين زاملناهم علي عهد الطلبة، وألمحنا الي أن هنالك إنتهازية طالبية إسلاموية، كجزء من إنتهازية الجماعة! أي ليست شئ جديد او غير متوقع. وأشرنا كذلك الي أن هنالك مجموعة إسلاموية، وخصوصا من صنف المجاهدين (الصادقين!)، هي في الأصل مجموعة ضالة وتعتقد عقائد فاسدة بالمطلق! وكنا نقرأ في أوجههم مصير هلاكهم وموت أعداءهم سنبلة، ونحن عاجزون عن فعل شئ؟! أي كانوا ضحايا لجهلهم، أكثر من كونهم عناصر واعية بحقيقة اللعبة الإسلاموية القذرة؟! ولذا لم يُتَح لها، أن تقوم بممارسة الأدوار الإنتهازية كرصفاءهم من الإسلامويين المتسلقين، والذين يقفون عند عتبات التحريض والتعبئة! وبعدها يقفلون عائدين الي مكاسبهم وإستثماراتهم، وصعودهم التنظيمي والمناصبي، وغيرها من الإمتيازات التي إكتنزوها من وراء ظهر دماء إخوانهم في الدين، وكله لله!! ولا يصدف أن بعضهم اليوم نجوم في دنيا المال والأعمال والإعلام والمجتمع وهلم جرا؟ بمعني، كانت هنالك شعارات دينية وأناشيد حماسية وقضية مركزية ( الجنوب/دار حرب!) تجتمع حولها تلك العناصر المخدوعة من جهة، والإنتهازية من الجهة المقابلة! وكل ذلك بعكس الطلاب الإسلامويين الآن، فهؤلاء في المحصلة يفتقدون لكل ما ذكر أعلاه، أي لا تحركهم واجبات عقدية ولا يلتفون حول قضية مركزية، وتاليا كلهم إنتهازيون بالسليقة ويتحلقون فقط حول امتيازات السلطة الآنية (كطلاب يجدون كل تسهيلات الفرعنة التي تلبي حاجات نقصية في تكوين الإسلاموي!) والمستقبلية (كفرص عمل وترقٍ إجتماعي مجاني، لا يطيب العيش إلا تحت ظلاله!) وتاليا، بقدر ما هم مشوهون بقدر ما هم يصفون مستوي الإنحطاط الذي وصل إليه الإسلامويون أنفسهم! والحال هكذا، هم أكثر حاجة لإظهار الولاء، وتاليا هم لا ينافسون الآخرين (مجرد وسائل او طريق عبور!) ولكن ينافسون بعضهم البعض، لنيل ود المحرضين الكبار في الخارج (صناع الفتن ومستثمريها!) وهو ما يجعل مسألة كسب الإنتخابات الطلابية او كسر شوكة المنافسين الآخرين من الطلبة المخالفين، هو جهاد جديد يستعيضون به عن الجهاد السابق (بمكاسبه المهولة!) والذي بان كذبه وأفتضح أمر رعاته! أي الجهاد في حقيقته حاجة دنيوية مرتبطة بمردود الإمتيازات المتحصلة من طرحه وتبنيه، أكثر من كونه شعيرة دينية او فريضة كما يدعون! ولكن أهمية إستخدام الدين بلغته ورموزه وطاقات خلاصه، في كونه يسمح بإخفاء المبررات الأساسية والأغراض الخاصة من وراء واجهته، أي كأداة طيعة في يد المحتالين وأرباب الدجل، من خلال إضفاء مسحة من التسامي والرفعة الكاذبة عليهم! والأخطر أنه يمنح قضية لمن لا قضية لهم أساسا، وهذا في حال لم يشوش علي أصحاب القضايا الحقيقية؟! وتاليا هو أهم مجال لإستثمارات الطفيلية الإسلاموية شيبة وشباب او شيوخ وطلاب، ولا عزاء لفارق السن والتجربة، لجماعة مفارقة للحكمة ومعادية للبصر والبصيرة والحياء بالمطلق؟! ولكن هذه الحوادث تعني أيضا، أن الإنحدار في مستوي التعليم العالي لا يخص الجامعات كمناهج ومخرجات تعليم فقط، ولكنه طال البيئة الجامعية بالمجمل، لتتحول الي وكر للجرائم السياسية والجنائية، يرتكبها الطلبة الإسلامويون بمساعدة فاضحة من عناصر الأمن الإرهابية وتواطؤ من إدارات الجامعات؟! والحال هكذا، لم تصبح هذه جامعات، ولكنها للأسف تحولت الي قنابل موقوتة وملغمة بدواعش إسلامويين، كارهين للطلبة والعلم، بقدر حبهم للسطلة وولعهم بالتميز والتمتع بنعم الحياة ومباهج الدنيا! ويساعدهم علي ذلك، رؤيتهم لخريجي الجامعات من غير الإسلامويين، يهيمون علي وجوههم من شدة العطالة ومرارة التمسك بقشة المهن الهامشية، وتيمم تلك الأوجهة الوسيمة الكادحة وأجهات السفارات، بعد إرتفاع الطلب علي المغادرة والفرار من تسرب السنين الي السراب! بعكس سابقيهم من الإسلامويين الطلاب، الذين يتخيرون الوظاف ويعتلون سدة المناصب ويتوزعون علي السفارات والبعثات الخارجية بمجرد تخرجهم! وهذا غير تغلغلهم وسط رجال المال والأعمال وأصحاب الصفقات المليارية المحجوبة عن الضرائب والمراجعة وسؤال المصدر! ولا يصدف أن تجد إسلاموي لم يبلغ الفطام منذ تخرجه، وإلا وقد امتلك الشركات وأسطول من الموظفين والموظفات الظريفات، يعملون تحت إمرته ويلبون ما يعقل وما لا يعقل من طلباته، وفيهم من في سن والده وخبرته بعمره؟ وشعارهم المعلن غير اللحية علي الموضة، أما بنعمة ربك فحدث ولا حرج؟!
وهذه الأحداث المستجدة والدماء المراقة في سُوح العلم، ليست ببعيدة عن ما تتعرض له جامعة الخرطوم العريقة وكرمز من رموز السيادة الوطنية، وهي محاصرة بلعاب المستثمرين الفسدة، الذين يسوءهم موقع الجامعة وما يمكن أن يدره عليهم من منافع مادية يصعب عليهم مقاومة إغراءاتها، وهم من تربي علي أن المال إله الجشعين وكرامة الفاسدين ويعوض عن كل خلق قويم، لشد ما افتقدوه منذ نعومة أظفارهم؟! وعندما يضاف الي ذلك هاجس الأمن ومخاوف السياسة، وما يمكن أن تشكله جامعة الخرطوم بتاريخها النضالي وحس طلبتها الوطني، فعندها يكتمل الحصار وتظهر السلطة عارية من إدعاءاتها الشعاراتية وتبرعاتها المالية لخدمة الجامعة؟ ويبدو أن السلطة الإنقلابوية وكلما تقدم بها العمر السلطوي، زادت المخاطر حولها ومن ثم يزداد فقدان الإحساس بالأمان، وتاليا تزداد مخاوف إنتزاع السلطة منها، الشئ الذي يرفع كلفة بقاءها علي مصالح الوطن ومستقبل المواطنين؟ علما بأن كل مدخرات الدولة والأسوأ حقوق الأجيال التي لم تأتِ بعد، تم تبديدها بسفاهة علي مشاريع تلك الحماية مسبقا! والسلطة الإنقلابية وأزلامها إذ يسدرون في غيهم، برهن أملاك الدولة لخدمة مصالحهم الخاصة، لا يصدر هذا المسلك عن حالة غياب الوعي او تدني منسوب الوطنية، ولا حتي عن قلة تمسكهم بنهجهم الإسلاموي، الذي يشهرونه تجاه كل معترض! ولكن هذا المسلك هو التصرف الطبيعي او ردة الفعل العادية، قبل أن يكون فعل متوقع، لجماعة ومجموعة متحلقة حول ذاتها، بقدر ما تستجيب لنداء الغرائز الداخلية ومقتضيات حماية السلطة غير الشرعية! بمعني، إن المجموعة الحاكمة والأفراد المتحكمون في مصير البلاد ورقاب العباد، ولسوء الحظ لا تربطهم صلة بالعالم الخارجي! أي العالم الخارج عن حدود غرائز الأفراد وحماية سلطة تشكل إطار تتحرك داخله تلك الغرائز! بمعني، لا توجد علاقة مع العالم الخارجي (عالم المبادئ العامة او القضايا الوطنية ولا حتي العقائد الدينية رغم أنف الشعارات المرفوعة!) وتاليا لا توجد حوافز توجه نحو الصالح العام، ولا كذلك حواجز تمنع الإنحراف، او تحد من الفساد المفتوح علي اللاحد واللانهائي؟! والحال كذلك، ليس هنالك ما يحمي جامعة الخرطوم بموقعها المميز ودورها الحضاري وصراعها التاريخي ضد الدكتاتوريات، من الإنتهاك لحرمتها، بل وحذفها من الوجود مرة واحدة. خصوصا إذا كان هذا الحذف تستتبعه كثير من المنافع للنظام كأفراد وكمنظومة! ولا عزاء لجامعة الخرطوم، التي يصح أنها من علم وفتح مجال الترقي السياسي والصعود الإجتماعي، لمعظم عناصر هذا التشكيل العصابي! وتاليا ما نالته من امتيازات غير مستحقة. ولكن يصح أكثر أنها ذاتها (جامعة الخرطوم) من مكنها(تلك العناصر) من رقاب السياسة والوطن وتاليا رقاب المواطنين! وذلك ليس كحالة شاذة او فئة ضالة علي مناخ وبيئة الجامعة، ولكنها كانت نتيجة لأحد إفرازات الجامعة السلبية، علي الوطن والمجتمع وتاريخ البلاد بصفة عامة! من خلال حضانتها لحالة نخبوية/أفراد نخبويين، فوق الوطن والوطنية، قبل أن تفرض/يفرضوا ذواتهم كقادة أبديين علي السياسة والوطن وكرموز مقدسة علي المجتمع، لا لشئ إلا لكونهم خريجي جامعة الخرطوم، معقل الشطار والعباقرة والمميزين؟! وبغض النظر عن ربط هذه العبقرية او التميز المزعوم (صراحة او إستتار) بأي قضية وطنية او مصلحة عامة او مبادرة ذات مضمون إجتماعي؟ أي هو تميز من أجل التميز وميزاته الإمتيازية فقط؟ بمعني، تضخم وتورم النخبة بصفة عامة ونخبة جامعة الخرطوم بصفة خاصة، هو ما أصاب هذه الأمة (الشقية بعقوق وترفع أبناءها المتعلمين) في مقتل، وعلي كل المستويات، السياسية والإقتصادية والإجتماعية والخدمية ..الخ! ولكن ذلك لا ينفي الجانب الإيجابي للجامعة والوجوه المشرقة لخريجيها، خصوصا عندما ينزعوا عن إمكاناتهم وخدماتهم، أوهام القدرات الإعجازية والمواهب الإبداعية والتطلعات الإفتخارية! لأن ما ناله طلبتها وخريجيها من معارف او حظوظ او غيرها من المعطيات، قد تطال الغالبية إن لم يكن الجميع وفي كل مكان، إذا ما توافرت الظروف الملائمة بالتضافر مع الحظوظ القدرية! والسبب الأهم، إن في إبطالها وتحجيم مفاعيلها، حماية لهم قبل أن يكون صمام أمان لصيانة كرامة المجتمع وسلامة وإستقرار البلاد! أي بما أنها تشكل مدخل عريض لدخول الإستبداد، او أقلاه تشكل أكبر معيقات التخلص منه! وإلا ما هو الإستبداد إن لم يكن تمكن الغرور والعناد من النفس، والأسوأ انعكاس كوارثه علي الوطن؟! المهم، كنموذج لهذه الوضعية الأخيرة (الناحية الإيجابية) وغير المساهمات الحضارية والوطنية والخدمية والمشاركات السياسية في ثورات أكتوبر وأبريل والنضال ضد الشموليات بصفة عامة! نجد موقف تجمع أساتذة جامعة الخرطوم الأخير من محاولة بيع الجامعة (مجمع الوسط تحديدا، لأن أطراف الجامعة كشمبات طالتها كثير من الإنتهاكات دون لفت نظر أحد؟!) فهكذا موقف صادق وصارم، لشد من نحتاجه في هذه الأيام الحالكة، التي ظننا فيها أن أساتذة الجامعات السودانية بصفة عامة والخرطوم بصفة خاصة، يدرسون في جامعات أخري خارج الوطن! وكل هذه الجرائم الممنهجة ضد الطلاب خاصة وبيئة الجامعة بصفة عامة، تمر تحت ناظريهم وهم في غفوتهم غافلون؟! ووصلت بنا الظنون الي إعتبارهم مجرد ملحق تجميلي او تكميلي يزين قبح الإنقاذ! في حال لم يتحولوا الي تابع ذليل توجهه الإنقاذ أنًّي ومتي شاءت، لتبرير ممارساتها غير المبررة، او أقلاه الصمت عليها وإستنكارها في السر كأضعف أنواع الإعتراض! ولكن البيان الأخير لتجمع الأساتذة، أعادة للعلنية النضالية عافيتها! علي أن تستتبع هذه الخطوة الجريئة، بخطوات تصعيدية متتابعة، مع إشراك رصفائهم في الجامعات الأخري. وعموما هذه الخطوة هي جهاد أصغر، مقارنة بما تحتاجه البلاد في قادم الأيام، من جهود للتحرر وإعادة الإستقلال الحقيقي للوطن؟ وتمتد الإشادة بالطبع لطلاب جامعة الخرطوم وخريجيها، الذين يتصدون الآن لإنتهاكات السلطة الفاسدة والمستفزة، لحرمة الجامعة وإرثها ومكانتها وأرضها. ولكن الأهم من هذه الوقفة البطولية المقدرة، لطلاب وأساتذة وخريجي الجامعة! أن يتعدي هذا الموقف خصوصية جامعة الخرطوم، الي عمومية المواقف الوطنية والمبدئية. بمعني آخر، جامعة الخرطوم ليست أهم من مشروع الجزيرة او السكة حديد او مستشفي الخرطوم او غيرها من الجامعات والمرافق الخدمية والأراضي، داخل الدولة السودانية، والتي نزلت عليها السلطة إستيلاء وتخريب او سرقة وفساد وإحتيال! وتاليا، تراجع السلطات عن بيع جامعة الخرطوم لا يعني إنتهاء المشكلة، وعودة الأمور لنصابها والطلاب والأساتذة الي محاضراتهم، وكأن شيئا لم يكن؟ ولكن أن تحوَّل محاولة بيع الجامعة، الي زناد لتفجير كل القضايا والمطالب الوطنية السابقة! وعندما يترافق ذلك مع أحداث القتل المجاني الأخيرة للطلاب، فإن ذلك يؤكد أن المطالب الفئوية المعزولة او الإنتصار الفردي او الحلول الجزئية، لن تفضي لحلول جذرية لأزمة طابعها الشمول والعمق والإهتراء! والتي تجسدها آنيا سلطة الإنقاذ الإستبدادية الفاشية الفاسدة. وعليه كل محاولة إلتفافية علي هذا الهاجس الأكبر، كالمصالحة والمحاورة او المبادرات الحالمة لإيجاد نقاط إلتقاء معه! لا تصبح حرث في بحر الأوهام فقط! ولكنها تتعامي عن بداهة أن الأزمة ومسبب الأزمة، يستحيل عليهما إيجاد مخارج منها! وإلا لما سبباها في البدية، او أصرا علي المضي في دربها حتي النهاية؟! وتاليا، هم لا يسعون للحل الذي يطيح بهم خارج دائرة السلطة والسياسة، ولكنهم يرغبون في العكس! أي توريط الجميع في الأزمة، ومن ثم، تفريق أخطاءها وكوارثها بين القبائل السياسية والوطنية؟! وعليه مرة أخري، لن تفعل هذه الجهود حتي وإن كانت مخلصة، غير إضافة تعقيِّد جديد، لأزمة بلاد مستفحلة ولا تحتمل المزيد! وهذا غير منحها رخصة إستمرار او قيادة غير شرعية، لجماعة مبتذلة للسلطة ومهينة للسياسة، قبل أن ترهن الوطن للبيع ومصير المواطنين للمجهول؟! وقد يستيقظ المواطنون يوما (وكما الإنقلاب!) ويجدون أنفسهم وقد تعرضوا للإحتلال والإستيطان الأجنبي، في إعادة مأساوية لمشكلة فلسطين ونزع حلفا جديدة من أهلها، بعد أن غافلتهم السطلة وباعت الوطن للأغراب؟!
وبناءً علي ما سبق، يصبح ليس هنالك سبيل أمام الخلاص الوطني او إفتكاك الوطن من براثن الضياع! إلا المواجهة الشاملة مع هذا النظام الظالم أهله ووجوده وإستمراره طوال هذه الفترة المظلمة! وتاليا قطع كل سبل التواصل معه والإتصال به. أما أدوات هذه المواجهة الشاملة وساحاتها وتكتيكاتها، فهذا ما يجب أن تفكر فيه النخب المعارضة بصورة عاجلة، بحيث تستقطب أكبر قدر من الجمهور المتضرر الي صفها. ولن يتم ذلك، إلا إذا أدركت غالبية الجمهور، خطورة الأمر وحساسية المرحلة علي حاضرها ومستقبلها، وأنها صاحبة المصلحة الأولي والأخيرة، في إزاحة الطغمة الإنقاذوية الجاثمة علي صدر الوطن، وتاليا معيقة لأسباب نهوضه وفرص مواطنيه في الحياة الكريمة؟! ولقناعتي الشخصية بجدوي النضال السلمي تحت كل الظروف، كفارق في الأسلوب يعكس الفرق في الوعي والسلوك، او التحضر والهمجية، والأصح الإنقاذيين واللاإنقاذيين، في ساحة العمل الوطني! إضافة الي أنه يشكل إستجابة للمنادين به، وهم بدورهم لا يقلون شجاعة او قدرة علي التضحية من غيرهم! ولكن أعتقد أنهم بدورهم لا يملكون فرض هذا الخيار علي أحد، او المزايدة علي تيار مسلح أجبر علي حمل السلاح، في مواجهة سلطة عنفية، لا يصدف أن معظم تنازلاتها أُكرهت عليها عنفيا؟! ولكن تكمن أهمية وفاعلية ومضمونية النضال السلمي، وغير تكلفته المنخفضة بشريا وماديا (وهذا ما لا يستهان به لأي جهد او نشاط يستهدف خير الإنسان بوصفه إنسان) إلا أنه يستقطب أكبر قدر من الجمهور(لا يحتاج لصرف وتدريب) بالقدر الذي يُمكِّن هؤلاء المواطنين من التحكم في شكل وتركيب ومصير النظام القادم، الذي يعقب الإنقاذ بعد ذهابها الي الجحيم! بمعني، المشاركة الجماعية في المسؤولية العامة، تعطي حق المشاركة الجماعية في طرح الحلول وتحديد المصير المشترك! بعكس الحلول الفردية او الفصائلية المسلحة، خصوصا عندما تعمل بمعزل عن الرؤية السياسية الشاملة؟! أي عندما تتحول الي غاية في حد ذاتها، بدلا من وسيلة او أداة ذات دور محدد! المهم، فهي بحكم التضحيات الجسيمة التي تدفعها حصريا، بسبب ضعف المساهمة الجماعية في دعمها، إن لم تكن هي في الأساس نتاج لتخاذل المجتمع ككل في التصدي لأزمته! يصعب عليها إتاحة مساحة للمشاركة الجماعية، في الإنتصار الذي إنجزته بصورة فردية! وهذا في حال لم يستحل عليها قبول التنحي من المشهد الذي صنعته بكفاحها، سواء بطريقة ديمقراطية او غير ديمقراطية؟! فالسياسة الواقعية في جوهرها عملية حسابية، تحدد أرباحها وخسائرها بحجم العطاء والحنكة وفرص الواقع، وتاليا تصبح السلطة ليست منحة مجانية ينالها الجالسون علي رصيف الإنتظار، مهما تلونت بنبل شعاراتها وحسن نية أصحابها؟! ومن هذا المدخل المعقد، تصبح حقوق بقية المواطنين الشرعية في الرقابة والمحاسبة وتحديد مصير السلطة، هي موضع جدل؟! في الوقت الذي تكسب فيه الفصائل المسلحة، صاحبة الدور الأساس في الإزاحة والعبء الأكبر في حمل مسؤولية التغيير، جرعة زائدة من الغرور وإرادة السيطرة ورفع سقف مصالحها الخاصة، في مواجهة مصالح الجمهور العريض! أي بما يكافئ حجم التضحيات والخسائر كما أسلفنا، وتاليا ينفتح باب المحاصصة علي مصراعيه، والذي يفضي بدوره للإزاحة العنفية بين شركاء الأمس أعداء اليوم! ومن ثم إعادة سيرة الإستبداد، ولكن بنسخة أكثر دموية وجذرية في القطع مع الشريك، ناهيك عن الآخرين (هم عمليا خارج الحسابات)! والسبب ليس حب السلطة، فهذا من الشيوع بمكان! ولكن لأن السلطة واحدة والفصائل متعددة ووسيلتها السلاح! ومؤكد هكذا سلطة، طابعها التسلط والإقصاء للآخر والإحتكار للإمتياز؟! وعندها يصبح الحديث عن الديمقراطية والمشاركة والشفافية والحكم الرشيد..الخ، هو نوع من المحرمات! إن لم تصبح ترف فكري للمهاجرين في المنافي البعيدة (وكأنها تنقصهم!) والتي بدورها ستكتظ بالمهاجرين الجدد (بصورة شرعية او غيرها) من بلاد تصبح ليست طاردة فقط، ولكن مهددة لحياة بقية السكان! أي عندما لا تستهدف السلطة خدمة المواطنين ولكن أرواحهم؟!
ولكن السؤال، ما هي الكيفية التي تسمح للجميع او الغالبية، بالمشاركة في مواجهة النظام، ومن ثم الحق في بناء الوطن بالتراضي! او أقلاه إبتداع آلية فعَّالة للتنسيق بين المعارضة السلمية والمسلحة وغالبية المواطنين (أصحاب الوجعة). خصوصا وأن هذه الدعوات مكرورة، ونتائجها كانت دائما دون المستوي المطلوب! وظل العجز في إحداث إختراق حقيقي علي هذه الجبهة تحديدا، هو كعب أخيل الفعل المعارض بامتياز، وهذا في حال لم يُشكك في جدوي الفعل المعارض ومصداقية المعارضين. بمعني آخر، بقدر ما السلطة ضعيفة (لا شرعية وتاليا لا تمثل إلا نفسها) وتبدو قوية ظاهريا ودعائيا وإعلاميا! بقدر ما ممكنات القوة والتماسك والصلابة متوافرة لدي المعارضة، في حين أنها لم تأخذ بها وبكل أسباب المنعة الأخري، من حقها الشرعي في المشاركة والإدارة، والموضوعية في مطالبها الديمقراطية، إضافة الي إتساع مكوناتها وقاعدتها، ناهيك عن أخطاء السلطة الفضائحية وتجاوزاتها الإستفزازية، في حق الوطن والمواطن والمعارضة بالأخص؟! والأسوأ أن المعارضة تركل كل هذا، وتستعصم بالخلافات البينية والإنشقاقات الداخلية والإتفاقيات الثنائية، وتقديم مصالح كل فصيل علي مصالح المجموعة، وبما فيها المصلحة العامة للوطن وبقية المواطنين؟! أي مكونات المعارضة محكومة برؤيتها كمكونات، وليس كجبهة عريضة تستوعب هذه التباينات وتصهر وجهات النظر المختلفة، وتؤطرها جميعا داخل رؤية شاملة وموحدة! طالما الهدف الأصل واحد ومحدد، وهو إزالة المنظومة الإجرامية الإنقاذوية، كخطوة أساسية لبناء وطن حر ديمقراطي! قادر بدوره علي إستيعاب جميع المكونات الإجتماعية والثقافية والمناطقية..الخ علي قدم المساواة. وبتعبير آخر، طالما مكونات المعارضة، عاجزة عن بناء توافقات متوافرة بينها، وتملك قضية محورية ( عداءها المحق للإنقاذ الإنقلابوية) تساعدها علي هذا البناء او الوحدة الإندماجية الكاملة، فتاليا هي أضعف من مواجهة او إقتلاع هذا العدو المرواغ! أي طريق الخلاص من الإنقاذ، لا يمر إلا عبر هذه الوحدة المشتهاة/المتمنِّعة.
المهم، ليس هنالك أسهل من بناء جبهة عريضة وشاملة، لمواجهة نظام عدمي وخاوٍ كالإنقاذ، وذلك بالطبع فقط، عندما تتوافر الإرادة الوطنية الكاملة، والإيمان بالديمقراطية الشاملة، والإحترام التام لدماء الشهداء، عبر الوفاء للقضايا التي إستشهدوا من أجلها! وكل ذلك في أجواء من الشفافية. أما الخطوات والتكتيكات فيمكن أن تترك لها مساحة من المرونة، بحيث تستجيب لإستعدادات كل فصيل وجماعة. والأهم بناء أرضية او إستراتيجبة من النفس الطويل، مع التمسك بجذوة النضال مشتعلة مهما طال المشوار! أي من دون إنتظار مصادفات بإستشهاد أحد بطريقة رعناء، أو بيع ممتلكات عامة وعزيزة علينا جميعا بسفور مهين؟! بمعني آخر، يجب أن يسبق العمل والبذل إنتظار المفاجآت والمكافآت، وذلك من خلال تحوُّل هكذا جيل، خليط من الأخطاء وسوء الحظ، الي جيل من التضحيات، يتمثل دوره الوحيد في تهيئة البيئة الوطنية السليمة للأجيال القادمة. وأهمية هكذا جيل او نخبة كهذه، أنها تشكل القدوة (النواة الصلبة) التي يفتقدها حافز التضامن والتلاقي العام؟! أي يمكن ترتيب الأمر كالتالي، بناء قضية كبري ومتفق عليها (متلازمة إزاحة الإنقاذ/إحداث تحول ديمقراطي) وهي بدورها تفرز قادة مناضلين وديمقراطيين! وعندما تتجسد في الأخرين قيم الديمقراطية الحقة، والدفاع المجرد عن القضية/ الوطن/مصالح المواطنين؟! عندها فقط يتم إنتاج او إكتمال معمار، القادة الملهمون للجماهير! أي ما يُمكِّن الجماهير من التضامن التلقائي والإلتفاف حولها (وضعية محورية الفرد في صناعة التاريخ، وهذا ليس تجاوزا ولا كذلك عبادة للشخوص او هضم لمساهمة الشركاء! والدليل غير إن الإلهام مسألة واقعية وخارج السيطرة العلمية او الصناعة التعليمية، هو ما يحدثه القادة المنحرفون من دمار لا يمكن تصوره في مسار التاريخ!). المهم، بالصول الي هذه النقطة، يصبح مسار التغيير حتمي، ومسألة الإنتصار الكاسح علي الإستبداد وأعوانه/شواطينه هو مسألة وقت ليس إلا! أي قد يؤخر النصر قليلا ولكنه لا يقوي علي وقف عجلة تحركه مطلقا؟! ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل الظروف الضاغطة الحالية والأخطار المحدقة والخسائر المضاعفة تحتمل الإنتظار؟ والإجابة المحتملة، هذا ما يجعل المسارعة بكسب الوقت وإتفاق الفرقاء في المعارضة، مسألة حياة وطن او موت مواطنين! ولكن الإجابة المؤكدة، ليست هنالك إجابة سهلة وجاهزة لنتحرق شوقا لمعرفتها، كلمسة رقيقة علي سطح المصباح السحري او همسة لطيفة علي أذن الأمنيات السعيدة قبل النوم؟ فالإجابة الحقة نملكها جميعا، أي بمقدار إيماننا وعطاءنا وصبرنا علي هذا الطريق (التغيير/التحديث) الشاق الطويل! كما أنه من السهل نقد النظام بكل هذه الجرائم، ولكن من الصعب نقد أنفسنا وتقصيرنا في التصدي له! والأهم، أن يظلمنا الآخرون فهذا أمر منكر ومرفوض، ولكن أن نظلم نحن الآخرين فهذا أكثر سوء، وهذا في حال لم يكن هزمية لقضية العدالة في عقر دارها؟
ولكن كمدخل للإستفادة من الطاقات التجمعية للجماهير، في ظل حصار السلطة وإمتداد شبكاتها الأمنية المتشعبة، وكما تم توظيف تجمعات المساجد في هذه المواجهة المفتوحة مع السلطة الغاشمة، يمكن كذلك توظيف تجمعات الرياضة والفن والمناسبات الدينية كالأعياد والمولد النبوي، لتلبية دعوات الخروج والمشاركات السلمية، في الإعتراض علي السلطة والمطالبة بالتغيير! علي أن يسبق ذلك الإعداد الجيد لها ولما يعقبها، بصورة منهجية ترتكز علي رؤية حل شامل لمعضلات البلاد، الآنية والماضوية والمستقبلية! وبالطبع دون نسيان سلاح العصيان المدني وغيرها من إبداعات ثورية، ليس من قبل القادة السياسيين فقط، ولكن من خلال إشراك منظمات المجتمع المدني والجماهير المستهدفة بالتغيير ذاتها. والأهم إستصحاب ردة فعل السلطة الهمجية والوحشية في سلوكها، وكيفية تشتتيت جهدها وكسب العناصر غير الملوثة بالدماء والنهب من صفوفها! وليكن الشعار مثلا، حق الشعب وبقاء الوطن أقوي من كل السلطات.
الخلاصة:
1/ مسلسل الإغتيالات الطلابي سيتواصل بنفس الطريقة المنهجية التي نحرت الشهيدين!
2/ مسلسل البيع كذلك، سيتواصل بهمة ونشاط وإستفزاز، لجامعة الخرطوم او غيرها، والسبب ليس فساد وجشع أفراد النظام فقط! ولكن قبل ذلك، لإنعدام الخيال والقدرة علي إيجاد بدائل للأزمات المالية المتصاعدة، حتي وإن كانت متوافرة وتحت أقدامهم؟
3/ ليس هنالك إمكانية لإصلاح الإنقاذ او الوصول معها لحلول وسط! وتاليا، ليس هنالك حل إلا المواجهة الشاملة، وإقتلاعها من جذورها ومعها آثارها الي مزبلة التاريخ!
4/ المواجهة الشاملة، تحتاج لبناء منظومة بديلة وحديثة تقطع مع التجارب السابقة، علي أن تؤسس لوسائل إبداعية، فوق طاقة إستيعاب قدرات وأدوات دفاع وحماية النظام، في الوقت الذي تكون فيه جاذبة ومستقطبة للغالبية من المواطنين!
5/ دماء الشهداء والدفاع عن الصروح العلمية والرموز الوطنية، هي ديون في أعناقنا، قبل أن تكون مشاعل لإنارة طريق التحرر والخلاص!
آخر الكلام:
تهنئة حارة نسوقها للإخوة في دولة جنوب السودان، علي عودة الوعي وإنتهاء عهد النزاعات العدمية والحروبات التي لا معني لها، سوي زيادة معاناة المواطنين في دولة الجنوب الحبيب! وهم أصلا عانوا من أهوال إرتبطت بميلاد او تشكل الدولة السودانية الأم ما بعد الإستقلال! أي عاصروا الحروب وتعايشوا مع فظائعها ما يقارب النصف قرن! وضحوا من أجل حقهم في الوجود كما هم، والإعتراف بإكتمال نصاب إنسانيتهم ووطنيتهم، كما لم تشهده الإنسانية من قبل! والحال كذلك، ليس من العدل والإنصاف في شئ، أن تعاد نفس السيرة الدموية مع ميلاد دولتهم الجديدة؟! أي أن يكافئ صبرهم وتضحياتهم البطولية، بمزيد من إهدار الأنفس والثمرات! ما يبيح وصف المرحلة السابقة، بأنها التعبير الحربي لصراع القادة العبثي، او مرحلة إرتفاع هواجس السلطة وتدني الإحساس بالمسؤولية تجاه خدمة المواطنين! وبكل ما يشكله ذلك من تهديد لبناء دولة في مرحلة الإنشاء الأولي، ليس كمبانٍ ولكن كمعانٍ ايضا وهو الأخطر. وعليه، ليكن هذا الإتفاق بداية جادة وحقيقية للشروع في التخطيط والتنفيذ والتقديم للتنمية الشاملة والرعاية الكاملة لحقوق إنسان الجنوب الحبيب.
والتهنئة تمتد كذلك للإخوة في دولة شمال الوادي، وقد علمت ومن خلال متابعة أحد البرامج الحوارية علي قناة بي بي سي العربية، أن أحد الشركات المصرية العاملة في صناعة الدواء، قد توصلت لإنتاج عقار يساعد في علاج مرض إلتهاب الكبد الوبائي. ومصدر التهنئة والذي يشكل بدوره مصدر فخر للمصريين وغيرهم من مواطني الدول النامية، وغير الإنجاز العلمي بالإمكانات المحدودة، وإرتباط البحث العلمي بمشكلة مؤرقة للمواطنين من ذوي الدخل المحدود، وهم الغالبية (قلة الدخل نفسها مصدر للأمراض او زيادة تعقيدها). أن الدواء الجديد سعره يقل ب(90%) او أكثر من سعر الدواء الأصل المتواجد في الأسواق، والذي يستعصي حتي علي القادرين! ومصدره غربي، ولو أنه يباع بأسعار فلكية في دول الغرب ذاتها؟! وبنسبة نجاح وصلت ل(100%) من الحالات التي إستخدمت الدواء، ولأحد فصائل الوباء وأعتقد أنه سي لو صحت الذاكرة (والعملية كلها تمت تحت إشراف أطباء وعلماء صيدلة، وبما يستجيب لمتطلبات التجارب العلمية، وهو ما يمنحه صك المداولة التجارية حسب أصول المهنة وشروطها او شهادة العبور التي تمنح له). وتجدر الملاحظة الي أن أسعار الدواء خاضعة لقانون الإحتكارات، أي ما يرفع أسعارها ليس زيادة تكلفة إنتاجها، وإنما سيطرة أباطرة الدواء من الشركات العالمية علي الأسواق.
وعوضا عن التهنئة نرسل المواساة لمرضي الفشل الكلوي في الداخل، وهم يعانون من النقص في توفير الأدوية الأساسية بسبب شحها في الأسواق، ولا نقول مراكز العلاج او المستشفيات، التي تقع مسؤوليتها علي عاتق الوزراء المستثمرين؟! ودمتم في رعاية الله.
mekawy222280@yahoo.com