مرت ستون عاما منذ استقلال البلاد التي لم يتحقق لشعبها استقرار في أنظمة الحرية، والديموقراطية، والاستقلال الحقيقي عن مطامع المنتفعين، والذين هم أكثر حرصا من المستعمر على اكتناز المال، واستعباد الناس، وإهدار دمائهم، وتقطيع أوصالهم. وعند جرد هذه السنوات التي ملأت المآقي بالدموع، وأغرقت الأجساد بالدماء، فإن ما يتضح هو وفاة ما يناهز مليوني شخصا في حروب حول الثروة، والسلطة، والنفوذ، كما تقول بعض التقديرات. بعدها يمكن جرد الخراب الذي ألم بالبيئة، والتنمية البشرية، وتدمير القطاعات المنتجة في مجال الزراعة، والرعي، وتآكل النظم الإدارية التي تركها المستعمر، وفقدان الكوادر البشرية المدربة في قطاعات العمل العام، وانقسام الوطن إلى جزئين، واستمرار الحرب في مناطق النزاع، وتفشي التخلف والتطرف، وانعدام الماء الصالح لشرب الإنسان حتى في عاصمة البلاد، وعدم وجود المجاري الصحية في المدن الكبيرة، فضلا عن استيطان الأمراض والأوبئة، ووجود مليونين من اللاجئين في دول الجوار، وتشرد مئات الآلاف من النازحين داخليا، وإرهاق المحيطين الإقليمي والدولي بعدد من الميزانيات المخصصة للإغاثة، وبقية المساعدات الإنسانية التي يعتمد عليها السودانيون في أولويات الحياة، إلخ.
هذا الوضع المزري الذي يسير كل يوم نحو الأسوأ أتاح الفرصة لعدد من الكتاب، والأكاديميين، الجهر بضرورة صنع قطيعة مع الحلول المحلية التي تتعهدها النخبة الوطنية، والاعتماد على المجتمع الدولي للتدخل، وتسيير شؤون السودان بسبب أن قواعد النخبة، والمجتمع، غير قادرة على تحمل مسؤولية الحكم. ولقد اطلعنا هذا الأسبوع على مقال للبروفيسير مهدي أمين التوم، وهو أحد المثقفين والأكاديميين الذين قدموا الكثير للسودان، وما يزال يثري الساحة السياسية بين الفينة والأخرى بمقالات ملؤها الحرص على البلاد ومستقبلها، وتكتنفها لغة صريحة وإن كان بعض بواعثها ناتج من الإحباط إزاء استطالة الانتظار للتغيير الذي يحقق الاستقرار، والسلام، والأمن، والتنمية. وقد عبر التوم صراحة في مقالته الأخيرة بعد تشخيص متماسك للأزمة السودانية عن ضرورة وضع البلاد تحت الوصاية الدولية لإنقاذها.
والحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي نقرأ فيها مثل هذه المقالات التي تدعوا لوضع الشأن السوداني تحت الوصاية الدولية. فقد لاذ بعض الكتاب والشخصيات العامة إلى غذ السير في هذا الاتجاه، وربما اقتنع كثير من النخب، وعامة الناس، في ظل الإحباط العام بهذا الحل. ولكن لم توات كثير منهم الشجاعة التي ألزمت التوم بالجهر المسبب بحيثياته العديدة التي تطرق إليها في مقاله الذي وجد مجالا واسعا للانتشار والتداول في مواقع الإنترنت، والتواصل الاجتماعي في الفيس بووك، وتويتر، وغيرهما.
بدءً هناك أمر هام لا بد أن نضعه في الحسبان ونحن نتطرق لهذا الموضوع الحيوي، وهو عدد المهاجرين الذين اغتربوا، أو استوطنوا، مع أسرهم في كثير من دول العالم. فهم بشكل، أو بآخر، حققوا عمليا الحل في المجتمع الإنساني العريض الذي أصبح وصياً عليهم، وعلى أطفالهم، وذرياتهم لا بد. وهذا المجتمع الإنساني أعرض من الدولي المؤثر الذي يتراءى لنا في شكل المنظمة الدولية التي لا بد أن الأستاذ مهدي أمين التوم يرنو إليها لتتحمل مسؤوليات أخلاقية، وإنسانية، نحو شعب السودان المتعدد في قومياته. وقد أشرنا في مقال سابق إلى التخوف الذي ينتاب بعض الكتاب، والمهتمين بالشأن السياسي، من دعوات الانفصال، أو تقرير المصير. وقلنا وقتذاك إن انفصال السودانيين بعضهم بعضا، أو تقرير مصيرهم، قد وقع نهارا جهارا. فالهجرات الداخلية الكثيفة من الريف إلى المدن، ومنها إلى الخارج، هي نوع من الانفصال عن الجغرافيا باتجاه تقرير المصير في أراضي الله الواسعة، سواء التي تقع في السودان، أو الخليج، أو أمريكا، أو إسرائيل، أو الدنمارك.
وأشرنا في ذلك المقال إلى أن كثيرا من السودانيين الراشدين المقيمين في البلاد مغتربون فيها روحيا. وذلك بحكم أنهم صاروا مدفوعين نحو مستقبل مجهول، ولا يستطيعون أن يجدوا مناخا صالحا للإنتاج، أو الإحساس بأن الحاضر مبشر بالخروج عن دوامة ضنك العيش. وهذه الفئة المتمترسة في الداخل إن وجدت سبيلا مأمونا للخروج نحو الفضاءات الإنسانية بحثا عن أوطان جديدة تحقق تطلعاتهم لفعلوا حتى يتركوا خلفهم هؤلاء الإسلاميين الذين كانوا فقراء ثم اغتربوا نحو مواقع الغنائم في البلاد، وبنوا عبرها “العمارات السوامق”، وأصبحوا أيضا يحوزون على المال، والعقار، ويسهمون بنصيب وافر في التجارة الدولية. وقد أوردت الصحف خبرا جاء فيه أن “الحكومة السودانية قالت إنها تؤيد بشدة هجرة السودانيين للعمل بالخارج. وإشارت وزيرة العمل وتنمية الموارد البشرية، إشراقة سيد محمود إلى أن وزارتها تشجع الهجرة والعمل بالخارج بسبب ما اسمته بـ(الاختناق الداخلي)…”. وهكذا تعترف الحكومة نفسها بأن الحل هو تصدير المواطنين للمجتمع الإنساني العريض حتى يتحمل مسؤوليته نحوهم بعد أن أصبح الوجود المثمر في البلاد يتم لكثير من المقتدرين انتهازيا، ومعظمهم هم الذين يرضعون من ثدي الدولة بشكل مباشر، أو غير مباشر.
إن دعوة الأستاذ مهدي أمين التوم التي يطالب فيها بتحقيق الوصايا على السودان لا تمثل حلا موضوعيا بالنظر إلى تجربتنا مع القوى الدولية المؤثرة في المنظمة الأممية. فالولايات المتحدة الآن تريد الهبوط الناعم الذي يبقي مصالحها المستمرة التي ظلت تحققها من نظام الإنقاذ. أما روسيا، والصين، فلا حاجة لنا بتذكير التوم بدورهما في تثبيت دعائم نظام الإنقاذ، والدفاع عن إجرامه في المنظمات الدولية التي تقع عليها أعباء الوصاية المتصورة. ولعل هذه الدول الثلاثة تدرك جيدا المآل الذي وصل إليه السودان اليوم، وقد ساهم دعمها المادي، والمعنوي، للإسلاميين في تفجير الأوضاع في مناطق النزاع. إذ إن السلاح المستخدم إنما هو مستورد من هذه البلدان المؤثرة عالميا. أما كل أوروبا فقد تجاهل المحكمة الجنائية الدولية وعقدت أنظمتها صفقات مع النظام السوداني الذي استفاد من مال البرلمان الأوروبي لتدعيم ترسانته العسكرية من خلال دوره في إيقاف الهجرة الأفريقية. إذن فإن هذه الدولة التي هي جماع الموقف المؤثر دوليا طرف أساس في إيصال السودان إلى هذا الوضع، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر. بالإضافة إلى ذلك فإن تجربة السودان مع قوات اليوناميد تمثل أكبر فشل للمجتمع الدولي في تحقيق السلام في دارفور. وقد عبرت الدكتورة عائشة البصري المتحدثة السابقة باسم اليوناميد عن هذا الفشل في العديد من مقالاتها، ومواقفها، وندواتها، بل وأشارت إلى تورط قيادة الأمم المتحدة نفسها في إخفاء الحقائق عن ما جرى في الإقليم. وإذا كانت “أندية” رؤساء الدول الأفريقية والعربية والإسلامية هي جزء من المكون الدولي المعني بتنفيذ الوصاية على السودان فإن الأستاذ مهدي يدرك أكثر منا طبيعة هذه الأندية المعنية بالدفاع عن رموزها أكثر من الشعوب المغلوبة على أمرها. وإذا اعتبرنا بتجارب المنظمة الدولية في قارات الدنيا فإن معظم الصراعات الإقليمية، والدولية، هي معبر جوهري عن أطماع الدول المسيطرة على مجلس الأمن. وهي التي تدير المنظمات الدولية وفق مصالحها القصوى، وإلا لاستطاعت هذه “الدول العظمى” بقدراتها العسكرية، والاقتصادية، والإعلامية، محاصرة الديكتاتوريين، وسن الإعلان العالمي لمحاربة الأنظمة الشمولية في الأرض.
مهما ساءت الظروف في البلاد بعد سيطرة الطفيلية الرأسمالية عليه فلا بد من أن يتفتت النظام ما دامت الديكتاتورية تحمل بذرة فنائها، آجلا أم عاجلا. ولا بد من العودة إلى بسطامنا السوداني. فالحل لقضايا السودان يكمن فيه، ولا يتم إلا بفكر بنيه، وبناته، مهما طال زمن الإحباط العام. فقط يتوجب على المثقفين أن يحذوا حذو الأستاذ مهدي أمين التوم بأن يفكروا في الليلة الظلماء والمقمرة معا. وحاجة الناس إليهم تشتد خصوصا في أوضاع الظلام، والتطرف، والقمع، وانسداد الأفق، حتى يستفيد الناس من علمهم، وتجاربهم، ومواقفهم. فالنخبة هي التي تمنح الأمل لا أن تنزوي حتى تجد وضعا طبيعيا مريحا لتعود للتفكير بعد انقشاع الظلمة. ولعل هذه هي مسببات أزمة بلادنا، فكثير من الشخصيات العامة تحبذ الإسهام في الأوضاع الديموقراطية بكثير من النشاط، ولكنها في الأزمنة التي تتطلب تحدي صنائع الديكتاتور تلوذ إلى الصمت، ولعن الظلام، ولوم المعارضة. وعليه نثمن الإسهامات الوطنية التي يقدمها الأستاذ مهدي أمين التوم هنا وهناك، ونأمل أن يواصل في التثقيف السياسي، وأن يسهم زملاؤه، وأصدقاؤه، وتلاميذه، في تقديم مقاربات لما تضمنته مقالته من أفكار حتى يساعد ذلك في الوعي الوطني.