بقلم عثمان نواى
لم يتوقف الجدل منذ أن قام حميدتي عبر برنامج حال البلد قبل يومين بفتح نيران عداوة صريحة ضد أحمد هارون والي شمال كردفان الحالي ووالى جنوب كردفان السابق الذي في عهده اشتعلت الحرب الدائرة الان في جبال النوبة، كما أن الرجل هو الأول في قائمة المطلوبين لجرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور من قبل المحكمة الجنائية. عبارة حميدتي المختصرة التي قال فيها إن هارون مكانه السجن وليس الولاية حملت داخلها متفجرات عديدة فسرها المحللون في جانبي الطيف السياسي حكومة ومعارضة كل في حيزه. لكن ما غاب علي المشهد بشكل واضح هو حالة الفوضى وانهيار الدولة التي وصل إليها السودان.
يقول ماكس فايبر وهو أحد أهم علماء السياسة والاجتماع في العالم أن الدولة لها خاصية أساسية هي قدرتها على احتكار العنف. أي أن الدولة هي التي لها سلطة استخدام العنف عبر القانون لحماية مواطنيها وحماية الدولة وسيادتها من العدوان الخارجي. وذلك من خلال مؤسسات احتكار العنف المتمثلة في الجيش القومي والشرطة وما تتبعها من قوى أمنية واستخباراتية. لكن مشهد صراع حميدتي وأحمد هارون علي الشاشات، هو مشهد صراع أمراء حرب في غياب تام للدولة ومؤسساتها. حيث يتحدث هارون عن أنه قادر على حماية قراره بطرد قوات الدعم السريع في 72 ساعة، في حين يتحدث حميدتي عن قواته وأن هناك جهات في الدولة وخارجها تتآمر عليها وتشوه سمعتها، إضافة إلى إعلانه هو الآخر على اعتزامه القيام بضبط الشارع إذا لم تقم بذلك مؤسسات الدولة المخولة بذلك اي الشرطة تحديدا. الملفت للنظر هو أن مؤسسة الدولة الوحيدة التي قامت برد فعل مباشر على هذا الجدل كان جهاز الأمن والمخابرات الذي أوقف برنامج حال البلد كما أعلن عن ذلك مقدمه بالأمس، حيث قال إن الأمن استدعاه وأمره بوقف البرنامج نهائيا. وهذا لا يدل سوى على أن الامن لا يملك شئ في مواجهة الصراع الرئيسي بين هارون وحميدتي، لذلك هاجم القناة التي نقلت هذا الصراع.
حميدتي الذي برز في دفاع مستميت عن قواته، استطاع إقناع الكثيرين بأنه رجل يعلم ما يقول، وأنه يعلم مدى قوة موقفه السياسي ويتحدث من هذا المنطلق. من ناحية أخرى حديث أحمد هارون المنقول عبر السوشيال ميديا يوضح أن الرجل لا يخلو من غيرة من حميدتي الذي أصبح الفتي المدلل للبشير والذي ربما احتل مكانه هارون عند البشير. حيث كان الأخير يعتمد علي هارون كثيرا كيد باطشة خاصة ضد حركات المقاومة اولا في دارفور وثانيا في جنوب كردفان، والتي تم وضعه فيها عن قصد حتي يقوم بالأعمال القذرة نيابة عن البشير ويعينه علي تنفيذ الإبادة الجماعية الثانية التي أريد لها أن تكون في جبال النوبة. صراع الرجلين علي القرب من البشير، له متعلقات بالواقع جعلت حميدتي في موقف أفضل كثيرا من هارون، وحميدتي يعلم ذلك جيدا. حيث أن لعبة الوزن القبلي والحشد العسكرى االتي يمتلكها حميدتي، لا يملكها هاون على الإطلاق. فهارون في حشده للجنود لحماية البشير ونظامه وتنفيذ أوامر جرائم الإبادة الجماعية كان يعتمد على موقفه في الدولة إولا وسلطة الدولة وثانيا خطاب الحركة الإسلامية حول الجهاد وأيضا الخطاب الاثني كما حدث في دارفور لحشد الجنود، هذا طبعا إضافة إلي المال. لكن حميدتي في لعبة الحشد هذه أشبه بصاحب الملك الذي تجاوز السماسرة واصبح يتعامل مع المشترين مباشرة، حيث أن اللاعبين في المنتصف مثل هارون لم يعد لهم مكان أو دور حقيقي. “وربما علي البشير أن يخشى علي نفسه من أن يزيحه حميدتي، فهو أيضا يريد أن يأخذ أموال الخليج والأوروبيين في حرب اليمن والحرب ضد الهجرة مباشرة من المشتري.” .. من جانب آخر فإن تفتت وانهيار خطاب الحركة الإسلامية وضعف هيبة وسلطة الدولة جعل من شخصيات أمثال هارون ضعيفة لحد كبير امام أمراء حرب ومرتزقة محترفين، مثل حميدتي. فاحترافية حميدتي كمرتزق تجعله لا ينتمي لأي فكر سياسي ولا مصلحة له سوي مع من يدفع أكثر أو يمنحه سلطة أكبر. أما هارون الذي لازال هو حارس البوابة الغربية للنظام في الخرطوم ويحاول أن يلعب دور السد المنيع عبر منع أي حراك قادم من الغرب عبر الأبيض المدينة الأكثر محورية الان لنظام الخرطوم من اى وقت مضى، في حال وجود أي تحرك حقيقي من جبال النوبة ودارفور فإن سقوط الأبيض يعني ببساطة سقوط الخرطوم، وهكذا سقط غردون بعد أن سقطت الأبيض، ولا تزال القاعدة العسكرية قائمة من المهدية الي الكيزان . ربما اللعبة الوحيدة التي يتكئ عليها هارون هي علمه التام بعجز قوات حميدتي عن تحقيق أي انتصار أو عمل عسكرى ناجح في جبال النوبة، اولا لوعورة المنطقة وعدم تعود مقاتلي الصحراء التابعين لحميدتي على هذه الطبيعة وثانيا لأن مقاتلي جبال النوبة لهم خبرة طويلة في إدارة تلك الحرب وكان فشل حميدتي مدويا في محاولاته منذ عدة سنوات. لذلك لا يزال هارون يحتفظ ببعض أهمية هناك لأن الجيش لا يزال بقوة الطيران على الأقل قادر على تحقيق طوق أمني حول هذه المنطقة الاستراتيجية.
هذا علي المستوى العسكرى والأمني والعلاقات المتشابكة في شبكة المصالح داخل النظام. لكن في إطار الصراع السياسي السوداني ككل، كان هناك ردود أفعال لم يخلو بعضها من الإعجاب بحميدتي عند بعض معلقي السوشيال ميديا، ومن بينهم معارضين للنظام. هذا الإعجاب الحقيقة لا يخلو من ظاهرة عالمية تحيط بنا الان وهي ظاهرة الرفض العام للنخب والأسلوب النخبوى المتعالي في الخطاب السياسي. وهذا الرفض هو الذي اتي بترمب رئيسا في أمريكا ويؤدي بشكل متزايد بإيصال رؤساء غير متوقعين في دول عديدة الي سدة الحكم. إذ أن الناس ملوا من الفذلكة الفارغة ويريدون الاستماع إلى حديث بسيط واضح مختصر ويشبه واقعهم الذي يتفشي فيه أصلا الفقر والجهل والمعاناة والعنف، وهذه الأزمات هي موجودة لدى غالبية الشعوب بقدر متفاوت من أمريكا الي السودان الحقيقة. فالشعوب تعاني بينما طبقات عليا هي التي تستفيد. المشكلة هي في أن الانتهازيين أمثال حميدتي وترمب يقفزون في ظل هذه الأزمة بين الشعب والنخب الفاشلة الهاربة من تحمل مسؤولياتها وتصحيح ومواجهة أخطائها، وبالتالي يصعد هؤلاء، ليس كحل لأزمة بل مجرد رد فعل غاضب وعقابي من الشعب اليائس اللامبالي حتي بمصيره.
يجب أن لا يستغرب البعض ابدا ان اصبح حميدتي قريبا رئيسا للسودان، هذا ليس لأنه أفضل من غيره لكن الوضع السياسى فى السودان بحاله الراهن أصبح يشبه تماما قيادات مثل حميدتي. بل هي الوحيدة ربما التي تمتلك مفاتيحه في حالة اللادولة، بحيث أصبح مجرد ارتداء ملابس الدعم السريع تعني امتلاك سلطة تبدأ من حلق الرؤوس في الخرطوم ولا تنتهي عند حماية الحرمين في اليمن، في مشهد سريالي مثير للاشمئزاز. ولكن ليس علي النخب المركزية المتباكية على حال الوطن ان تلوم الا نفسها. فحميدتي قبل أن يكون صنيعة البشير فهو صنيعة هذه النخب التي أهملت وهمشت واستغلت فئات واسعة من الشعب السوداني وقامت بعملية تجهيل ممنهج وفصل السودانيين بأوهام عروبة متعنصرة وإسلام احتكارى، ولد أوهام أحرقت أجزاء من البلاد وفضلت أجزاء أخرى، ولكن الآن النار تشتعل في داخل المركز نفسه. ان ما تقوم به قوات حميدتي فعليا ليس حلق للشعر للشباب، انه عملية تنفيس للغضب وتنفيذ أحكام عرفية في الشارع ضد من يعتقد هؤلاء المحرومين قسرا وقصدا من نعمة المدنية أن أصحاب الشعر الطويل يتمتعون بما لم يسمح لهؤلاء التمتع به. حياة المدينة والتعليم والاستماع للموسيقى وحرية استطالة الشعر نفسه هي ترف لا يملكه جنود حميدتي. هؤلاء القادمين من زمهرير الصحراء حيث لا ماء ولا كهرباء ولا تعليم ولا راحة، حتي أصبح بيع أرواحهم كمرتزقة بثمن بخس يظنه البعض ليس كذلك، هو أفضل خياراتهم لإيجاد فرصة حياة أفضل. وهذا لا ينفصل عن سلوكهم الفوضوي وحبهم للشرب والاعتداء على النساء وكل ذلك نتيجة الحرمان والكبت وظروف الحياة القاسية والمتناقضة، فهم يعلمون أن ثمن حياتهم ليس سوى رصاصة لا يعلمون متي ومن أين ستأتي، وبما انهم يعلمون أنهم باعوا أرواحهم بلا قضية، فلا طمع لهم في الآخرة لذلك يبدو أنهم يفعلون كل ما تهوي أنفسهم في الدنيا إستعدادا للجحيم. ولكن علينا أن لا ننسى أن هذا الذي يموت فطيسا بلا قضية وبلا وطنية مرتزق في أرض اليمن أو جنجويد في دارفور، ربما كان يمكن أن تكون له قصة أخرى إذا لم يكن هو نفسه ضحية الميلاد في سودان العجز والتمييزوالتهميش واللامبالاة والهروب من المسؤولية من النخب التي تحرق السودان كل يوم بنيران كيدية جديدة وتحرق الوطن بأبنائه لكي يبقوا هم على رؤوسنا يحمون أنفسهم من الحساب علي الفشل المزمن ومحتمين في تحالفات الهروب من تحمل مسؤولياتهم التاريخية، مقدمين أرواح هؤلاء قرابين للشيطان للحفاظ على سلطتهم، ونزع حق الشعب السوداني في حكم نفسه بالديمقراطية الحقيقية التي هي حكم الشعب، تلك الديمقراطية لا تحتملها هذه النخب، ليس لهشاشة الديمقراطية بل لهشاشتهم هم الذين لا يتحملون انتقال السلطة فعليا من أيديهم للشعب لذلك سرعان ما يدبرون انقلابا ينزع سلطة الشعب ليعيدها الي حجرهم ولو علي ظهور الدبابات أو عمامات ولحية المتطرفين الإسلاميين. المهم هو أن لا تكون السلطة للشعب لأنهم يعلمون جيدا أن الشعب إذا امتلك حقا سلطة حكم نفسه سوف يرمي بهم في المذبلة أو القبور ويكشف زيفهم وطمعهم في السلطة لأنفسهم وليس للوطن، وهؤلاء هم أزمة السودان الحقيقية، أنهم مصاصي دماء الشعب السوادني.! هؤلاء الذين لا يريدون حكم الشعب الحر المستقل المستنير الذي يختار حاكمُه بعقله، بل يريدون رعية ورعاع يسوقونهم الي صناديق الاقتراع ليس لانتخاب ديمقراطي وتفويض سياسي واعي، بل يريدون تفويض إلهي ومقدس باسم مهدوية وكرامات الجدود أو باسم الحاكمية لله، أو باسم الخلاص من الرأسمالية، كلها مشاريع تلغي حرية الشعوب في سبيل تفويض مؤبد كامل للسلطة وأختزال كامل لسلطة الشعب في شخوص يفترض فيهم النخبوية والقدسية والصفوية أو الاستنارة، وهؤلاء جميعا هم أزمة السودان وليس حميدتي ولا هارون ولا جنودهما .
ربما لا يكون حميدتي ضحية لكنه سمسار أرواح لضحايا الفشل المزمن للدولة السودانية. علي الجميع أن يعي أن المشكلة ليست حميدتي ولا الدعم السريع، كما أن أحمد هارون ليس سوى مجرم منفذ وليس مجرم مخطِط، وشتان بين من نفذ وخطط. والتخطيط هنا لا أعني به التخطيط لتنفيذ جريمة، بل أعني التخطيط للهيمنة علي السودان عبر إحراق بعض السودانيين علي أيدي البعض الآخر، حتي يظل هذا الشعب مشغولا عن حقه الأساسي في حكم نفسه، وتظل السلطة في أيدى مصاصي الدماء ويحرق السودانيين بعضهم بعضا. ان هذا مخطط وهذه لعبة أكبر كثيرا من حميدتي واكبر من هارون بلا شك. وربما يذهب الاثنين ضحيتها هما أيضا يوما ما ويلحقا بمصير موسي هلال. لكن المؤكد أن القتلة خلف المكاتب المغلقة الذين لم يحملوا يوما بندقية هم أعداء شعوب السودان كلها. أولئك المستفيدين من انهيار الدولة السودانية إذا لم يكونوا هم علي رأسها، هؤلاء هم أعداء السودان. الذين يحكمون السودان دون أن يحتاجوا أن يكونوا ولاة ولايات ولا قادة جيوش ولا يموت لهم ابن ولا ابن عم في أي معركة. هؤلاء الذين لم يجوعوا ولم يفتقرو يوما للمال والذين لم يقتلوا ولم يقاتلوا ببندقية بل كلماتهم وقراراتهم وأحيانا فقط ايحائاتهم دون كلام قتلت الالاف، الذين إذا نزعوا من السلطة عادوا اليها دون حساب على ما اقترفوا، وإذا اعتقلوا لم يعذبوا وإذا حوكموا لم يعدموا. والذين إذا صودرت أموالهم ردت إليهم مع الفوائد وكأنها كانت محفوظة في بنوك حتى ظنوا انهم حقا هم “المصطفين الأخيار” . السادة و الشيوخ والكهنة، ومن يسمون شخصيات قومية وبينما ما هم إلا “كوارث قومية” .
إذا عرفنا كشعوب سودانية من هو عدونا الحقيقي، بعد كل مهازل حميدتي وهارون وماسي حكم الكيزان 30 عام فإن هذه ستكون بداية الخروج للسودانيين من كوارثهم المحدقة. مرة أخرى ليس حميدتي هو الكارثة ولكن علينا أن نرجع الي الخلف في سلسلة الأمداد لازمات السودان علينا أن نتعامل مع رأس supply chain. ربما من درسوا إدراة الأعمال يعلمون أن أي مد أو تموين للسوق ببضاعة له سلسلة تموين تبدأ من نقطة الإنتاج الرئيسي وهي المزارع مثلا في حالة المواد الغذائية، إذن إذا كان هناك تأخير أو تلوث تتم مراجعة السلسلة من البداية من المزارع حتى الوصول إلى يد المستهلك لمعرفة الخلل. نحن نحتاج أيضا للعودة للمصدر الرئيس لمشكلاتنا. والتي هي في النخب السياسية المهيمنة تحت غطاء اثني وديني والتي فشل مشروعها الأحادي الاحتكارى تماما لكنها تقوم الآن بالدفاع عن نفسها حتي لا تتعرض للمحاسبة. هذه النخب التي حاربت وقتلت شعبها منذ الاستقلال والتي تخوض حربا ضروس ضد أن يكون أفراد الشعب السوداني أحرار متساوين وان تكون السلطة حقيقة في يد الشعب وحتي تكون هذه الأرض لنا وطنا جميعا بلا تمييز. ولكن الحل يكمن في المواجهة والاعتراف بهذه الأزمة والالتزام بمخاطبتها في جذورها وليس التعامل مع الظواهر السطحية مثل حميدتي وغيره. والتوحد جميعا ضد أعداء الشعب السوداني ككل وليس هذا النظام فقط أملا في أن نبني دولة الحقوق معا أحرار ومتساوين وان نستعيد السلطة على الوطن وعلى أنفسنا من يد هذه النخب لتعود الي يد الشعب حقا بلا أي وصاية أو قدسية لأحد سوي لهذا الشعب، وهذه المعركة الرئيسية التي يجب أن توحد السودانيين وهي نزع السلطة من أيدي النخب وتسليمها الي الشعوب السودانية لتحكم نفسها وتقرر بحرية كيف تتعايش وكيف تصنع مستقبلها ،علي الشعوب السودانية أن تنهي هذا التفويض القسري لهذه النخب لتقرير مصير السودان ومصيرنا نيابة عنا .