لم ينته عصر الانقلابات العسكرية بعد في العالم الثالث. فواحد من السيناريوهات المتوقعة لحالة البلاد، والتي لا تجد تحليلا كافيا لدى المراقبين هي إمكانية إقدام مغامرين إسلامويين، أو غيرهم، داخل المؤسسة العسكرية على إنجاح ما فشلت فيه جماعة العميد ود إبراهيم وصلاح قوش. من ناحية ثانية كثيرا ما نخطئ تفسير خطوات البشير بين الفينة والأخرى نحو تغيير رئاسة الأركان المشتركة ورئاسات الأركان، برية، وجوية، فضلا عن إحالة مئات الضباط من رتب النقيب، وما فوق. وذلك مما يُظن لدى النظام أنه “الصالح العسكري” سواء ارتبط بعدم وصول المحالين إلى سن المعاش، أو الإبعاد من الخدمة دون سبب مهني كافٍ. الأكثر من ذلك لاحظنا أنه كثيرا ما أعاد البشير عسكريين للخدمة للقيام بمهام محددة برغم وجود المئات من الضباط الموالين للحركة الإسلامية. ولسنا في حاجة للتذكير أن فقدان الثقة في الجيش بدأ بـ”مجلس قيادة الثورة” نفسه، والذي تفرقت عضويته أيدي سبأ، ولم يبق إلا واحد بجانب البشير.
ولعله كقائد أعلى للقوات المسلحة فقد أقدم البشير قبل عامين على إحالة الفريق أول ركن عصمت عبد الرحمن وثلاثة من “فرقاء أول” وإبدالهم برئاسة جديدة من الفريق أول مهندس ركن مصطفي عثمان عبيد رئيسا للأركان المشتركة، ثم لاحقا عين الفريق أول ركن عماد الدين مصطفى عدوي في منصب رئيس الأركان المشتركة. وقد تم تغيير هذه الرئاسات الثلاثة في ظرف لم يتجاوز العامين. ببساطة، ذلك يعني أن هناك اضطرابا في استقرار القيادة العسكرية وإلا لما شهد هذان العامان تلك التغييرات غير العادية، والتي شملت هؤلاء القادة الموثوق فيهم، والذين كانوا في الجيش حين سيطر الإسلاميون على السلطة، ولم يكونوا جزء من برنامج الكوتة الإسلاموية الذي بدأ، مثلما يقول عسكريون، يأخذ حيز التنفيذ في الكلية الحربية منذ عام 1990.
وبالحساب فإن هذه التغييرات المتوالية بكثافة، والتي ذبحت الجيش أدت إلى فشله في استرداد أراضي البلاد المحتلة، وحسم الحركات المسلحة عسكريا. ولا بد أن استنساخ فاعلية الحسم العسكري عبر حميدتي دلالة بالغة على فقدان الجيش قدراته التي عرف بها حتى قبل قيام الإنقاذ، إذ لا يعرف الآن بالضبط ما الذي يحمل خمسة آلاف من الجند السوداني على القتال في هضاب اليمن غير الارتزاق، بينما وجدنا المزارعين السودانيين في الفشقة يذبحون ويفقدون أراضيهم بواسطة عصابات تنتمي لإثيوبيا. أضف إلى ذلك أن الجيش كان يقوم بمهام خارج سلطته في زمن الكوارث. ونذكر أنه أثناء كارثة فيضانات 1987 قد ساهم الجيش بفاعلية في توزيع الإغاثة، ووظف آلياته لإنقاذ مواطنين في مناطق كثيرة من البلاد أغرقهم الفيضان. ولكن الجيش الآن لا يلحظ له أي دور مماثل في المساهمة في إنقاذ المواطنين الذين تهدمت بيوتهم، وتقطعت طرقهم في مناطق كثيرة في الشرق والوسط بسبب الفيضان، والسيول.
صحيح أن كشوفات الترقيات والإحالة للمعاش ظلت تترى في تاريخ الجيش بوصفها أمرا عاديا يتعلق بالسن، وضعف الكفاءة، ولم يحدث أن تم عبر تاريخ السودان تغيير هيكلي في بناء الجيش وقدراته بالشكل الأيديولوجي. ولكن عبر الإنقاذ أحيلت المؤسسة العسكرية إلى تابع أكثر من ذليل للقيادة السياسية. إذ ظلت هذه الإحالة الفردية للمعاش، أو عبر الكشوفات، تتجاوز المهني لتتأسس بالطابع العدائي لكل من يُرى أنه يمثل خطرا في استمرارية النظام. ولعل مجزرة القوات المسلحة المترافقة مع مجزرة الخدمة العامة هي جزء من محاولة إنهاء الدولة الموروثة لإقامة مجتمع يقوده الإسلاميون لتؤول إليه سلطات الدولة بشكلها الكلاسيكي. وهذه المحاولة شبيهة بقيام سلطة المؤتمرات الشعبية الذي أوجده القذافي ليكون بديلا عن التحزب. وقد اتبعت الحركة الإسلامية حافرا بحافر ذلك النظام، وكانت اللجان الشعبية بمثابة القاعدة الشعبية له، وجاءت فكرة الدفاع الشعبي لاحقا لتأخذ من ميزانية الجيش حتى يكون هذا الجسم العقائدي التأسيس جيشا موازيا للحركة الإسلامية. بل إن هناك عسكريين كثر أشاروا إلى أن مشاركة قوات الدفاع الشعبي أفقدتهم كثيرا من المعارك، إذ كانوا يمارسون نوعا من الاستعلاء على القادة الميدانيين الضعاف، وأحيانا يتدخلون في الخطط الحربية.
بجانب سيناريوهات الانتفاضة، والوصول الى تسوية سلمية للنزاع السوداني، والفوضى الخلاقة، فإن الانقلاب العسكري أيا كانت هويته ما يزال ضمن هذه السيناريوهات المتوقع حدوثها. وإمكانية وثوب عسكريين على جنح السلطة يوما ما ممكنة رغم أن كثيرا من المعلقين السياسيين يستبعدون حدوث ذلك. وتتمثل الدلالة في شيئين: التغييرات المستمرة في رئاسات الأركان والكشوفات المصاحبة باستمرار للرتب الدنيا، والتي تعني غياب الثقة في الجيش، أما الشئ الاخر فهو عدم الرضا الذي يخيم على جنود وضباط الجيش، والذين هُمشوا، وأُهينت كرامتهم، بعد استئساد حميدتي، ومليشياته، بنصيب الأسد في ميزانية الدفاع، واستمساكه بشؤون الحرب. ذلك فضلا عن التقدير الأتم الذي يجده من قيادة البلاد حتى صار نجما من نجوم المجتمع، يأمر باعتقال زعيم حزب الأمة، ويمنح الملايين لنادي المريخ، ويعقد الزيجات هنا وهناك. ولا بد أن هؤلاء الضباط المواصلين في الخدمة الآن أحسوا أن الدبابير التي تزين أكتافهم لا تعني شيئا في ظل سطوع مليشيا غير مهنية يجوب جندها البلاد في لمح البصر. وربما أيضا أحسوا أنهم لم يحوزوا على تلك النجوم إما عبر دور في حماية أراضي البلاد، أو إيقاف ما سموه التمرد. وإذا كانت هذه النجوم نتاج كفاءة إدارية، أو عملية، أو دورات تدريبية، ضف التصنيعات الحربية، فإن محصلتها لا تساوي شيئا بالنظر إلى أن الدور الأساسي للجيش الذي مفترض فيه حماية البلاد. وما دامت حماية أراضي السودان المنتزعة قسرا لا تمثل أولوية قصوى ضمن مهام الجيش الآن، والأمن الداخلي متروك لمليشيات حميدي ومحمد عطا، فإن لا قيمة أن تترصع كتوف الضباط بهذه النياشين والنجوم بينما هم في موضع أسس لهم لكي يحموا البلاد حتى الفداء بالروح.
هذا الوضع الذي يرزح فيه، وينظر إليه، ضباط الجيش هكذا، ربما يقود لتحريض مجموعة من الضباط لاستئناف مساعي ود إبراهيم وصلاح قوش، والتي فاجأت المراقبين بخطوتها الانقلابية تلك. وإذا كان الإفطار السنوي للمعاشي ود إبراهيم يتجاوز الخمسة آلاف فردا، بناء على ما قاله قطب “مبادرة الإصلاح والتجديد” الأستاذ فتح العليم عبد الحي، ومعظمهم من المحالين للصالح العسكري، فإنه ليس هناك ما يمنع أن تحتفظ هذه المجموعة برباطات اجتماعية، وعقائدية، مع أفراد داخل الجيش، وتنسق معها. بل ربما تجد هناك أكثر من تيار مشابه لتيار ود إبراهيم داخل الجيش، تتنوع غبائن أفراده، وأهدافهم، وغاياتهم، خصوصا أن ضباط الجيش لا يعيشون في جزيرة معزولة، وإنما هم جزء من المجتمع، يتفاعلون سلبا وإيجابا بواقعه. وإذا أدركنا أن الحركة الإسلامية قد تناثرت إلى عشر جماعات، وفقا لشهادة زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، فإن الضباط الإسلاميين داخل الجيش يتفاعلون بهذه التوجهات كيفما اتفق، ويتأثرون بها، ويتحاورن، ويصلون إلى خلاصات. الأهم من ذلك هو أنهم منتمون لأسر، وليس للثكنات فحسب، ويعرفون قدر المأساة الاجتماعية، وفداحة الأوضاع التي ترزح فيها البلاد. ذلك ما قد يحملهم على التفكير في إمكانية إنقاذ الوضع بذات الطريقة، والمبررات، التي خلقت إنقلاب البشير الناجح، وإنقلاب ود إبراهيم وقوش الفاشل.
في تاريخ البشرية هناك أمثلة متعددة عن “مؤامرة القصر”. فكثير من الملوك، والأباطرة، والقياصرة، والرؤساء، والأمراء، فقدوا السلطة بسبب مؤامرات نسجها أقرب الذين كانوا يثقون فيهم. تتعدد الوسائل للمؤامرة سواء بدس السم، أو القتل، أو دعم آخرين خارج البلاط الملكي للإطاحة بالعرش، أو عن طريق أبناء الزوجة الثانية، وغير ذلك كثير. فمهما تكن الولاءات للقيادة السياسية من كبار الضباط، والحاشية، فإن التآمر هو أصل “كيمياء السلطة”. وتاريخنا القريب دل على أن أكثر الذين يوالون القادة الذين يضعونهم في مقدمة الصفوف، ويقربونهم لجوارهم، هم أول الذين يتورطون في التآمر عليهم. والدليل على ذلك تجربة الصادق المهدي مع العميد نايل إيدام، والفريق فتحي محمد علي مع مدير مكتبه اللواء الحسيني عبد الكريم، والذي كان لا يني من تسريب المعلومات للترابي قبل أن يحصل عليها مديره الذي انتقاه من ضمن مئات الضباط حتى يحفظ سره. على هذا الأساس يبقى افتراض تحقق سيناريو الانقلاب العسكري، إسلامي المرجعية، أو غيره، ضمن الافتراضات الأخرى المتعلقة بالانتفاضة، أو الحل السلمي. ونعتقد أنه كلما تصعبت إمكانية تحقق واحد من هذين السيناريوهين تدعمت فرص تفكير العسكريين في التدخل في السياسة بالطريقة التي عهدها الناس، ذلك حتى لا يتحقق سيناريو الفوضى الخلاقة التي تطيح بكل إرث البلاد.