بادئ ذي بدئ، لست سعيداً قطعاً برسم صورة قاتمة عن سيناريوهات مصير بلادنا، لكن واقع تعقيدات وهول الأزمة السياسية السودانية يفرض علينا الصدع بحقيقة خطورة حيثياتها وأبعادها، وما قد يترتب عليها من انهيار الدولة السودانية، وتجزئتها، ذلك بحسبانه السيناريو، أو المصير الأرجح، ما لم يتحرك السودانيون أجمعين لالتقاط القفاز، وأخذ زمام المبادرة لمواجهة أزمة بلادهم الماحقة وإيجاد حل شامل ومستدام لها.
تمظهرات الأزمة السياسية
إن السودان يخوض حرباً مع ذاته، فهناك النزاع الدموي بدارفور، الذي تجاوز الثلاثة عشر عاماً؛ إذ يصادف هذا الشهر الذكرى الخامسة للحرب في المنطقتين “جنوب كردفان والنيل الأزرق” بين الحكومة السودانية من جهة والحركة الشعبية، قطاع الشمال، من جهة أخرى، ولقد ضربت تداعيات الأزمة السودانية بقوة كل مناطق السودان، فثمة احتقان عميق، ورفض واسع لسياسات الحكومة من المواطنين، بشرق وشمال ووسط السودان، بما في ذلك العاصمة الخرطوم نفسها، فطلاب الجامعات في حالة تظاهر ومواجهات مستمرة مع السلطة رفضاً للواقع السياسي، والاقتصادي، والمعيشي بالبلاد، أضِف إلى هذا أن مؤسسات الدولة الرئيسية التي حافظت على ثقلها الرمزي منذ الاستقلال ضعفت إنْ لم نقل انهارت.
وعلى سبيل المثال، نجد أن مؤسسة الجيش العريقة ما عادت هي المؤسسة الوحيدة التي تنفرد باستخدام السلاح في الدولة، فالسطوة الكاملة قد آلت لميليشيا “الجنجويد” عقب إعادة تنظيمها تحت مسمى قوات الدعم السريع، أما المؤسسات الاجتماعية الأهلية والقبلية التقليدية التي كانت توحد بنية المجتمع فقد تفتت وانفرط عقدها، وأصبحت القبائلية والعصبية الظاهرة أداة مدمرة لوحدة الكيان والنسيج الاجتماعي السوداني.
إن غالبية الخبراء يصفون حالة الاقتصاد السوداني بأنها تنحو إلى الانهيار عقب تعطُّل القطاعات الإنتاجية تماماً، وتوقف التصدير، وتراجع قيمة الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية، الدولار الأميركي الواحد أصبح يساوي قرابة الثلاثة عشر ديناراً سودانياً، فضلاً عن تمركز أكثر من ثمانين في المائة من المواطنين تحت خط الفقر، هذا وفقاً لتصريحاتٍ رسمية موثقة، إلى ذلك نجد، أيضاً، أن سيادة الفساد واكتسابه صفة المؤسسية كداءٍ عضال ضرب كيان الدولة والمجتمع، فيما بدت هناك تساؤلات حول شرعية الاستمرار في الحكم، وفقاً لشهادات وإقرارات الحاكمين أنفسهم!
بصفةٍ عامة، يشهد السودان الآن حالة شبيهة بوضع الوصاية الدولية، فهنالك عشرات الآلاف من القوات الأممية بدارفور، ومجموعة من القرارات الدولية الصادرة من مجلس الأمن الدولي تحت الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مع صدور أمر قبض دولي ضد الرئيس البشير من المحكمة الجنائية الدولية، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور.
والحال هذه، فليس هنالك أفقاً سياسياً يبشر بانفراج وشيك للأزمة السياسية المتطاولة، ويوقف الحروب ويؤمّن وحدة الوطن ومستقبلاً أفضل لشعبه، فالرئيس البشير الذي أصبح الحاكم الأوحد يسكنه هاجس ومأزق المحكمة الجنائية الدولية؛ لذلك لا يريد تقديم أي تنازلات استراتيجية تحقق السلام وتُجترح وضعاً سياسياً انتقالياً جديداً في البلاد، فهو يرى أن السلطة هي عاصمه وحصانته من ملاحقة المحكمة الدولية، وفي المقابل، عجزت المعارضة المسلحة والمدنية عن الاتحاد وتأسيس بديل فاعل ومقنع لنظام البشير يلتف حوله الشعب، فيما ظل المجتمع الدولي يقدم مقاربات قاصرة، تبعاً لمصالحه بالدرجة الأولى، الأمر الذي عمَّق وعَقَّد الأزمة السودانية.
مغزى وسقف التحركات الدولية الراهنة
في ظل هذه التطورات دعا المبعوث الأميركي لدولتَي السودان وجنوب السودان، دونالد بوث، بعض قيادات المعارضة التي تنتمي لتحالف نداء السودان، إلى اجتماع تشاوري حول الأزمة السودانية في أديس أبابا، في الفترة من ١٦ إلى ١٨ من الشهر الجاري، بحضور مبعوثين دوليين آخرين، وقد شهدت مشاركة المعارضة مداً وجزراً، عكست خلافات وهشاشة كيان تحالف “نداء السودان” المعارض، وبدا واضحاً أن التحركات الدولية، خاصة الأميركية، تهدف إلى إقناع المعارضة بالتوقيع على ما يسمى خارطة الطريق للسلام، والتي وقعها مساعد الرئيس البشير، إبراهيم محمود والرئيس السابق لجنوب إفريقيا الذي يقود الآلية الإفريقية الرفيعة والوساطة الإفريقية لحل الأزمة السودانية، في الحادي والعشرين من مارس/آذار بأديس أبابا. علماً بأن قوى المعارضة رفضت التوقيع على خارطة الطريق، التي تعترف بما يسمى حوار الوثبة الذي دشّنه الرئيس البشير منذ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، بدعوى أن الخارطة “تشرعن” حوار الوثبة وتنحاز إلى الحكومة السودانية.
منذئذ ظلت القوى الدولية، الترويكا (أميركا، وبريطانيا والنرويج)، فضلاً عن الاتحادين الإفريقي والأوروبي، تضغط على قوى المعارضة لتوقع على خارطة الطريق، خاصة بعد فشل الوسيط الإفريقي، ثامبو أمبيكي، في إقناع هذه القوى المعارضة بالتوقيع على الخارطة؛ حيث ساءت العلاقة بين المبعوث والمعارضة ووصلت إلى حد التراشق الإعلامي.
هنالك حيثيات ومغازٍ عدة لهذه التحركات الدولية، فالولايات المتحدة الأميركية، حسب ما تسرب من معلومات، يقول مبعوثها إن الرئيس أوباما مصمم على إنجاز تسوية سياسية في السودان قبل مغادرته البيت الأبيض، كما أن المبعوث الأميركي -على المستوى الشخصي- يريد إنجاز ما يختم به مهمته في السودان التي امتدت منذ ٢٠١٣، كذلك نجد أن استراتيجية واشنطن تركز على مصلحتها الحيوية في استمرار تعاون نظام البشير معها في مكافحة الإرهاب، كما أنها تريد إنقاذ دولة جنوب السودان من مصير الانهيار؛ حيث تعتبر دور السودان مفتاحياً في هذا الشأن.
أما الاتحاد الأوروبي فهو يسعى إلى دفع تفاهماته وتعاونه مع السودان في كبح جماح الهجرة غير الشرعية من دول القرن الإفريقي، هذا بالإضافة لمواصلة التعاون في ملف الإرهاب والاستقرار الإقليمي، ولقد اتضح لي من اللقاءات التي جمعتني ببعض القريبين من صناع القرار الأوروبي، بأن الأوربيين سيضحون بكل شيء بما في ذلك قيم ومبادئ حقوق الإنسان، لأجل وقف تدفق المهاجرين من إفريقيا ودول المتوسط لأوروبا، فالساسة الأوروبيون يعتقدون بأن ديمقراطيتهم العريقة في خطر، وأن أحزابهم الليبرالية ستفقد السلطة من جراء صعود اليمين الفاشي، بخلاف قناعة القوى الدولية القوية بميل ميزان القوة لصالح نظام البشير.
بناءً على هذه الحيثيات تتجه القوى الدولية الرئيسية لفرض تسوية سياسية جزئية سريعة في السودان (quick -fixed deal)، وهنا يتبادر السؤال الأهم للأذهان: هل ستقود هذه التسوية المرتقبة لسلامٍ شاملٍ وعادل وانتقالٍ سياسيٍ، وتحولٍ ديمقراطيٍ حقيقي يُجنب السودان مصير الانهيار والتقسيم؟
المخرج وتلافي مصير الانهيار
إن التحركات الدولية الراهنة تهدف لفرض تسوية سريعة تحافظ على نظام الرئيس البشير، ولكن بإدخال واستيعاب بعض التغييرات التجميلية الطفيفة، ربما لا يتبدى لبعض المراقبين عمق وتعقيدات الأزمة السودانية، وربما يَرَوْن أن نظام البشير أقوى من المعارضة، إلا أن الواقع يقول إن نظام البشير يشهد تآكلاً وتكلساً وتململاً وصراعات وسط قياداته وعضويته. وإن لم يتم تدارك حيثيات الأزمة السودانية الحالية، فستقود للانهيار، وهو ما دفع بالعديد من قادة النظام الحاكم للإقرار بعمق الأزمة وخطورة مآلاتها.
إن من قرائن الأحوال أن السودانيين وحدهم يدركون عمق الأزمة وسقف الحل الذي يجنب بلادهم مصير الانهيار والتقسيم، فإقرار مبدأ الأمر الواقع لا يمكن أن يستمر أو يدوم، فالسودانيون يريدون تغييراً حقيقياً وانتقالاً ديمقراطياً سياسياً جديداً دون تسويف أو مماطلة، والشباب الذي يمثلون أكثر من سبعين في المائة من الشعب أصبحوا يقاومون الأوضاع، ذلك في وقت سئم فيه النازحون واللاجئون الحرب والمكونات السياسية والمدنية والمسلحة الحالية ما عادت تمثل واقع التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العميقة التي تمظهرت في المجتمع السوداني، فالمكونات التقليدية القديمة للمجتمع المدني، المتمثلة في الاتحادات والنقابات، ما عادت تمثل المكونات الجديدة التي ظهرت بقوة وخرجت من رحم الأزمة السودانية بأرياف وأطراف أقاليم السودان ومدنه، وأي تسوية لا تشمل هؤلاء لن يُكتب لها الاستدامة!
الضغوط الدولية الحالية ربما ستقسم تحالف المعارضة الهش أصلاً، وقد تنجح التحركات الدولية في دفع قسم مِن أطراف المعارضة للتوقيع على خارطة الطريق، وربما الوصول إلى تسوية سياسية سريعة، لكن أي تسوية لا تخاطب جذور الأزمة وتأتي بالحقوق الكلية لغالبية جماهير الشعب المسحوقة والمهمشة لا يمكن أن تدوم أو تحظى بشرعية، فمقاربات المجتمع الدولي الناقصة التي تقوم على نظريات ومنهج السلام الليبرالي في الشراكة السياسية ومنح الوظائف للقيادات لن تحل أزمة السودان؛ لأن التحولات العميقة التي طرأت المجتمع السوداني لن تقبل بإعادة إنتاج الأزمة ورموزها القديمة.
إن السودان الآن بحاجة لمشروع وطني جديد ينهض على “دسترة” وتجذير التنوع والمواطنة الشاملة المتساوية، والانتقال لتلك المرحلة يمر عبر الوقف الفوري للحرب وبسط الحريات كافة والانخراط في حوار شامل تسهِّله أطر دولية محايدة ومنبر محايد تشارك فيه أطراف الأزمة كافة، بحيث يتفقون فيه على أسس ومبادئ ومهام وآليات الفترة الانتقالية الجديدة والسلام الشامل والتحول الديمقراطي في البلاد.
هافينغتون بوست