ما تزال جماعة الإسلام السياسي الحاكمة، والمعارضة معا، وبمشاركة بعض قوى الانتهاز السياسي، يتلاعبون بأوضاع البلاد متى، وأينما، وكيفما شاءوا. وذلك في ظل ضعف مسبب في المقاومة يأخذ السمة الجماعية، والفردية، سواء في الداخل، أو الخارج. وعليه بدا أن لا شئ يزعج الحكومة غير تناولات أعمدة الصحف السيارة للقضايا العامة، وأقلام لنشطاء في الأسافير حلوا محل فاعلية الأحزاب التي عجزت عن تطوير حراكها المعارض تزامناً مع الهامش الضيق للمناورة السياسية ضد الواقع السوداني بكل ما فيه من تدنٍ مجتمعي. فالتي تقرأ الصحف الداخلية، وتتابع أخبار الأسفير، لا بد أنها تلحظ أن كل صبح جديد يشهد أزمة مستحدثة لا تتعلق بصعوبة معاش الناس فحسب، وإنما أيضا بحاضرهم الذي يرافقه عنوان عريض: الفشل التام لآفاق الحلول الحكومية.
ففي حواضر البلاد، بدءً بالخرطوم، ومرورا بالنهود، وليس انتهاءً بالدبة، نرى “تطوراً مذهلاً” في هروب الموظف العام من مهمة توفير الخدمات الأولية للمواطنين. وتبع ذلك ضلوعه في الانحياز المثمن لشركات تنقيب الذهب التي تهدد صحة الناس، وتمارس تعدٍ على أراضٍ لهم بغير روية، أو أناة، أو وفاق مع أصحاب المصلحة الحقيقيين الذين تؤول إليهم ملكية هذه الأراضي. على أن المراسلين الصحافيين يخبرونا أن مناطق النزاع، بكل جرائمها، وسوء أوضاعها، تشهد تدهوراً خطيراً كل يوم في ظل عجز الدولة التام عن إيقاف الجرائم التي ترتكبها المليشيات التي سلحت الحكومة بعضها، وعجزت عن جمع السلاح، كما نشدت، من بعضها الآخر.
ولهذا غدت هذه المليشيات تتصرف بثقة بالغة في قتل مسنين، وأطفال، واغتصاب معلمات، والتعدي على أراضي المزارعين لصالح رعاة دون أن يطالها القانون. ولكل هذا لم يصر خبر موت جماعة، أو فرد، يعني المجتمعين المديني والريفي في كثير شئ. بل صار خبر الموت بتأثير الزئبق الأحمر، وتنامي العقم وسط النساء والرجال بنسبة عالية، أو الاغتيال الغادر، من الأخبار العادية التي لا تتصدر مانشيتات الصحف بوصفها تماثل الصيغة المدرسية الصحفية التي تُعرف الخبر بأنه كأن يعض الإنسان كلباً، وليس العكس. أما على مستوى عموم السياسة المركزية فإنه لا بد للمرء أن يلحظ تورطها في تحالفات لصراعات إقليمية مذهبية، واستثمارات مشبوهة لم يعقد أمرها بشفافية ما أدت إلى تهديد مواريث أصحاب النخيل، وجعلت أراضي السكان الأصليين مرهونة لحكومات عبر عقود تمتد لآماد طويلة.
وعبر كل هذا لا نرى أخباراً جديدةً تسر الناس غير التي تصف إفساد أوجه الحياة في البلاد بشكل غير مسبوق في تاريخها الحديث. بل إن هذا الوضع بكل “واقعيته ـ السحرية” خلق تفاهات في اهتمامات بعض الناس بالقدر الذي تشغلهم أغنية هابطة أكثر ما يشغلهم اغتيال ثمانية رعاة في مناطق التماس غدراً، أو موت المئات بالسرطانات، أو الكوليرا التي تسميها وزارة الصحة الإسهال المائي، أو تهديد حياة أستاذ جامعي مريض في المعتقل. إذن فلا يمكن القول سوى إن البلاد التي يسيطر عليها نظام عاجز عن تحقيق شئ إيجابي تسير، إن لم يلطف الله، نحو تعميق سيناريو الانفجار الكبير الذي لا يبقي ولا يذر.
ورغم هذه الحقائق التي تتبدى في رابعة النهار عن انهيار المنظومة الإدارية للدولة، وهروب الملايين من السودانيين إلى الخارج، إلا أن الأفك السياسي الذي يزيف واقع السودان ما يزال هو الوسيلة الوحيدة التي تعتمدها الحكومة، وبعض الرموز الإسلاميين. وآخر هذا الأفك تجلى في ما قام نافع علي نافع بتعبئته. فقد قال القيادي في حزبه إن “المؤتمر الوطني من أكثر الأحزاب السودانية تنظيماً، وله عضوية معلومة وأنه أدخل ثقافة مؤتمرات الأساس والمناطق والمؤتمر العام بصورة راتبة على الحياة السياسية في السودان مما يضع على عاتقه مسؤوليات جسام لقيادة الوطن والمجتمع والإقليم للخير والرفاه والاستقرار”. كلام!
بهذه الكيفية يتم تحايل رموز الإسلامويين على حقائق الواقع بلا أدنى خجل. فكلنا نعرف أن حزب المؤتمر الوطني ابتلع الدولة، والعكس هو الصحيح، بعد أن غنم مواردها، وخيراتها لصالح تمكين عضويته، وطرد الكفاءات المهنية المسيسة، والمستقلة. والسؤال هو: أي ثقافة أفرزها حزب نافع غير ثقافات الاستبداد، والفساد، والتخلي عن المبدئية السياسية، وتفجير المقدرات الاجتماعية للسودانيين، وعدالة التحلل، واستيراد الشركات الإسلاموية للأدوية والمحاليل الفاسدة، وترك البلاد نهبا للاتجار بالبشر واستشراء المخدرات، وقتل وتعذيب واغتصاب المعارضين، والعمالة لطرفي الصراع المذهبي في المنطقة، وجرائم الإبادة الجماعية، وتسليم زملائهم الإسلاميين لحكوماتهم، والتعاون الاستخباراتي مع الغرب نظير البقاء في السلطة، وغيرها من الممارسات الموثقة بواسطة عضوية الحركة الإسلامية نفسها؟ إن نافعا لو كان يحمل ذرة من صدق لاعتذر عن ثقافة العنف التي رعاها، أو لاستغفر الله على إدارته لجهاز الأمن الذي فيه عذب أستاذه الذي علمه. ولكنه هو نافع الذي بنى من عرق الفقراء قصرا منيف الشرفات لا يشبه من هو جاء إلى العمل العام ليخدم الدين، وينتصف للمساكين، ويقيم مجد العدل والمساواة بفقه الإسلام.
إن الاستثمار الذي بذلته الحكومة في استقطاب طاقات بعض المعارضين في عملية النهب المستمرة للدولة كوسيلة للالتفاف على خطورتهم عليها لن يفيد كثيرا. فهذا الاستقطاب الذي اعتمد على شفرات عدة لن يسهم في إيقاف الاحتجاج العام المكبوت على سياساتها القمعية. ولا بد أن كل المؤشرات الموضوعية تؤكد أن الاحتقان الحادث في كل الجبهات الآن سيعجل بذلك الانفجار عاجلاً أم آجلاً. ذلك ما دامت الأزمات قد وصلت مداها، بل إن الشلل التام لفاعلية السلطة ملحوظ على كل المستويات ما ينبئ عن انتظارنا فقط لحظة الصفر.
صحيح أن معارضة كل هذه الأفعال الحكومية لم تبق فقط مرتبطة بالأحزاب التقليدية، والحركات المسلحة، ونشطاء الميديا الحديثة، ومنظمات المجتمع المدني. فكل قطاعات الشعب غير المستفيدة من الوضع الراهن يهمها إسقاط الحكومة اليوم قبل الغد. ولكن الحقيقة التي يجب أن تقال إن هذا النظام والذي لا مثيل له في المنطقة اعتمد نهجا شيطانيا قامعا في تعضيد بقائه في السلطة بالشكل الذي يفتت العناصر الأساسية للدولة نفسها. وهذا النهج لا تتبعه إلا عناصر مجرمة تدرك تماما أن تفريطها في السلطة سيعود وبالاً عليها. ومع ذلك فقد جُرِبت هذه السياسة الشيطانية عبر تاريخ البشرية بأشكال متباينة، وكانت النتيجة هو انهيار هذه العهود بغير رجعة في بلدانها. ولذلك فإن لا شئ يزيل نازية نظام البشير إلا المثابرة في مقاومة سياساتها، والصبر على محاولاتها الالتفافية لإفساد المقاومة، والإصرار على فضحها المتواصل في اللعب بتناقضات الدين والسياسة.
الحقيقة أنه ليس لدى البشير، ونافع، وبقية زمرته، وأولئك الذين استقطبهم حوار الوثبة حلاً سحرياً للأزمات التي تنوعت في البلاد وأبقتها على شفا جرف هارٍ. فالحل لا يكمن إطلاقا إلا في التغيير الثوري الذي يشرك الطاقات السودانية جميعا للتداول حول كيفية الإصلاح الوطني. ولا يوجد طريق آخر سوى طريق التفاوض الذي ينتهي حتما إلى ترسيخ سياسات النظام التمكينية على البلاد والضحك على عقول الحالمين، والمتطلعين للسلطة، والنفوذ، والثروة.