وصل نظام البشير ذروة الاحتقان و الاختناق الاقتصادي و السياسي منذ قدوم هذا العام , فقد تلقى في مطلعه ضربة قاضية افقدته التوازن من غندور وزير الخارجية السابق , عندما أقدم على تقديم إستقالته من المنصب الذي تشرئب له الأعناق , و فنّد أسبابه و حججه التي من بينها العجز المالي الكبير من قبل النظام , عن الوفاء بالتزاماته المادية تجاه السلك الدبلوماسي , وإخفاقه في سداد مستحقات السفراء و القناصل وموظفيهم , في تقرير طويل ومفصل طرحه امام النواب المدجنين في برلمان البشير , ثم ضاق الخناق اكثر فأكثر بتراخي حلفاء نظام الخرطوم الاقليميين , و عدم نجدته إقتصادياً و إنقاذه من الغضب و التذمر الشعبي الذي بدأ يلوح في الأفق , نتيجة لشح وندرة و انعدام الدواء والماء و الكلأ و النار , وحتى الحليف الأردوغاني لم يعمل جاداً على تطوير البروتوكولات الاقتصادية , التي ابرمت بينه وبين النظام في الخرطوم أواخر العام المنصرم , فعجزت الحكومتان التركية و السودانية في ترجمة تلك التعاهدات التجارية , إلى انسياب سلسل للبضائع و السلع بين البلدين , فلم تضخ السيولة النقدية المنقذة للحياة في جسد النظام المالي المريض لإنعاش خزائن البنوك و المصارف , فلوحظ الشحوب و الجفاف في مواعين الأقتصاد السوداني , وذلك في الحرج الكبير الذي وقع فيه موظفو خدمة عملاء المصارف مع العملاء المحبطين الذين يتدافعون كالامواج الجارفة , صباح كل يوم في سبيل حصولهم على اموالهم المودعة في حساباتهم الشخصية لدى هذه المصارف , فتمكن الخبر اليقين من تفكير مواطني الدولة السودانية بأن نظام الحكم في بلادهم قد بدأ يترنح , وسيطرت فوبيا المصير المجهول وماهية البديل القادم على النفوس , فلجأ النظام الى إعادة مسؤول الأمن و المخابرات الأسبق الذي ابعده عن منصب الرجل الأول المدير لشئون الأمن و المخابرات , وجاء به للمرة الثانية لكي يتولى مهمة محاربة من اطلق عليهم اسم (القطط السمان) , الذين حمّلهم النظام مآلآت الامور و الاحوال الاقتصادية المتردية التي لا تبشر بخير , لكنها لم تكن سوى خطوة تخديرية صحبها الصراخ والهياج الاعلامي و الحرب الكلامية , التي لم تتمكن من جرجرة ولو واحدة من هذه القطط المتخمة بالسمنة , الى تحقيقات نيابية وقانونية يمكنها ان تؤدي الى محاكمات شجاعة , فأخذ سعر صرف الدولار بمعاودة الصعود والإرتفاع مرة أخرى , ثم رأينا الوزير الجديد للدبلوماسية السودانية في جوبا مجتمعاً بكابينة قيادة الحكومة الجنوبية , في زيارة خاطفة و سريعة ومدهشة للمواطن في الشق الشمالي للبلاد , و سبب إدهاشها و غرابتها هو شكل الحالة العدائية و التآمرية , التي سيطرت على العلاقة بين الجارين منذ إنفصال السودان الجنوبي.
من الحقائق الماثلة الوجود لنظامي الحكم في جوبا و الخرطوم , أنهما عبارة عن توأمين انشطرا من خلية واحدة , لذلك تجد اوجه الشبه بينهما تكاد ان تصل إلى مرحلة التطابق التام , فكلا النظامين قد نخر فيه الفساد المالي و الادراي و نهش في عظمه وأفقر شعبه أيما إفقار , اضافة الى حالة الفصام الكبيرة بين المعارضة السياسية للحكم في البلدين و بين الشعب الكادح و الجائع و المشرّد فيهما , فتوقيع اتفاقيات السلام المفترى عليه بين هذه المعارضات و حكومتيهما , في الغالب الأعم لا يأتي بخير للمواطن العادي في البلدين , لأنها اتفاقيات أساسها المحاصصات الفردية و الارضاءات الوظيفية , والمنح و العطاءات الدستورية على المستويات الشخصية لقادة هاتين المعارضتين , ولنا في الشق الشمالي من الوطن أصدق مثال لسوء منقلب هذه الإتفاقيات , وليست ببعيدة عن الاذهان الاتفاقيات التي عقدت في كل من ابوجا و الدوحة وأسمرا , فأبوجا جاءت بالسيد مناوي و قضى اربع سنوات بقصر غردون , و أزمة الانسان في دارفور لم تبارح مكانها , فالنازح ظل نازحاً تحت ظلال رواكيب الخيش وجوالات البلاستيك , و اللاجيء بقي في ملجأه الاجباري الى لحظة اندلاق هذا الحبر , وكذلك الحال لمآلآت وثيقة الدوحة التي زادت الطين بلة و كشفت عن إنتهازية مقيتة لممثلي الطرفين الموقعين عليها , فمن منا لا تستحضر ذاكرته تلك الفضيحة المدوية التي وقعت واقعتها بفندق السلام روتانا بالخرطوم , حيث تجلّت و وضحت صراعات تجارة الحرب و قبول البعض من ابنائنا العاقين بالريال و الدينار و الدولار , مقابل دماء اشقاء و اخوة لنا تقدموا الصفوف تلبية لنداء الأرامل و اليتامى , الذين قدم ازواجهن و آباؤهم دمائهم الطاهرة مهراً للحرية و الانعتاق , و اما بانسبة لاتفاق سلام الشرق المزعوم الذي مضى عليه اثنا عشر عاماً , لم يستطع ان يستأصل مرض السل المتفشي والمستوطن بين سكان ارض البجا , فهم وإلى يومنا هذا ما يزالون يعيشون حياة الفقر المدقع وانعدام الخدمات الضرورية , وارضهم يستخرج منها الذهب ويعدن و يصدر خارج الوطن , لتعود العملة الصعبة من مبيعاته في السوق العاليمة إلى جيوب (القطط السمان).
بعد استكمال توقيعات اتفاقية السلام بين حكومة جنوب السودان ومتمرديها , سوف تواجه هذه الاتفاقية ورموزها تحديات مازالت ماثلة في ارض واقع انسان السودان الجنوبي , فمن الصعوبة بمكان ان ينعم سكان الجنوب بالسلام و الأمن و الطمأنينة ورغد العيش , لمجرد إنفاذ هذه الوثيقة التي راعت مصالح النخبة الجنوبية و افنديتها و اهملت عامة الشعب , وذلك بسبب حالة التذمر التي اجتاحت الكثيرين من الجنوبيين القبليين المناهضين لسلفاكير ونظامه , فهؤلاء سيحلون محل مشار و رفاقه في لعب دور المعارضة الباحثة لها عن ارضاءات ومحاصصات جديدة , وليست الباحثة عن حل لازمة الحكم وقضايا التنمية في الدولة الوليدة , يجيء هذا التمرد الجديد بسبب تهميش جماعة جديدة عن المشاركة , في اخذ نصيب من الكعكة التي تم اقتسامها في دهاليز قاعة الصداقة , فكما ذكرنا آنفاً ان الموضوع في مجمله لا يعدو ان يكون تجارة حرب رابحة , في بلدين يقودهما نظامان يشجعان على الاسترزاق من اعتلاء الوظيفة الدستورية العامة , وطالما ظل مفهوم قسمة الثروة و السلطة يعني للطرفين تقاسم مقدرات وثروات البلاد بين الأفراد , مع اهمال التنمية الاقتصادية و الاجتماعية عبر مؤسسات دولة قوية وراسخة لها شخصيتها الاعتبارية , وتعمل هذه المؤسسات على تحقيق رفاه المواطن الذي يعتبر هو محور التنمية بكل اشكالها , فان حلم السلام المستدام في كلا القطرين ما يزال بعيد المنال في هكذا حال , و انه لم يحن بعد أجل وصول نظامين ذوي كفاءة ومسؤولية اخلاقية يمكن ان تؤسس لسلام و استقرار حقيقي في السودانين.
إنّ جوبا لن تسطيع فك أزمة الخرطوم الاقتصادية الخانقة , لمجرد إعادة ضخ الزيت الاسود عبر الانبوب الناقل الى ميناء بشاير , لان الأزمة في الخرطوم تتمثل في بؤر الفساد و الجماعات السرطانية والطفيلية , التي ربا ونما لحمها من مال السحت , والتي لن تتخلى عن نهجها التخريبي و الكارثي المحطم لاقتصاديات البلاد , فلقد قام ذات الانبوب بضخ عشرات الآلاف من براميل الزيت الاسود قبل عقد من الزمان , ولكن لم تسهم ايرادات تلك الكميات المهولة من هذا الذهب الأسود في ارساء دعائم تنمية صادقة , ولا بناء اقتصاد منتج يقي الناس ظاهرة شح المال وندرة اوراق النقد التي عايشناها من خلال هذه الايام العجاف , فالمعضلة القاصمة لظهر البلاد تجدها كامنة في سوء طوية بطانتي الحكم في كل من جوبا و الخرطوم.
اسماعيل عبد الله
[email protected]