اسماعيل عبد الله
إنّ توحيد الصف المعارض لمنظومة الانقاذ اصبح ضرورة ملحة في الوقت الراهن , فبعد حدوث التغيير لن تكون هنالك مساحة زمنية , يمكن ان يضيعها الناس في الخلافات الجانبية التي لا تمس جوهر ازماتهم , فمن المعلوم ان الحقب الديمقراطية السابقة قد شهدت الكثير من الجدل حول تشكيل الحكومات الائتلافية , التي اصطرعت حولها الاحزاب و التنظيمات السياسية , فكانت هنالك الاخفاقات التي جعلت العسكر ينقضّون على تلك الديمقراطيات الهزيلة ويجهزون عليها , و يقضون على لبنتها الاساسية ليعيسوا بعدها في ارض السودان فساداً , هذه الدورة الخبيثة في عملية تعاقب الحكومات العسكرية المدمرة لمقدرات الوطن مع الحكومات الديمقراطية قصيرة الأجل , يجب ان تعالج اليوم قبل الغد , وقبل ان تتكرر المأساة للمرة الرابعة , فارهاصات و رياح التغيير التي عصفت مع شتاء هذا العام الجديد , لابد لها من موجه و راعي يضعها في الطريق الصحيح , ان بادرة التقاء الطيف السوداني المعارض في احدى المدن البريطانية قبل ايام , تعتبر خطوة ايجابية في الطريق الصحيح , و يجب ان تتبعها خطوات اكثر فاعلية في مقبل الايام , وبحسب توقعات المراقبين فانّ حدة المواجهه بين الشعب ونظامه الفاشل سوف تُصعّد الى اعلى درجات الصدام و المقاومة , بقوة دفع كبيرة تدعمها غضبة الشارع جراء الارتفاع الجنوني في اسعار السلع الاستهلاكية , فالمشكلة الاقتصادية التي خلقها نظام الانقاذ وصلت الى اسوأ مرحلة من مراحل التعقيد , ولقد احتار النظام ذات نفسه في امر هذه الفخاخ , التي اوقع نفسه فيها من حيث يدري او لا يدري , حيث اصبح عاجزاً عجزاً تاماً في تقديم الحلول , بل حتى انه لم يقدر على تقديم اجوبة واضحة , لقادة الرأي من صحفيين و اعلاميين و مراسلي قنوات تلفزيونية محلية و اجنبية , حول هذا التدهور الاقتصادي المريع الذي تشهده البلاد , بل ذهب الى ارتكاب الحماقات , وذلك بقيامه بحملات جائرة استهدفت مصادرة الصحف و اعتقال الصحفيين وكتاب الرأي , وهذه دلالة واضحة على حالة الافلاس والفشل الذريع الذي وصل اليه نظام البشير.
عندما نلقي الضوء على كيانات المعارضة السودانية المدنية و المسلحة , نلحظ عدم التماسك و انيهار تحالفاتها التي لا تصمد طويلاً , كما جرى للجبهة الثورية من انشقاق في الماضي القريب , هذه الهشاشة في تماسك هذه التحالفات يعزيها المحللون الى عاملين اساسيين , الاول هو اختلاف الايدلوجيا التي ينطلق منها كل جسم من هذه الاجسام المعارضة , فهنالك فجوة كبيرة ما بين تنظيمات وحركات اليسار وبين الاحزاب اليمينية في السودان , وهذا الصراع الايدلوجي قد القى بظلاله على العلاقة بين حركة العدل و المساواة و حركة تحرير السودان في دارفور , برغم وحدة الهدف و الاشتراك في المصير الواحد , الا ان قادة التحرير لا يرون في زعماء العدالة و المساواة سوى انهم نبت اسلامي , ساهم في تثبيت اركان منظومة الانقاذ السرطانية في بداية اندلاع الانقلاب المشئوم , ذات الاهتزاز في الثقة حدث عندما تأزمت عملية انتقال رئاسة الجبهة الثورية من مالك عقار الى الذي يليه , بعد انقضاء مدة دورته الرئاسية للجبهة , فقادة الحركة الشعبية الذين يستند غالبيتهم الى ايدلوجيا كارل ماركس , لا يثقون في الآخر اليميني حتى ولو كان رافعاً لشعار الدولة المدنية , فهذه الصراعات البينية تعتبر السبب الرئيسي في استمرار منظومة الانقاذ في الحكم , طيلة هذه المدة التي تجاوزت الربع قرن من الزمان , فمشكلة الاحزاب و التنظيمات السياسية السودانية انها قامت و أسست على خلفيات عقائدية , وبعضها تبنته الطوائف الدينية , فلم يطل علينا تنظيم سوداني واحد يرفع شعار الخدمات ويضعه في الدرجة الاولى في قائمة اولوياته , كما هي العادة في البلدان و العوالم المتقدمة , فالجبهة الاسلامية مثلاً , استهلكت طاقاتها و طاقات الشعب السوداني في تبني مشاريع وهمية وميتافيزيقية , ولم تتناول امر مأكل و مشرب المواطن بالدرجة الاساس , و لم تولي اهتماماً للخدمات الضرورية للانسان , مثل الصحة و التعليم و المواصلات و توفير الخبز و العيش.
اما العامل الثاني الذي لعب دوراً كبيراً في ضعضة و تهشيم تحالفات المعارضة السودانية , هو العامل الاثني , وسوف تكون هذه الصراعات الاثنية قاصمة ظهر للدولة السودانية اذا لم يتدارك السياسيون و الناشطون وقيادات التنظيمات العسكرية هذا الامر , فهذا العامل هو الاكثر حضوراً في صراع السلطة و الثروة في هذه البلاد , بل حتى في الحياة الاجتماعية السودانية التي لم يكن ماضيها كما هو حاضرها اليوم , لما اكتنفها من ظهور لحالات من الفصام الاجتماعي الحاد بين مكونات السكان , لقد شهدنا قبل شهور قيام ثورة تصحيحية داخلية في مؤسسات الحركة الشعبية شمال , قادها عبد العزيز الحلو , والتي اقصى بموجبها كل من ياسر عرمان و مالك عقار من المشهد الرسمي لفعاليات الحركة , لقد انفجرت هذه الثورة الداخلية كردة فعل تجاه ممارسات ياسر عرمان التوسعية و الاحتكارية و الاقصائية , وهو الرجل الشمالي الاشهر الذي بقي في الحركة بعد ما ذهب التنظيم الرئيسي مع انفصال جنوب السودان , فعرمان لم يشفع له ملفه السياسي العريق والقديم مع الحركة الشعبية , فطفحت على السطح المسألة العرقية , و انعدام الثقة بين رموز هامش السودان و الكادر السياسي المركزي في هذا الانقلاب التصحيحي الاخير بجبال النوبة.
هذا الوضع الهش لكيانات المعارضة سوف ينهك المواطن بعد زوال النظام , فالمواطن مازال يعاني في معاشه و أمنه , و لا يريد ان يبدأ مسيرة اخرى من الركض وراء وعود الحكام الفاشلين وغير المسئولين , ويهمه وجود منظومة حكم مستقرة لها استراتيجية شفافة لمعالجة قضايا الفقر و تمكينه في الاستفادة من الخدمات الاساسية , ويجب ان تكون مسودة هذه الاستراتيجية متاحة لكل من بحث عنها من المواطنين , حتى يتمكنوا من معرفة مصيرهم بعد زوال حكم الطاغية , فهذا الانسان ذو الجسد المنهك لا يستحق عشوائية الادارة التي اصبحت سمة بارزة من سمات الحكومات غير الراشدة , التي تتشكل في الليل و تنفض في صباح اليوم التالي , مثلما كان يحدث في العهود الديمقراطية السابقة , ولهذه الاسباب قد نوهنا من قبل بضرورة تشكيل حكومة منفى تعكس تنوع و تعدد الطيف السياسي و الاجتماعي السوداني , هذه الحكومة على اقل تقدير لمخرجاتها ونتائجها , ان هذه المخرجات سوف تحسم قضايا المناكفات و التجاذبات المتوقع حدوثها , حول محاصصات الاحزاب و الحركات و التنظيمات السياسية , ونسبة مشاركة كل منها في كيكة السلطة , فالترتيب لمرحلة ما بعد الانقاذ تفرضه الضرورة القصوى , و توجبه المسئولية الوطنية و الاخلاقية.
وايضاً لابد من استصحاب الطريقة المثلى لتطبيق نظام حكم اتحادي (فدرالي) حقيقي , يتوائم مع خصوصية الاقاليم السودانية الكبيرة , وهذا النظام الاداري الفدرالي بالضرورة ان يقوم باعادة النموذج القديم للاقاليم الى وضعه السابق , اقليم دارفور , و اقليم كردفان , والاقليم الشرقي , والاقليم الشمالي , و الاقليم الاوسط , و العاصمة المثلثة , وكما هو مطروح في هذا النوع من النظم الادارية , فان هذه الاقاليم تتمتع باستقلالية كبيرة في ادارة مواردها واقتصادياتها بما يعود بالنفع عليها و على خزينة الدولة الاتحادية , وفي النظام الفدرالي هذا هنالك مساهمة ومشاركة يحددها الدستور , فيما يتعلق بدعم ميزانيات الاقاليم ذات الموارد الشحيحة , من حكومات الاقاليم الغنية بمواردها , والتي في الغالب الاعم تحصل على فائض دخل في ميزانياتها السنوية , فوجود رؤية مشتركة من جميع اطراف منظمات العمل السياسي المعارض لنظام الانقاذ , أمر في غاية الضرورة و الاهمية , حتى يتم تجاوز العقبات وتسهيل المعضلات التي من المؤكد حدوثها , ومن البديهي ان يواجهها البديل القادم بعد زوال كابوس الانقاذ.
ismeel1@hotmail.com