الكوليرا الآن تفتك بمئات المواطنين في الأرياف ثم وصلت إلى المدن، وأخيرا حاضرة البلاد. وليس هناك من مستشفيات مؤهلة للتعامل مع مرضى الوباء، وكذلك مع أولئك الذين تحاصرهم الوبائيات الكثيرة التي استوطنت في شكل سرطانات تقتل مجاميع الناس ببطء. ومنذ حين تواطأت الحكومة مع مستثمرين لا يهتمون بما يفرزه جني الملايين من خطورة بالغة على صحة الإنسان، والحيوان، والنبات، والمناخ. ولذلك انتشرت الأمراض في بقاع السودان بينما لا شئ يحمي الأصحاء في المدن للتعرض إلى هذه الأمراض، آن عاجلا، أم عاجلا.
وفي مناطق النزاع يتقاتل الدارفوريون بعضهم بعضا معيدين إلى الذاكرة قتالهم الذي أسسوه للحاق بالثورة المهدية التي لم تحقق لأبناء الإقليم شيئا غير توظيف المركز لهم في حروباته العبثية. وفي أجزاء واسعة من البلاد لم يصبح الموت الجماعي بسبب عنف المليشيات، والقبائل، وحوادث العربات، والإهمال، خبرا يتصدر اهتماماتنا، ويحملنا على سرعة التحرك لتغيير الأوضاع. لقد ماتت النخوة في المجتمع وأصبح معظم أفراده ينشغلون بمآسيهم وحدهم. وليس هناك من شئ يواسيهم إلا بيانات إنشائية تطلقها الأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، وناشطون، في محاولة لإبراز الحس الوطني، والإنساني.
وأفراد جيشنا يموتون بأداء ارتزاقي من الدرجة الأولى في اليمن بينما الفريق حميدتي صار القائد العام الحقيقي، ولا يفكر في استرداد الأراضي التي قضمها الجوار. أما الفرقاء، واللواءات، والعمداء المتخرجون، من الكلية الحربية فصاروا عبئا على الخزينة العامة ما دام وجودهم أو عدمه سيان. وعلى صعيد الخدمة المدنية ومؤسسات النظام فإنها أصبحت مستعمرة للانتهازيين من الوزراء، والموظفين، والمؤلفة قلوبهم، الذين يدركون تماما أن لا قيمة لجهدهم المتسلطن يذكر.
أما السياسة الرسمية للنظام فإنها تخلت عن تشددها المبدئي الذي بدأ به الإخوان السودانيون حكمهم في الجمع بين الإسلام والدولة، وأدركوا لاحقا أن فصل الدين عن الدولة بطريقتهم المعهودة هو الذي يجنبهم سوء المآل. لقد تركوا الدين جانبا، ووجدوا في الدولة غنيمة للثراء، والتطاول في البنيان، ومضاعفة الاستمتاع بالنساء. ومع ذلك لا يعدم الإسلاميون الجرأة في مهاجمة من يسمونهم “بني علمان” الذين يصفونهم بأنهم يريدون كسر بيضة الدين. أما هيئة علماء السودان فإن الخفير الذي يحرس مبناها يدرك أن الامر ليس أمر شريعة، وإنما هو أمر دنيا، وإلا تساوى معهم في الحياة الرغدة التي يتمتعون بها نظير الفتيا المطلوبة.
أما “أغاني وأغاني” فيذبح التراث الفني الذي تعب المبدعون كثيرا في مضاعفته عبر قرن كامل. وبقية برامج الغناء الرمضانية يعود مغنوها إلى أداء أعمال عمرها يقارب التسعين عاما. وهناك عشرات من المغنين والمغنيات يهدرون زمن الناس بلا جديد ممتع، وأداؤهم الضعيف لأعمال الفنانين يلهي القروبات، والفيس بووك، وبقية وسائط الميديا الجديدة، ويستعر النقاش حول من يؤدي “الطير المهاجر” بشكل أفضل: أهو وردي أم هذه السندريلا المبيضة الوجه دون الساقين؟ فتأمل. والحقيقة أن ليس هناك جهة لتحاسب هؤلاء لشنئان التشوه في الأداء الغنائي، ما دام كل غنوة تخدم في امتصاص الأسى الذي تسببه سياستهم التمكينية.
ومعظم القروبات عابرات القارات نفسها تحول إلى أثير افتراضي لا شي يحققه على أرض الواقع. إنها قروبات مليئة بالجدل المفيد في أحيان كثيرة ولكنه لا يفضي إلى اتفاق أبدا. وأحيانا تتفجر فيها الخلافات لتنهار حتى يتم اختيار قروب جديد. وهكذا لا يوجد قروب إلا وقام على أنقاض آخر قديم. ثم إنها تناسلت إلى أن وصلت إلى الآلاف. ولكن ليس هناك قروبا واحدا يجمع كل المعارضين على قلب رجل واحد دون أن يخترقه سدنة النظام. أي أن المهنيين يتسامرون حول الشأن الوطني بكل أريحية، ولكن تكبلهم القدرة على خلق حراكات عملية على أرض الواقع الذي تسيطر عليه الحكومة، ولا تستطيع جهة أن تنازعها فيه.
إذن انتهت اهتماماتنا العامة إلى تقسيمات صفوية، وطبقية، ومناطقية، وضعفت اللافتات القومية مثل الأحزاب التي كانت الأولوية لتنشيطها. وهناك تقسيمات تشمل الحي الذي نشأت فيه، أو القرية، أو المدينة، وهناك قروب القبيلة أيضا. ولكن القروبات الكثيرة عموما شتت اهتمامات الناس، ووجد الإسلاميون في بعضها الفرصة للتطبيع، والتواصل، مع المعارضين، والمشاركة معهم في إنتاج الضحك، وتبادل الأغنيات القديمة، وملصقات الجمعة المباركة، والأقوال المأثورة، والأحاديث النبوية. ولقد بدأ المرء يشك في فاعلية بعض القروبات التي من خلالها انشغل معارضون كثر بها حتى لم يعد هناك مركز يتيم يوحد المعارضة في منبر جامع خارج الأثير.
بل إن بعض المعارضين صاروا يقاسمون الإسلاميين الجدل في قروبات خاصة تهتم بشؤون القبيلة، والحي، والمهنة، والأسرة، والمدينة، والولاية، ومريخ الفاشر، وهلال الدبة، ونسر النهود. والحقيقة المرة هي أنه لو عذبك صلاح قوش، أو نافع علي نافع، يوما فإنك لا بد أن تلتقي بأحدهما وتضع يدك فوق يده في قروب القبيلة الذي ضموك إليه دون مشورة. وإن لم تلتق واحدا منهما في هذا القروب فإنك حتما ستلتقيهما إما في قروب أبناء بورتسودان، أو في قروب قرية النافعاب. وقد تلتقي بهما وجها لوجه في اجتماع لقروب خصص لقاطني حي كافوري. ومع ذلك هناك قروبات قليلة جدا تقنعك بأنها غنية بالحوار الوطني، وتحس عمق الحس القومي في عضويتها، وهمتهم الكبيرة للبحث عن حلول عملية لمأساة البلاد.
أما الرياضة فلا نعرف لها حراكا إلا في شتائم الصحف الرياضية التي تتوزع بين الولاء لفريقين واحد تابع لرأسمالي طفيلي، والثاني لآخر ينافسه. أما الموضوعيون من نقاد الرياضة فصاروا أيتاما في المأدبة، ولا يقرأ لهم الناس إن كتبوا عن غياب مناشط السلة، والملاكمة، والطائرة، والجمباز، وألعاب القوى، والسباحة، والأشبال، والناشئين. وهذه الرياضات كانت عماد الحيوية في المجال الرياضي، والمدارس. ولكن صوت نقادها الحادبين غير مسموع وكأنهم يغردون خارج السرب.
وصحافتنا الورقية تحولت إلى نمر من ورق. ولن تمر فترة طويلة حتى يبتلعها الإنترنت. إنها لا تتناول القضايا الأساسية التي تواجه البلاد بحرفية، ووطنية، وسلاسة. والذين يديرونها يعرفون أن الصحافة الحقيقية هي التي تقيل الحكومات، وتكشف سوءاتها، وتنير الطريق للرأي العام، وأن لا كبير يقف أمام أداء دورها. هي الصحافة الرسالة التي لا ترحم الاستبداد. فتغوص في المناطق المعتمة لتحقق، وتتأنق بحكمة كتابها، وتسلي قراءها بأسلوبها الجزل الرصين.
كل شي في البلاد لحقه التدهور الماثل في كل حيوات السودانيين. فالتوريث الحزبي سيسلمنا لبيوتات تحس أنها تفتقد رجال الدولة، ونساء المجتمع. الإطار الإقليمي الذي نتأثر به سلبا وإيجابا يضعنا كل يوم في محك عظيم مع حكومتنا. ليس هناك من أمل في أن علاقاتنا بجيراننا في جنوب وشمال الوادي سترسي إلى استقرار. ثم ماذا عن السوق الذي يُعرف بحال اقتصادنا؟ وماذا عن التعليم بكل مراحله وما هو مردوده؟ وأين المؤسسات النظامية الموكول إليها حفظ الأمن؟ وحال زراعتنا يغني عن السؤال. إننا نبلغ منتهى الشكوى من الطماطم الفاسد، والبرتقال المسرطن المستورد، ولدينا خمسة مصادر مياه. وهل تعلم أننا نملك مناخ البحر المتوسط الذي ينتج الموالح بجميع أنواعها، ونوعين من الصنوبر أيضا.
لا بد أن هذا السير يلقي بنا إلى الهاوية التي لا قرار لها، إذا لم يتم تدارك الأمر بالصيغة التي تضع البلاد في وضعها الطبيعي. ليست الحكومة وحدها هي المسؤولة. وكلنا نعرف بما فيه الكفاية مخططاتها لتفكيك البلاد صامولة صامولة حتى لا يحدث التغيير. ولكن هناك حاجة كبيرة لاستنهاض المجتمع كله نحو التعجيل بالتغيير عبر إسقاط النظام. فالحوار معه لا يجدي. بل إنه برع في توظيفه لكسب الزمن، وشق صفوف الثوريين، والناشطين، واستقطابهم، ضمن مشروعه الذي انتهى إلى لا شئ غير امتصاص عرق الكادحين.
إن الذين يحبون السودان، ويحملونه في حدقات العيون، صاروا أقلية وسط بحر الأزمة التي تتقاطع فيه الأجندات الأيديولوجية، والحزبية، والجهوية، والقبلية، والمصلحية، والطبقية. ليس هناك من يسمع صوتهم الموضوعي. وأحيانا يحسسهم الكثيرون بأنهم لا يدركون طبيعة النزاع. ولعل هذا الوضع هو نتاج تسييس الدين. أو تديين السياسة الذي بذله الترابي وجماعته لنصف قرن. لقد أعمتهم الأيديولوجيا دون تحقيق إدارة مبدعة للبلاد، واستشراف مستقبل مشرق للبلاد. ولذلك عمدوا إلى توزيعنا إلى انتماءاتنا الأولية حتى يتسنى لهم تمتين قبضتهم على كامل الوطن. لقد نجحوا بامتياز في السيطرة على الحاضر ولكنهم متوترون في نظرتهم إلى الغد. وما من صيحة ضدهم إلا وأسرعوا في كبتها. اعتقد أنه لا يزال أمام الغالبية المكتوية بنارهم فرصة لحيازة الغد مهما كلف ذلك من وقت ومشقة. تسيطر الديكتاتوريات على الحاضر. ولكنها فاشلة في حيازة كل الغد. ومن هنا يظل الرهان على المستقبل حيا بأن تتحق في خاتم المطاف إرادة السودانيين لإعادة الوطن إلى نصابه. والمؤكد أن الانتقال من دولة الاستبداد إلى دولة الحرية، والعدل، والمساواة، لن يكون سهلا أو ميسورا. فبناء الأمم أمر شاق، ويحتاج إلى صبر، وعزيمة وهمة لهزيمة عناصر الإحباط التي تغذيها الديكتاتورية.
كل هذا الانحطاط الذي بلغته الإنقاذ هو مؤشر كبير على خطوها نحو الأفول. وسيستنهض محبو السودان همتهم في اللحظة المناسبة لصنع التاريخ. والإحساس أن هذه الذروة التي بلغناها في معايشة هذا الانحطاط، وبلوغ سقوف المشروع الحضاري، يعد إيذانا بأن اللحظة الفاصلة ستكون في المشارف المنظورة.