الإجابة على سؤال “هل انتصرت الثورة السودانية؟” و كما هو متوقع ستكون في معظمها محاولة اتفاق على مكونات السؤال، أي ما هو تعريفنا لنجاح الثورة؟ أي ثورة عامة و في السودان بالتحديد، ما هو تعريفنا للثورة؟ و الفعل الثوري؟ و حتى ما هو تعريفنا للسودان؟ بمجرد اتفاق على هذه التعريفات من المتوقع أن تكون الإجابة واضحة حسب ما نصل إليه من تعريفات، خاصة عندما ننظر أيضا –كما سنفعل في هذه الورقة– إلي أحداث الثورة و تقلباتها و نحللها باستصحاب ما نستنتجه من تعريفات.
أهمية هذه التعريفات، ابتداءً من “ما هو السودان الذي نقصد؟” تأتي من أن الإجابة تختلف تماما باختلاف التعريف، فالرؤية القائمة على أن ارتفاع الـGDP أو جذب الاستثمار كدلالة على تعافي الاقتصاد السوداني تأتي من تعريف لي ماهية السودان يرى أن السودان هو مجموعة المتعاملين بالنظام النقدي –كأبسط نقطة انطلاق– مما يعني أن انتعاش اقتصادهم يعتبر انتعاش اقتصاد السودان، و هذا دون الدخول في تفاصيل ماذا يقيس الـGDP و هل هو مؤشر حقيقي لعافية و قدرة الاقتصاد على تلبية احتياجات الأغلبية الإحصائية و الأغلبية الأحق من السكان.
في سودان اليوم، الحصر على مستخدمي النظام النقدي يعني استبعاد جزء مقدر من السكان، فحتى بداية الألفينات كانت هناك مناطق في كردفان ما زالت تتعامل بنظام المقايضة، و حالياً توجد مناطق في النيل الأزرق و رغم تعاملها بالنظام النقدي إلا أنها خارج النظام المالي للدولة، لدرجة انه و في هذه المناطق المتاخمة لأثيوبيا سعر الجنيه السوداني مقارنة بالبر الأثيوبي يعتمد على المواسم و حركة البضائع بين السكان، نحن نتحدث هنا عن حركة البضائع في الأسواق المشتركة المحلية الصغيرة، ففي خريف 2019 مثلا انخفض سعر البر إلي 1.6 جنيه سوداني لانقطاع الطرق بين البلدين، و بعد نهاية الخريف وصل إلى 2 جنيه سوداني، بينما السعر الرسمي 2.2 جنيه سوداني للبر الأثيوبي. نجد هنا أن سعر العملة يحدده تماما اقتصاد السوق الصغير و غير مرتبط على الإطلاق بالسوق العالمي. يتضح لنا هنا ان الدولة نفسها غير متجانسة في تمدنها، في علاقاتها الاقتصادية، و غيره. من الضروري أن نفهم حالة عدم التجانس في نسيج الدولة السودانية، و حتى أن لم نتمكن من فهم جميع جوانبه و تمظهراته بشكل كامل، علينا أن نستصحبه معنا في قراءتنا للشأن السوداني، و إلا سنجد انفسنا نتحدث عن نجاح أو فشل الثورة السودانية بينما نحنا في الحقيقة نقصد نجاحها أو فشلها بالنسبة لهذا الجزء أو هذه الطبقة من مكونات سكان الدولة السودانية، و ليس جلها أو اغلب مكوناتها.
على مدى الجزء الأكبر من حكم الإنقاذ/ الحركة الإسلامية، كانت كلمة السودان في أدبيات و خطابات السلطة تعني وسط السودان، أو ما يعرف بمثلث حمدي، و المصطلح يأتي إلينا من ورقة اقتصادية قدمها احد وزراء مالية الإنقاذ، الاقتصادي عبد الرحيم حمدي عن رؤيته الاقتصادية للبلاد. تحدث حمدي في هذه الورقة عن ضرورة منح أولوية للتنمية في المنطقة المحدودة بي مدن دنقلا في شمال السودان، سنار في الوسط و كردفان غربا، و كان مبرره أنها المناطق الأكثر ارتباطا بالهوية العروبية الإسلامية و عليه لن تنفصل عن الخرطوم كما طالب الجنوب وقتها، أو تنحاز لاستخدام حق تقرير المصير كما هو الحال الآن بجبال النوبة أو غيرها.
ظهر إذاً مصطلح مثلث حمدي كنتاج لهذه الورقة كأول توثيق مكتوب لهذه الفكرة، إلا أنها و قبل توثيقها كانت تظهر جليا في خطابات السلطة و قراراتها.فعندما كانت السلطة تتحدث حتى عن ماهية العادات و التقاليد السودانية و التي فرضت على أساسها الكثير من القوانين القمعية، كانت في الحقيقة تتحدث عن “عادات و تقاليد” المجتمعات داخل المثلث، فعادات سكان الجنوب أو جبال النوبة أو شرق السودان مثلا لم يشملها تعريف العادات السودانية المحمية بقوانين النظام العام، بل كانت فلكلور و تراث قد يتم تجاهله أو استخدامه ديكوريا حسب خطاب الدولة في وقتها و حوجتها له.
هذا التصور لحصر السودان في الشمال النيلي المسلم الناطق بالعربية لم يخترعه حمدي و لم تخترعه السلطة الإسلامية بل هو امتداد طبيعي لشكل الاستعمار في السودان.الاستعمار الانجليزي أو التركي أو المصري في السودان لم يأتي على هيئة استعمار استيطاني، بل و كان انتشار المستعمر في البلاد محدوداً لأسباب عدة ترتبط بشكل أساسي بهدف المستعمر و غايته التي أراد الوصول إليها من نشاطه الاستعماري، سواء كان هذا الهدف هو الذهب و الرجال، أو عندما تطور لاحقا في عهد المستعمر الانجليزي إلى مياه النيل و الرجال و منتوجات مشاريع المستعمر الزراعية و الصناعية، و التي أقيمت أيضاً في مناطق الشمال النيلي كمشروع الجزيرة الزراعي و غيره. أقام المستعمر جهاز دولة قائم على خدمة هذه المصالح، أفندية متعلمين في مناطق المشاريع ليقوموا بالأدوار الإدارية، و جيش كان يعرف وقتها بوحدة دفاع السودان، يقوم بحماية نفس المصالح، فتركزت خدمات الدولة في أماكن معينة. مما أدى إلى أن لا تصل الدولة كجهاز سيطرة و أدارة إلى مناطق كثيرة من الرقعة الجغرافية التي يفترض نظرياً أنها تحت سيطرتها.
هذه التحولات غير المتوازنة و الأولوية الممنوحة للمركز، سمة صاحبت الدولة السودانية الحديثة منذ تكونها و شكلت العلاقات الاقتصادية و السياسية للمجتمع بشكل كبير. واصلت حكومات ما بعد الاستقلال على نفس النهج، وحدة دفاع السودان و التي هي جيش المستعمر لم يحدث لها أي إعادة تأهيل بعد الاستقلال، أُنزِلَت “يافطة” قوة الدفاع و سميت بي قوات الشعب فيما يبدو انه كان افتراضاً بأن طبيعتها الاستعمارية ستتغير بمجرد تغيير الاسم. نجد في ذلك تفسيراً للطبيعة الاستعمارية لمؤسسة الجيش؛ خادم لمختلف أشكال السلطة و حامي للمنشئات بي شكل أساسي، نذكر فيما نذكر أن الدور الكلاسيكي لقوات الجيش في حالة الاحتجاجات الشعبية في السودان هو ارتكازهم لحماية البنوك و محطات البنزين(!). في الوقت الحالي من المتفق عليه ضمنياً –بل و علنياً في هتافات المحتجين –أن تغيير مسمى جهاز الأمن إلى جهاز المخابرات العامة أو تغيير مسمى الجنجويد إلى الدعم السريع لن يغير طبيعتهم المجرمة، و لكن بالمقابل تبقى حقيقة كون الجيش الحالي و جهاز الدولة السودانية الحالي نتاج لمجرد تغيير اسم من جيش و جهاز المستعمر و كونه في جوهرة لا يمكن له أن يخدم اغلبيه السودانيين، بغض النظر عن نقاء و أخلاق و ثورية الأفراد القائمين عليه، لأنه غير مصمم لذلك و غير قادر على فعل ذلك دون إعادة نظر و تأهيل و هيكلة بشكل جذري، هذه الحقيقة تبدو راديكالية و جنونية للكثيرين فقط لكون هذه المؤسسات قد وجدت و شاخت تحت مسمى “مؤسسات وطنية” لسنين و أجيال عدة منذ الاستقلال، مما جعل مفهوم هدمها لإعادة بناءها غريباً و صعب التخيل بالنسبة للكثيرين. هذه المؤسسات حالياً محمية من النقد إذاً بحكم التعود و الثقل التاريخي، … عادات و تقاليد.
جهاز الدولة الاستعماري بالتعاون مع النخبة السياسية الناتجة من الامتيازات الممنوحة سابقا من قبل الاستعمار لبعض القيادات الطائفية بالإضافة لأبناء المركز ممن كانوا محظوظين جغرافياً بوجودهم في مناطق وفر فيها الاستعمار التعليم، هذه المجموعة صنعت تاريخ السودان على نفس النهج الاستعماري. ففي سنة 1958 قام رئيس الوزراء في وقتها، عبدالله خليل، و بعد فترة من الاحتجاجات الشعبية و الاحتقان السياسي و قبل يوم من جلسة البرلمان المنتظر فيها نقاش نزع الثقة من الحكومة، سلم عبدالله خليل السلطة للجيش، ممهداً لأول تدخل للجيش في الفعل السياسي و أول حكم عسكري في تاريخ السودان، و الذي جاء بتسليم من حكومة مدنية فضلت الحكم العسكري للحفاظ على السلطة على مواجهة الأدوات الديمقراطية على ضعفها. تصرف حكومة عبدالله خليل وقتها يشابه الوضع الحالي من حيث اختيار القيادة السياسية لتسليم نصف السلطة للجيش كتصرف و نمط طبيعي في السياسة السودانية.
نجد في تاريخ حكومات ما بعد الاستقلال الكثير من القرارات و الانحيازات المشابهة و التي هي اقرب لانحيازات المستعمر من الحكومة الوطنية. مثال أخر يأخذنا إلى عهد الرئيس نميري في السبعينات، حيث انه و كجزء من الحرب في جنوب السودان قام بتسليح قبائل اسماها “القبائل الصديقة”. هذا المفهوم “قبائل صديقة و قبائل عدوة” و ما يترتب عليه، هو مفهوم لا يتسق مع المواطنة بل مع سلطة مركزية منفصلة عن سكان المكان، تصادقهم و تعاديهم حسب مدى مشابهتهم أو فائدتهم للسلطة الحاكمة، مفهوم استعماري ببساطة.
السودان إذاً و منذ استقلاله عن الاستعمارات الأجنبية و حتى الآن دائما ما كانت فيه سلطة داخلية استعمارية، بمصالحها المضادة لمصالح السكان المستعَمرين، و مركز مقرب للسلطة مصالحه مضادة لمصالح أغلبية المواطنين المتمثلة في توزيع عادل للثروات و التنمية بالضرورة سينزع امتيازات المركز. و بشكل اشمل نجد أن السودان به مناطق ليس لها أي ارتباط بجهاز الدولة لأنه و من حسن أو سوء حظها؛ لم يكتشف فيها حتى الآن موارد يمكن استغلالها بسهولة كالذهب أو البترول، فعلاقات السلطة بالمواطن و كما ذكرنا قائمة على ما يمكن استغلاله من ثروات و ليس على من يجب حمايته و توصيل الخدمات لهم من بشر.
مصالح هذه المكونات المختلفة لا يمكن جمعها تحت مسمى واحد يُطلَق عليه مصالح السودان و كذلك نجاح أو فشل الثورة كذلك لا يمكن أن يكون واحداً بالنسبة لهم جميعاً. علينا أن نختار إذاً و نحن نطرح هذا السؤال و نوضح عن أي نجاح نسأل، و أي “سودان” أو مكون سوداني يمثل مرجعيتنا في حساب النجاح و الفشل.
أرى أن ابسط تعريف عادل للسودان يمكن أن نعمل عليه الآن هو (الأغلبية الإحصائية للسودانيين ابتداء من الأقل حظاً من ناحية الامتيازات و الثروة)، و عليه سنقيس نجاح و تأثير و فشل الثورة السودانية بمدى و نوعية التغيير في العلاقة بين جهاز الدولة و أغلبية هؤلاء السودانيين.
نقفز الآن من السرد التاريخي إلي الأحداث الراهنة في محاولة لتحليل الثورة السودانية و تفاعلات العملية السياسية خلالها. علينا أن نستصحب في هذا التحليل ما ذكرناه سابقاً عن تركيبة النخبة المجتمعية و التي تشمل عوامل جغرافية تؤدي إلى توفر التعليم أو عدمه، و عوامل إثنية و طائفية ترتبط بتركة التفضيل الاستعماري و غيره مما سلف ذكره.
كان من الطبيعي و المنطقي نتيجة لاستمرار العلاقات الاستعمارية أن تتكون الطبقة السياسية الحاكمة من نفس هذه النخبة المجتمعية، و ذلك مع وجود استثناءات و اختراقات بالطبع، كما في حالة حميدتي مثلا –قائد قوات الدعم السريع– . يعتبر حميدتي حقيقة أول تمثيل لمجتمعات الرعاة في السياسة السودانية على هذا المستوى من الدولة، و بهذا الحجم. تمثيل هذه المجموعات في الحقيقة نادر في جميع مستويات الدولة، و في ذلك نتيجة طبيعية لكونها – أي الدولة – لا تصل الى هذه المجتمعات بتوفير تعليم أو خدمات من أي نوع مما يجعل تأهيل أفراد هذا المجتمع بالشكل الذي يؤدي لإخراج ممثلين للمجتمع من داخله أمر غاية في الصعوبة عبر القنوات الكلاسيكية لتصعيد موظفي الدولي و ممثلي مجتمعاتها. نذكر هنا مفارقة أن الحكومات السودانية المتتالية عندما تتحدث عن الاقتصاد السوداني دائماً ما كانت تذكر الثروة الحيوانية في مقدمة موارده، فهذه الدولة بها 100 مليون راس من الماشية، و قد كان وزير مالية الحكومة الحالية قد طرح في خطته الاقتصادية الثروة الحيوانية كـ low hanging fruit حسب تعبيره أو ثمرة دانية يسهل قطافها. حديث كثير عن الثروة الحيوانية و لكن لا وجود للرعاة في الدولة، لا خدمات لهم، و هذه هي تركة العقلية الاستعمارية تُخرِج لنا لسانها مرة أخرى. أنها عقلية تُقدِم للمواطن من التعليم و الخدمات ما يمكنه من أن يقوم بدوره كمصدر دخل فقط لا غير. فنفس السبب الذي جعل من تعليم أبناء مناطق الوسط أولوية بالنسبة للمستعمر لتغطية حوجته لمحاسبين و موظفين، هو ذات السبب الذي اخرج تعليم أبناء الرعاة من أولويات “الحكومات الوطنية” المتعاقبة، الراعي لا يحتاج للتعليم مدرسي ليعتني بالمواشي و يورد لخزينة الدولة من حاصل تصديرها، و السلطة الاستعمارية لا حوجة لها بتطويره ما زالت “النقاطة” مستمرة و ثمارها دانية. الرعاة من هذا المنظور ليسو بحالة نادرة، ففي شرق السودان أو جبال النوبة أو غيره الكثير من المجتمعات التي تربطها مع الدولة علاقة استعمارية بحتة و المحظوظ فيهم من لم تكتشف الدولة ثروة سريعة تمتصها من منطقته، –ذهب أو بترول أو ماشية أو غيره–، فتركته في حاله و اصبح في دولة و اقتصاد مغلق على نفسه كما في حالة سكان المناطق الحدودية مع أثيوبيا ممن ذكرناهم سابقا. حميدتي اخترق النخبة السياسية بالعنف، و هنا يقبع دائما الخطر الأساسي في عدم توفر أدوات ديمقراطية للمجتمعات تتمكن من خلالها من المشاركة الصحية في اتخاذ القرار و تنفيذه، هذا الوضع يدفعها لابتداع أدوات جديدة و بناء مراكز قوى تجبر الدولة على التعامل معها. في حالة مليشيات الجنجويد مثلاً، سلحتهم الدولة للقيام بحربها ضد قبائل أخرى في دارفور، فكبرت المليشيات و استخدمت سلاحها كأداة لاختراق النظام الحاكم على مراحل منذ صعود نجم حميدتي تحت البشير حتى انقلابه عليه و وجودة كعضو مجلس سيادة حالياً و تمدد سلطاته داخل المجلس و ما سيتبع ذلك.
تمظهرات تفكير النخبة في الطبقة السياسية السودانية كثيرة و كارثية، فعندما ننظر للحزب الشيوعي مثلا نجد انه كان لديه نشاط جيد جدا في وسط مزارعي مشروع الجزيرة تاريخياً و منذ الاستعمار، و ما زال حتى الآن و بعد إفقار المشروع و انهياره، ما زال الحزب الشيوعي السوداني يقدم عمل جيد جدا في التنظيم بين المزارعين و لدعم قضايا المزارعين و تمثيلهم، و كل هذا يبدو جميلا خارج سياق الظرف المحيط.
فلننظر للظرف المحيط. الناظر إلى تفاصيل مشروع الجزيرة يجد انه تكون من مزارعين، يملكون 5 أو 10 فدانات لكل منهم و عبر الحكومات المتعددة منذ الاستعمار و بعد الاستقلال كان هناك دائماً شكل “شراكة” بين الحكومة و المزارعين، توفر من خلاله الحكومة خدمات للمزارعين و تأخذ رسوم بشكل أو آخر. دائما أيضاً ما كان يتم استغلال المزارعين سواء من قبل الحكومة أو الدائنين الأجانب أو البنوك أو غيره. و لكن يوجد بالمشروع أيضاً عمال زراعيين، و في دراسة جيدة جدا لواقع هؤلاء العمال صدرت في الستينات في كتاب “أُجراء الريف” لكاتبه يوسف عبدالمجيد، تم توضيح أن النسبة الأعلى و التي تصل في بعض الأحيان لدرجة 70% من ساعات العمل يقوم بها العامل الزراعي، و يعود له رغم ذلك اقل من نصف ما يعود على المزارع. المزارع إذاً و رغم انه مُستَغَل من قبل الدولة و البنوك إلا انه أيضا شريك في استغلال اكبر للعامل الزراعي. في الوقت الذي كان العمال الزراعيين يشكلون فيه اكثر من 70% من تعداد سكان المشروع لم توجد مدرسة واحدة في “الكنابي” – و هو جمع كمبو المشتقة غالباً من camp ، و هي مناطق سكن العمال الزراعيين–، مما يوضح التمييز المؤسسي الذي تقوم به الدولة ضد العمال و سكان الكنابي. ولكننا لم نرى الشيوعي يعمل على تنظيم العمال الزراعيين ولا دعم قضاياهم، و هي –أي قضايا العمال– بطبيعتها و تعريفها تهدد فيما تهدد، مصالح المزارعين. الحزب الشيوعي في الحقيقة رفض التنظيم في وسط العمال الزراعيين في الستينات تحت قيادة عبدالخالق محجوب السكرتير العام وقتها بحجة –فيما معناه– انه يهدد النسيج الاجتماعي، و المقصود هنا بالطبع لا يمكن ان يكون النسيج الاجتماعي للعمال انفسهم، بل هو مجرد لفظ مخفف لتهديد مصالح المزارعين. هناك عوامل أخرى ساهمت في تفضيل المزارعين على العمال في هذا السياق، العمال ليسو من المركز، هم مهاجرون من قبائل الغرب و الجنوب المضطهدة تاريخيا، و كما ذكر يوسف عبدالمجيد مازحا أو غير مازح، أن من الطبيعي أن يفضل عبدالخالق و رفاقه من أفندية المركز المتعلمين أن يعقدوا اجتماعاتهم في بيوت المزارعين مالكي الأراضي الميسورين المتحدثين بلغة عربية تشابه عربيهم، و يمتلكون حمامات داخلية، من أن يدخلوا كنابي العمال المتسخة.
إذا حتى اليسار السوداني –إذا افترضنا الحزب الشيوعي ممثلا له–، هو في الحقيقة على يسار النظرة النخبوية فقط لا غير. اللاعبين الأساسين و المكونات الأساسية للطبقة الحاكمة السودانية بشكل عام هي مكونات وفية لطبيعتها و اصلها النخبوي الرجعي بدرجات و نكهات مختلفة متفاوتة. توجد بالطبع استثناءات تؤكد القاعدة من جهة، و تعبر من جهة أخرى عن تمظهرات مشوهة و هزلية. نذكر في هذا السياق ما قلناه عن تمثيل الشيوعيين لقضايا المزارعين المشوه بأنكارهم لقضايا العمال، أو حزب المؤتمر السوداني الذي يطرح جدلية مركز و هامش بدلا عن الجدلية الطبقية مشوهة في منطقها الذي يقتطع المركز و الهامش من علاقاتهم الاقتصادية فلا نجد طرحاً للمؤتمر السوداني عن قضايا المهمشين في الزراعة اة الرعي او مصالحهم الاقتصادية او كيفية توجيه موارد الدولة نحو دعمهم، فيردد المؤتمر السوداني مفردات المركز بينما هو يمضي في دعم سياسات اقتصادية نيولبرالية ليست في مصالح تنمية الهامش في شي. هناك ايضاً استثناءات أخرى عبارة عن هزل محض، كحالة ممثل جبال النوبة في المجلس السيادي الحالي (صديق تاور)، فجبال النوبة التي هي منطقة تقع حاليا تحت سيطرة قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان جناح عبدالعزيز الحلو، حيث استطاعت تحريرها من حكم الجبهة الإسلامية منذ اعوام، منطقة عانت تاريخيا من التهميش الإثني و الديني و تطالب حاليا بالعلمانية أو تقرير المصير كشرط للسلام، ممثل هذه المنطقة الذي اختارته قوى الحرية و التغيير هو مرشح قادم من حزب البعث العربي الاشتراكي(!)، عروبي الفكر يمثل اكثر المناطق تضرراً من المركزية العروبية الإسلامية! جميعها استثناءات غريبة و مضحكة، و لكن هذه هي نخبتنا السياسية و منهم كأفراد و أجسام جاءت الأجسام التي كونت قوى الحرية و التغيير.
فلنسرد ما حدث منذ ديسمبر 2018 بشكل سريع و مختصر قدر الإمكان: الوضع الاقتصادي الخانق أوصل الناس المقهورة إلى مرحلة الخروج إلى الشوارع، و كان ذلك قد حدث سابقاً في 2012 و 2013 و 2016 مع موجات رفع الدعم عن الدقيق و المحروقات. كان الوضع في هذه المرة أسوأ بدرجات. انعدم عيش، انعدم بنزين، مستويات مخيفة و غير مسبوقة من التضخم، و من ثم انعدم حتى النقد (الكاش). بدأت مظاهرات في بدايات ديسمبر من يوم 6 في مدن متفرقة و تصاعد الغضب، و في عطبرة تم حرق دار الحزب الحاكم و كان حدث جلل شرخ أسطورة قوة النظام و أجهزته الأمنية. تجمع المهنيين السودانيين كان جسم نقابي اعلن نفسه في يوليو 2018 وهو موجود منذ 2016 كتحالف نقابات موازية نشأ بهدف دعم إضراب الأطباء في 2016، نذكر هنا أن النقابات المكونة للتجمع هي نقابات أطباء و مهندسين و صحفيين و محاميين، و هي وظائف و مواقع عمل الطبقة الوسطى–العليا، أي أنها كانت نقابات النخبة إلي حد بعيد، و في ذلك نتيجة طبيعية لكون موظفي هذه القطاعات هم من لهم التعليم و الأدوات و الأمان النسبي من بطش النظام مقارنة بغيرهم ما يمكنهم من أن يقوموا بتنظيم انفسهم، فعنف الدولة تجاه تنظيم أطباء مثلا اقل بكثير من عنفها اتجاه تنظيم عمال بناء فقراء.
في أكتوبر 2018 اصدر التجمع اصدر أول ورقة له عن الحد الأدنى للأجور و طالب برفعه من حوالي 400 جنيه –و التي كانت تساوي حوالي 5 دولار أمريكي وقتها– إلي حوالي 8000 جنيه. اعلن التجمع انه سيُسيِر موكب لتسليم الورقة إلى البرلمان في 25 ديسمبر. بحلول ديسمبر كان وضع الاحتجاجات كما ذكرنا في أيام 6 و 13 و 19 في مدن القضارف و الدمازين و يوم 22 ديسمبر في الخرطوم، كان المزاج السياسي العام أعلى من اقتصار المطالب على رفع الحد الأدنى للأجور. أعلن التجمع يوم 23 ديسمبر تغيير وجهة موكبه إلى القصر بدلاً عن البرلمان، و ارتفع المطلب من رفع الحد الأدنى للأجور إلى المطالبة بإسقاط النظام. كان موكب 25ديسمبر مهولاً في حجمه بالمقارنة بي حجم التظاهرات في الـ30 سنة السابقة له. اذكر هنا أن آخر مظاهرة شاركت بها قبل 25 ديسمبر كانت في يناير 2018 و كان قد دعا لها الحزب الشيوعي ضد ميزانية 2018 أو ما سماها “بميزانية الجوع”. يُحسب للحزب الشيوعي هنا انه و في وسط من اللاعبين السياسيين المعتمدين على ردة الفعل، كان الشيوعي قادر على قراءة و استطلاع الأوضاع الاقتصادية بشكل جعله يدعو في يناير إلى رفض القرارات التي صنعت الأزمة بحلول ديسمبر. في تلك المظاهرة كنا حوالي 500 متظاهرة و متظاهر، 5 دقائق في شارع القصر و ساعتين من الجري و التخفي من الأمنجية، و في ذلك حادثة ممثلة لمعظم التظاهرات بالخرطوم. لذا و عندما وجدنا انفسنا في 25 ديسمبر و في وسط سيل يشكله اكثر من 6000 متظاهر أغلقوا شوارع العاصمة الرئيسية لساعات يومها، من الطبيعي أن نقراء هذا اليوم و نسجله في ذاكرتنا كحدث مهول.
ما حدث من تضاعف في حجم التظاهرات يمثل ظاهرة كانت قد تكررت في الاحتجاجات السابقة، حيث دائماً ما شهدنا نقلات نوعية في حجم الاحتجاجات مع ظهور أجسام “لا حزبية“، رأينا ذلك مع ما سمي بالحركات الشبابية في احتجاجات 2012 يونيو–يوليو، مما يوضح رفضاً جماهيرياً للطبقة السياسية الحالية. يمتزج هذا الرفض مع غياب التنظير السليم عن أسباب و مبررات الشقاق مع النخبة الحاكمة و انفصال مصالحها بل و تضادها مع مصالح الجماهير، فيتحول رفض الطبقة الحاكمة إلى أهزوجة اللا–حزبية التي انتشرت و ما زالت تهيمن على الساحة السياسية. لسان حال الجماهير كان يردد “الأحزاب فاسدة و نبحث عن أجسام لا حزبية نناضل تحت قيادتها“، في هذه المرة، الوضع الاقتصادي في أسوء أحواله، أعداد الغاضبين في أقصاها، ظهر تجمع المهنيين و اعلن الموكب في الوقت المناسب و وجد نفسه في قيادة حراك كبير.
واصل التجمع إعلان المواكب و في يوم 1/1/2019، ذكرى الاستقلال، نشر التجمع إعلان الحرية و التغيير، و الذي يطالب بالتنحي التام للبشير و نظامه دون قيد أو شرط و حكومة انتقالية لمدة 4 سنوات تقوم ب 9 مهام، …الخ. ظهر الإعلان موقع من قبل 4 جهات هي: 1: تجمع المهنيين، 2. نداء السودان و هو تحالف يضم حزب الأمة، الحزب الطائفي بقيادة الصادق المهدي، رئيس الوزراء قبل انقلاب 89، حزب المؤتمر السوداني، و الجبهة الثورية التي تضم عدد من حركات الكفاح المسلح، 3. الإجماع الوطني و هو تحالف يضم الشيوعي و البعث و غيرهم. و نداء السودان و الإجماع الوطني كما ذكرنا سابقا هم أبناء نفس النخبة المحافظة بدرجات مختلفة، و لكن بشكل عام نُمايز بين نداء السودان و الإجماع الوطني مؤخراً بموقفهم من الهبوط الناعم أو مشاركة و إصلاح النظام بدل إسقاطه. مفردة الهبوط الناعم تعود في السياق السوداني إلى خطة “الطريق إلى الحوار الوطني” التي قدمها المبعوث الأمريكي إلى السودان برينستون ليمان في العم 2013 طارحاً شراكة بين النظام الحاكم و المعارضة عبر حوارات و محادثات برعاية المجتمع الدولي بدلاً عن إسقاط النظام. أحزاب نداء السودان و حتى نوفمبر 2018 كانت قد دعمت المشاركة في انتخابات 2020 ضد البشير بينما طرح الإجماع الوطني إسقاط النظام بالانتفاضة الشعبية و رفض المشاركة. نرى هنا الفروقات الأساسية بين الجانبين، و نُذكِر انها في الحقيقة ليست فروقات مبدئية بينهم، فها نحن نرى قيادات الإجماع “الرافضة للهبوط الناعم” تجلس للتفاوض و اقتسام السلطة مع المجلس العسكري، كما نرى قيادة المؤتمر السوداني من نداء السودان و قد تقمصت طيلة فترة التظاهر قيادتها للاحتجاجات و الاعتصام رغم أنها قبل أشهر كانت تحاجج بعدم وجود مكون يسمى الجماهير و باستحالة الثورة و منطقية المشاركة في الانتخابات!
المكون الرابع كان 4. الحزب الاتحادي المعارض و الاتحادي هو الحزب الطائفي الموازي و المضاد لطائفة حزب الأمة و قد كان الاتحادي ذلك الوقت في تحالف مع حكومة البشير بينما الاتحادي المعارض على الجانب الآخر موقعاً على إعلان الحرية و التغيير.
ظهر الإعلان بهذه التوقيعات الأربع مفتوح للتوقيع، فوقعات عليه عشرات الأجسام المطلبية و الفئوية و النقابات الموازية و طلبة الجامعات في أول أسبوع.
و ظهر مسمى قوى الحرية و التغيير مدللاً على الموقعين على إعلان الحرية و التغيير و قادوا الحراك مع تجمع المهنيين بالتبادل و التوازي و الابتلاع الأميبي أحياناً. هنا اخطأنا في رأيي خطأنا الأول لأننا اغفلنا تحليل اللحظة!
رغم توقيع أكثر من 20 جسم على الإعلان في نفس يوم صدوره و اكتر من 100 جسم حتى الآن إلا أن القرار داخل قوى الإعلان بقي محصورا في الـ4 الأوائل، كان علينا أن نتوقف في لحظة ظهور هذا الوضع غير الديمقراطي و تداركه قبل أن نصل بعد شهور قليلة في أغسطس2018 إلى وضع نجد فيه أن الغالبية حتى من الموقعين على الإعلان تعترض على تفاصيل –أن لم يكن مبدأ– الاتفاق السياسي مع المجلس العسكري و لكن الاتفاق يمر و يتم توقيعه لان القرار في الحقيقة بيد الـ4 الأوائل، كان علينا أن ننظر إلى ذلك الوضع المختل بما يستحق من نقد و تحليل و عمل. كان علينا أن ننظر أيضا إلى ماهية هؤلاء الـ4 و حقيقة انهم ممثلي ذات النخبة الاقتصادية و التاريخية الرجعية اليمينية الفاشلة. هذه النخبة الواضحة في تحالفاتها أعادت تأكيدها عندما وسعت طاولة القيادة لتضم إليها قوى المجتمع المدني و الحزب الجمهوري، لم تضم تفسح مكاناً إذاً لأجسام النازحين الأكثر هماً بقضية السلام أو ممثلي الأجسام المطلبية الأكثر تأثراً بمظالم الإنقاذ، و لكنها وجدت مساحة للقوى المدنية الحضرية الخرطومية ممثلي المنظمات و أحزاب البرجوازية الصغيرة.
و كان من الممكن إن ننظر أيضاّ إلى إعلان الحرية و التغيير لنجد أنه في أول مهام الحكومة الانتقالية يضع مهمة وقف الحرب بمعالجة جذور المشكلة السودانية و معالجة أثآرها و إعادة النازحين و تعويض المتضررين أيضاً، و في ذلك نقاط مهمة و متقدمة فيما يخص تحقيق العدالة الانتقالية. و لكن يختم الإعلان هذه النقطة بعبارة “مع المحافظة على الحواكير التاريخية” و الحواكير، جمع حاكورة و هي قطع الأراضي المحكورة و المخصصة للقبائل. هذه الجملة اذاً تعني أن ننهي الحرب و نعوض الناس و كل الحاجات الكويسة ولكن مع المحافظة على الإقطاعيات القبلية، و التي تشكل جزء كبير من السبب في الصراع في دارفور كصراع حول ملكية الأرض و الموارد.تمسك كتبة الإعلان بالمصالح الاقتصادية التاريخية و الإقطاعية تكشف انحيازاتهم الاقتصادية للنخبة المالكة لوسائل الإنتاج أو المسيطرة. هذا الانحياز مبرر كالكثير غيره من انحيازات السلطة في السودان بما ذكرناه سابقاً عن تركة الاستعمار و الطبيعة النخبوية البرجوازية للفاعلين السياسيين فيه.
كان علينا أن نحلل وقتها هذه المشاكل الواضحة في إعلان و مكونات قوى الإعلان حتى نتفادى ما وصلنا له الآن، لكننا لم نفعل، و عليه فإن لتجويد التحليل السياسي و فتح النقاش حوله أهمية لا يمكن تجاهلها، يثبت جوهريتها واقع ما وصلنا له نتيجة هجر هذا النوع من التحليل.
قراءة الواقع السياسي بهذه الطريقة أيضاً توضح لنا كيف وصلنا إلى ما نحن فيه الآن، حتى في القضايا الصغيرة نسبياً كمسألة منطقة كولومبيا، و هي منطقة ضمن الاعتصام كانت قبله مكان لبيع الخمور البلدية و البنقو و المخدرات و استمرت كذلك أثناء الاعتصام، و كبرت و ازداد عدد روادها مع مع زيادة رواد الاعتصام. كانت معظم محاولات الفض تأتي من جهتها و معظم الإصابات تحملها الموجودين في هذه المنطقة. استخدم المجلس العسكري في مواجهة كولومبيا دوماً الأسطوانة المشروخة المعهودة و المزينة بكلمات الرذيلة و العادات الضارة و الإجرام و “تنظيف” منطقة كولومبيا، فلنتوقف عند الكلمة المستخدمة هنا “تنظيف“، النخبة ترى في المواطنين وسخ يجب تنظيفه! ساندت قوى الحرية و التغيير خطاب تنظيف كولومبيا فأصدرت خريطة لمنطقة الاعتصام توضح أن كولمبيا “خارج حدود الاعتصام” حسب تعبيرهم. تنظيف كولمبيا ما زال الذريعة التي يستخدمها المجلس العسكري لتبرير فضه اعتصامات القيادات العامة في 13 مدينة في السودان في وقت واحد، فالاعتصام لم يكن في الخرطوم فقط. و من هنا نرى خطورة هذا الخطاب المعبر عن انحياز القيادة السياسية لأخلاق البرجوازية و استعدادهم لسحق حق إنسان في الوجود لكونه وسخ يجب إزالته. كولومبيا بالنسبة للقيادة السياسية ليست أولوية فهم مستعدون للتخلي عنها –رغم كونهم لم يمتلكوها يوماً– مقابل مكاسب تفاوضية مع العسكر. في تتالي سيريالي للأحداث و بعد أن سوقت قوى الإعلان لخطاب “كولومبيا خارج حدود الاعتصام” و “كولومبيا لا تمثل الثورة“، استخدم العسكر نفس الخطاب لفض كولومبيا (و هي مساحة لا تزيد 500 متر مربع اسفل كبري النيل الأزرق) ليفض اعتصامات السودان في 13 مدينة يوم مجزرة 29 رمضان بناء على ذات الخطاب.
نذكر هنا ايضاً ان اعتصامات المدن خارج الخرطوم و تظاهرات النازحين و الاعتصامات المطلبية في مناطق التعدين و المناطق الزراعية لم تحظى بأي قدر من التغطية اذا ما قورنت بتغطية اعتصام الخرطوم عبر صفحات التجمع و قوى الإعلان في وسائل التواصل الاجتماعي. حتى ان الناظر من الخارج قد يظن ان اعتصام الخرطوم هو الاعتصام الوحيد و نضال الخرطوم لا يوجد ما يشابهه في بقية البلاد. في هذه المفارقة تظهر مرة اخرى خيارات القيادة السياسية في الانحياز للمركز و أحداثه دون غيرها.
بالعودة لفترة التظاهر قبل الاعتصام و التي استمرت منذ ديسمبر و حتى السادس من أبريل، وقعت الكثير من الأحداث المهمة نذكر منها تكوين لجان الأحياء و إضراب اليوم الواحد و تكتيكات العمل الميداني و غيرها و لكن –وحتى بالنظر للكتابات و التقارير الإخبارية في هذه الفترة– كان العنوان الأكبر هو أن الثورة السودانية ثورة نسائية بامتياز. صور مبهرة لأفواج من النساء في الشوارع قدن التظاهرات و الهتافات و من ثم جاء الاعتصام و فترة ما بعد المجزرة و تراجعت الثورة النسائية إلى عدد من المناصب الوزارية و السيادية مخصصة للنساء، توجد هنا علامة استفاهم كبرى عن الكيفية التي فقدت بها المرأة السودانية ثورتها(؟). فلنتذكر هنا تحليلنا السابقة لحالة التوجه نحو فكرة اللاحزبية كمجرد عرض لغياب تنظير و تحليل جيد يملك للجماهير أسباب تضاد المصالح بين الجماهير و القيادة السياسية، مما خلق بيئة خصبة لفكرة العداء القائم على قسمة (احزب) مقابل (لا حزبيين)، فأصبح من يريد أن ينضم للفعل الثوري يبحث أول ما يبحث عن جسم “لا حزبي” يعمل معه أو تحت قيادته دون أي تحديد لي ماهية برنامج هذا الجسم أو توجهاته منتجاً كلمات و مفاهيم هلامية فضفاضة (مثل حركات شبابية). أرى أن مشكلة انعدام التحليل و التنظير السليم تبرز هنا مرة أخرى، فالمرأة السودانية خرجت ثائرة على وضع قاهر، هي مقهورة من قبل الدولة اقتصادياً و اجتماعياً و سياسياً، و عندما خرجت لم تجد تنظير نسوي لقضاياها فاختفت و أصبحت مجرد أيقونة صورية و صور جميلة، نتيجة كارثية أخرى للكسل عن التحليل و التنظير في العمل السياسي و العام. من جهة ميدانية، كان الاعتصام نفسه قد تحول في وقت ما إلى مساحة غير مرحبة بالنساء، بدءً من تخصيص مداخل اصغر للثائرات إلى التساهل مع التحرش اللفظي، فعلياً تناقصت أعداد النساء في الاعتصام و في ذلك مؤشر خطير، فالمساحات غير المرحبة بالنساء مساحات لا يمكن أن تنتج وضع ديمقراطي. بشكل شخصي و منذ أن اختبرت هذه التجربة وجدت نفسي قد طورت رفض و توتر “لا إرادي” من صور التظاهرات و الاعتصامات و الاحتجاجات الخالية من النساء. ميدانياً علينا دوماً الانتباه لكيفية تعامل مساحات الاحتجاج و العمل السياسي مع النساء و الفئات المقهورة عموماً كمؤشر لصحة و ديمقراطية المساحة. خسرت المرأة السودانية مساحة مهولة اقتلعتها في هذه الثورة نتيجة لغياب التنظير و نتيجة للمناخات غير الصحية، فتحولت قضايا النساء إلى نسب تمثيل في البرلمان. و ما علينا تذكره بالعودة مرة أخرى إلى مركزية الدولة الاستعمارية النخبوية و شكل توزيع الخدمات انه لو أتي السودان ببرلمان 90% من نوابه نساء في هذا الوضع الحالي سيكن أيضاً من نساء نخبة مناطقهم اثنياً و اقتصادياً و تاريخياً. فهن في نهاية الأمر و في ابسط تحليل من حظين بالتعليم و الامتيازات التي تمكنهن من ملء كراسي البرلمان. إذاً نسبة تمثيل المرأة زادت أو نقصت لن تعني تمثيل النساء المقهورات، فذلك غير ممكن علمياً ولا منطقياً، الممكن بالمقابل هو وضع سياسات تمثل مصالح النساء المقهورات (أو ما أسميناه سابقا التحليل النسوي لقضاياهم) و أن يتم الدفع بهذه القضايا حتى نصل إلى مرحلة من توفير الفرص و الحياة الكريمة للنساء تعني انه عندما نتحدث عن تمثيل نسوي لن يكون محصوراً في نساء الطبقة المتوسطة و العليا و النخبة التاريخية. من سيقوم بدفع هذه القضايا و البرامج؟، لابد من أن تدفعها مكونات النخبة نفسها، فهم من يمتلكون الأدوات، و عليه يجب عليهم ممارسة الانتحار الطبقي بدعم قضايا تنتقص من امتيازاتهم التاريخية لمصلحة المجتمعات المقهورة و في هذه الحالة النساء المقهورات بالتحديد، و علينا أن نكون واعين لأهمية هذا الدور، لان علينا الآن استخدام امتيازاتنا لتحطيم امتيازاتنا و هي مهمة تحتاج لدرجة عالية من الوعي النقدي و العمل الفكري المستمر.
كما اختبرنا و رأينا، يؤدي انعدام الرؤية و البرنامج إلى تحول القضية النسوية لهزل على مذهب وكالات الأمم المتحدة، يحصر الأمر في عملية تصحيح أرقام: عدد 2 نساء في السيادي، عدد اربع وزيرات، حتى أصبحت نقطة النقاش في لقاءات المنظمات العالمية العاملة في السودان: 4 رقم بسيط و كنا نتمنى زيادة عدد الوزيرات(!). و كأنما العدد ده هو الهدف و ليس السياسيات ولا نسبة توزيع الميزانية بين الخدمات المقدمة للرجال و النساء مثلا ولا غيره مما سيؤثر على حياة أغلبية السودانيات و السودانيين. هذا اذاً ما حدث لثورة المرأة السودانية في شهور من البطولات في الشوارع و من ثم التحول إلى عدد وزيرات في الحكومة.
تحدثنا إذاً عن بدايات التظاهر، عن بعض اللحظات المفصلية في انحيازات القوى السياسية، من فترة التظاهر و حتى الاعتصام كقصة كولومبيا و غيرها مما أوصلنا إلى يوم الفض، و لكن قبل مجزرة فض الاعتصام مررنا بحدث مهم جدا ألا وهو الإضراب السياسي العام في 28 و 29 مايو قبل 5 أيام من المجزرة.
اغلق الإضراب البلد بشكل كامل، الميناء، المجال الجوي، المدارس، البنك المركزي، المعدنين الأهليين في الصحراء، المحلات التجارية، حتى أن الهندي عزالدين، رئيس مجلس إدارة صحيفة المجهر و الموالي لنظام الإنقاذ كتب مقالا عن فشل الإضراب و لكن مقاله لم ينشر نتيجة للمشاركة الواسعة لعمال المطابع في الإضراب، حيث لم تصدر أي صحيفة في ذلك اليوم.
اضرب عمال الكهرباء و اعتقلت قوات الأمن و الدعم السريع عدد منهم فهددوا بقطع الكهرباء من كل المرافق الأمنية إن لم يتم إطلاق سراح زملائهم فوراً، و قد كان. انتصر عمال الكهرباء يومها على كافة أجهزة الدفاع و الأمن السودانية. كان الإضراب عظيم و كان المطلب سلطة مدنية كاملة و تسليم سلطة فقط لا شراكة.
و لكن الوصل إلى إعلان هذا الإضراب تطلب جهاداً ضد القيادة السياسية التي امتلكت لسان الثورة في وقتها و حق اتخاذ القرار الذي منحناه لها نحن كجماهير بعدم نقدنا لتركيبة قوى الإعلان و حصرها لاتخاذ القرار في الـ4 الكبار كما ذكرنا سابقاً. في ذات الوقت سيطر خطاب التمسك بوحدة المقاومة على الساحة، و عليه فان أي محاولة لإعلان عمل احتجاجي من منفَذ غير عبر قوى الإعلان و صفحة تجمع المهنيين كانت تقابل باتهامات التخوين و محاولات “شق الصف“. كتمت إذاً، لقد خلقنا هذا الوحش المسمى بقوى الإعلان عندما انسحبنا عن نقده، فلم يكن أمامنا سوى أن “نطبطب عليه و نداديه” و نترجاه ليعلن لنا إضرابنا. وصل الأمر في الأسبوع الثاني و الثالث من مايو 2019 لدرجة إصدار جهات و نقابات موازية لبيانات تعلن فيها استعدادها للأضراب “في حال اعلنه تجمع المهنيين“، كانت هذه الأجسام إذاً ما زالت متمسكة بوحدة قوى المقاومة و كانت إعلاناتها هذه تعبر عن اقصي ما يمكن فعله من داخل هذا المفهوم الجامد للوحدة بهدف دفع التجمع لإعلان الإضراب.
بعد جهد جهيد اعلن التجمع فتح باب التوقيع على دفتر الحضور الثوري للإضراب، أي انه يطلب من الكيانات المهنية و النقابات إعلان حضورها أو التزامها بالحضور و المشاركة في الإضراب. و لكن الإعلان جاء خاليا من ذكر تواريخ الإضراب الموعود. نستنتج من ذلك أن هذا الإعلان عن فتح دفتر الحضور الثوري هو ليس إعلان هدفه الأول أن تقوم الكيانات المهنية بتجهيز نفسها و عضويتها لإنجاح الإضراب بقدر ما هو إعلان ربما لتخويف العسكر. الإضراب هنا و في عقيدة من أعلنوه هو إذاً مجرد كرت تفاوض و ليس وسيلة مبدئية للطبقة العاملة.
تباينت المواقف من إعلان الإضراب، حزب الأمة رفض الإضراب في البدء بحجة انه لن ينجح و عندما نجح في اليوم الأول أصر على رفضه دون أسباب اذكرها. و في ذلك موقف منطقي لحزب طائفي قيادته تعتمد في ثروتها و امتيازاتها التاريخية على وضع شبه أقطاعي من علاقات الإنتاج. من الطبيعي أن يرفضوا إضراب عمالي يقلب موازين القوى بين العاملين و أصحاب العمل إذاَ.
الحزب الشيوعي كان متحمسا جدا للإضراب حتى طاله اللوم لاحقاً من بعض القيادات السياسية، بحجة انه كان “يعمل من اجل إنجاح الإضراب اكثر من عمله لإنجاح التفاوض”. و كأن في ذلك ما يلام عليه أو ما يسيء!، فحتى براغماتيا و ما زال الإضراب وسيلة لترجيح كفة الجماهير و تحسين موقفها التفاوضي فما المبرر لمحاولة إنجاح التفاوض قبل الإضراب و الوصول إلى مكاسب أقل اذاً؟
المبرر هنا موجود داخل طبيعة هذه القيادات اليمينية الرجعية، و التي تجعل من المنطقي أن يتفادوا تفعيل أدوات تُكسِب الجماهير قوة مستقلة تستخدمها لمصلحتها، و عليه ستستخدمها ضدهم و لو بعد حين. أما الحزب الشيوعي فهو على يسارهم قليلاً، يدعم الإضراب و لكن إضراب محدد بزمن، يومين، يخيف العسكر قليلاً دون أن يكون إضراباً مفتوحاً يُظهِر للطبقة العاملة قوتها الحقيقية (أو ما يسمونه بالفوضى).
بالنظر لهذا الوضع نستنتج أن رفض القيادة السياسة التوجه نحو إضراب مفتوح بعد نجاح إضراب يومي 28 و 29 مايو، و كذلك رفضها للاستمرار في العصيان المفتوح بعد مجزرة الفض، حيث انجح الشعب السوداني عصيان عام لـ3 أيام و كان يمكن أن يتحول إلى إضراب مفتوح و كان العالم بأجمعه يدين المجلس العسكري بعد المجزرة، و كان هناك مساحات كبيرة جدا يمكن أن تكسبها القيادة السياسية لنفسها إلا أنها آثرت أن تتقاسمها مع العسكر، نستنتج أن هذا الرفض منطقي جداً بل ولا يمكننا توقع أي تصرف مخالف من هذه القيادة. فتفضيل القيادة السياسية “المعارضة” التفاوض و التحالف مع جنرالات البشير للحفاظ على النظام القائم، تفضيلهم لذلك على التحالف و العمل على عصيان صغار الجنود، هذا التفضيل ليس نابع من كسل فكري و عملي فقط بل أيضا من اختيار مبدئي قائم على توجهات نخبوية برجوازية تسعى إلى لحفاظ على وضع امتيازات طبقتها. لا يمكن تبرير ذلك بموازنة قوة السلاح لدى العسكر إلا ان تناسينا ان بين القوى العسكرية من أنفت قوى إعلان الحرية و التغيير التحالف أو التضامن معهم، نذكر ضمن ذلك و بعد اشهر من أيام الإضراب و عقب تشكيل الحكومة، ما حدث من تسريح الجيش لصغار الضباط و الجنود ممن تضامنوا مع الثوار. كان ان وقفت الجماهير تضامناً مع جنودهم المخالفين لأوامر أصحاب السعادة فخرجت المواكب “لرد الجميل” و بقيت قوى إعلان الحرية و التغيير بجانب الجنرالات. هنا ظهر تحالف القيادة السياسية مع القيادة العسكرية جلياً كما ظهر تحالف الجماهير و صغار الضباط و الجنود في مشهد تضامن طبقي لا يمكن انكاره
عقب فض المجزرة انتشار لأحداث العنف في الشوارع و إرهاب للمواطنين استمر لأيام بعدها في الكثير من مدن السودان وانقطع الإنترنت و انتشرت المظاهر الأمنية. كانت هناك دعوات قبل الفض إلى تسيير مواكب مليونية يوم 30 يونيو أي في ذكرى انقلاب الجبهة الإسلامية الذي أتي بعمر البشير. كانت الدعوة قد صدرت من أفراد من المعتصمين و قد كان المقترح بتسيير المواكب من ساحة الاعتصام نحو القصر الجمهوري للمطالبة بالسلطة المدنية الكاملة. تواصلت الدعوة بعد انقطاع الإنترنت، فكبرت و نمت بفعل عمل و نضال لجان المقاومة في أقسى أوقات بطش النظام. نذكر هنا أن حزب الأمة رفض قيام هذه المليونية بحدة وصلت إلى مرحلة التهديد بجلوس الأمة مع العسكر و الاتفاق معهم منفرداً إذا ما تبنت قوى الإعلان الدعوة للمليونية، هذا الموقف الحاد من حزب الأمة يأتي كنتيجة طبيعية لوصول الشقاق بين الجماهير و السلطة إلى مرحلة لا يستطيع معها حزب الأمة الحفاظ على وجوده سوى بالتحالف المفضوح مع السلطة ضد رغبة الجماهير و قراراها. لم يستطيع حزب الأمة رغم ذلك كبح إرادة الجماهير. و رغم تأخر قوى الإعلان عن تبني المليونية و الدعوة إليها إلا أن إرادة الجماهير كانت أقوي. كان التواصل و الإعلان للمليونية يتم بالكتابة في الجدران و القصاصات و المنشورات و الرسائل النصية. اذكر فيما اذكر في 29 يونيو و الذي كان أخر يوم عمل لشركة “كريم” في السودان حيث كان قد تم شراءها من قبل شركة أوبر الأمريكية و التي لا تعمل في السودان نتيجة للعقوبات الأمريكية، في هذا اليوم وصلت رسالة نصية من شركة كريم لكل عملائها تدعوهم للمشاركة في مليونية 30 يونيو “لإسقاط المجلس العسكري الانقلابي“. كانت هذه الرسالة في الأغلب مخاطرة من موظف أرسلها و اغلق المكتب، لكن بعد المرور بـ“مجزرة” تتغير نظرة الناس للمخاطر و تعريفهم لها. بطولات و تكتيكات كثيرة أدت إلى نجاح مليونية 30 يونيو تحت قمع حكم المليشيات المباشر لمعظم المدن، فكانت مليونية مهولة من صنع 7 مليون متظاهرة و متظاهر في شوارع السودان المختلفة من العاصمة إلى مخيمات النازحين.
و لكن و كما هو متوقع و مكرر و مفهوم آثرت القيادة السياسية العودة للتفاوض بدرجات مختلفة، تفاوض مباشر أو غير مباشر، و ضع شروط ثم العودة للتفاوض دون تحقق الشروط. في تكرار ممل للفشل و نتيجة لأولوية الحفاظ على الوضع الحالي و الإصلاح من داخله في اكثر الأفكار راديكالية بالنسبة لهذه القيادة السياسية، لم يستطيعوا تخيل طريق غير التفاوض مع العسكر و مقاسمتهم السلطة. و هو نفس الطريق الذي سلكوه في انتفاضة 1985 ضد نميري و انتج لنا ثورة بلا مكتسبات، فالتغييرات كانت لحظية و استثنائية دون تغييرات حقيقة في النظام تؤدي إلى بقاء الحقوق المكتسبة من نتاج الثورة بعد زوال الوضع الاستثنائي. لقد اختبرنا ذلك في التاريخ القريب و قبل حوالي 15 سنة بعد توقيع اتفاق السلام بين حكومة البشير و الحركة الشعبية لتحرير السودان و قبل الاستفتاء على استقلال الجنوب. أتي ذلك الاتفاق بفترة انتقالية شملت بعض من الازدهار اقتصادي للطبقات الوسطى و العليا و القليل من الحريات الليبرالية و مساحات تعبير نتيجة لوضع انتقالي استثنائي، و بمجرد نهايته و ما عقبه من استفتاء و استقلال الجنوب، صرح البشير وقتها أن السودان اصبح بهذا بلداً مسلماً خالصاً لا حوجة فيه لحديث العلمانية و التعددية. فترة انتقالية و بانتهائها انتهى الظرف الاستثنائي و عدنا أسوأ مما كنا. و كذلك كانت 1985 و كذلك ستكون 2019 و أي حراك أن لم يُحدِث تغييرات في أشكال التنظيم في المجتمع بحيث تُغيير شكل العلاقة بين الجماهير و السلطة بشكل مستدام و ليس استثنائي. عندما ننظر إلى الكيانات التي فككتها الإنقاذ في فترة حكمها من نقابات و اتحادات طلبة و أحزاب نجد أنها قد فككتها بسهولة نسبية في أول سنينها. على الجانب المقابل بقيت بعض التعاونيات الزراعية التي أُقيمت في زمن نميري في السبعينات موجودة و فاعلة حتى بداية الالفينات. تأتي قدرة هذه التعاونيات على البقاء من كونها مبنية على شكل تنظيم مجتمعي اقتصادي قوي لا يتفكك بقرار أو تغيير قانون. إذا لم نغير نهج التغيرات الاستثنائية سننتج لا محالة للمرة الثالثة في تاريخ السودان ثورة دون أي مكتسبات. فحكومة الصادق المهدي حين انقلاب الجبهة الإسلامية في 1989 عليها لم تجد حتى سند جماهيري يرفض الانقلاب العسكري، و من الممكن جدا أن يتكرر نفس الأمر مع الحكومة الحالية، فالجماهير إن لم ترى مصالحها تتحقق من خلال الحكومة لن ترى فيها حكومة تستحق الدفاع عنها.
بعد مليونية الـ30 من يونيو دخلنا مرحلة العودة للتفاوض و ما تخللها من تجاذبات و لقاءات و توقيعات خرجت بنتائج لا يمكن تحليلها دون استصحاب –كما كررنا مراراً– بنية الدولة الاستعمارية في الجهتين، الجيش كامتداد لقوة دفاع السودان الاستعمارية و القيادة السياسية كنتيجة و سليلة امتيازات الاستعمار و ما بعد استعمار و المتبنية لوجهة نظر نخبوية مشابهة للنظرة الاستعمارية.
من النقاط المهمة في هذه التجربة عامل التدخل الخارجي و اثره. نلاحظ في كل ثورات المنطقة أن لحظات التدخلات الخارجية لحظات فارقة، سواء جاءت هذه التدخلات على شاكلة بيان من الخارجية الأمريكية أو رعاية تفاوض أو حتى تدخل عسكري، و هذا أمر واضح للجميع. بالمقابل و رغم علمنا بأن لحظة التدخل الخارجي تعتبر لحظة تصعيد في الحراك لم نخلق أو نكتسب كجماهير أدوات مقابِلة لمواجهة هذا التغيير و التصعيد.
في اللحظة التي يتحول الحراك فيها من مرحلة جماهير تلتقي بمليشيات الدولة في الشوارع إلى مرحلة دول تلتقي بدول لتحديد مستقبل دول –ربما أخرى–، كيف يمكننا كجماهير أن نحافظ على كرسي في طاولة القرار؟ كيف نحافظ على أهميتنا في الحراك؟ أرى في هذه الأسئلة نقاط مهمة علينا التفكير فيها على مستوى العمل الميداني و الاستراتيجي و اختراع الأدوات. و علينا هنا أن لا نقيد أو نحصر تفكيرنا، و يشمل ذلك كل الأفكار “الحالمة” على شاكلة ما افكر فيه أحيانا من إضرابات إقليمية عابرة للحدود؛ فكرة حالمة نعم، و لكن منطقيا إذا كانت الدول تتهافت لإنقاذ أنظمة بعضها فكيف لنا أن نتخيل أن يهزم شعب واحد حكومات عدة؟ علينا إذاً السعي لأن نكون شعوب عدة في مواجهة الحكومات العديدة و إن كانوا قادرين على نقل التفاوضات و الترتيبات السياسية عبر الحدود فنحن كذلك قادرون على نقل الاحتجاج و الثورة عبر الحدود. ربما نرى يوما ما إضراب موحد بمطالب موحدة عبر دول القرن الأفريقي، و مطالب موحدة لإضراب عام في حوض البحر الأبيض المتوسط، ربما(!)، المؤكد هنا انه علينا اختلاق تكتيكات جديدة لمواجهة لحظات التدخل الخارجي هذه.
حدث ما حدث من تفاوض اذاً، بتدخلاته الخارجية والضغوط و العمالة و إخفاء الحقائق و غيره. و خلصنا في النهاية إلى الوضع الحالي، مجلس سيادي من 6 مدنيين و 5 عساكر (هم المجلس العسكري نفسه)، مجلس وزراء يعين وزير دفاعه و داخليته العساكر و البقية اختارتهم قوى الحرية و التغيير و مجلس تشريعي مؤجل حتى الآن و كان قد قيل أن ألإعلان عنه سيتم في 31 ديسمبر 2019، و ها نحن في بدايات ابريل من العام 2020 و لم نرى أو نسمع عنه شيئاً. نذكر ايضاً هذا الوضع و الحكومة التنفيذية الناتجة عنه لم يجدوا رفضاً من ممثلي النظام السابق، بل و وجد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك و حكومته الإشادة من غندور، و لم يتغير موقف الإسلاميين من الحكومة الحالية الا بعد صدور قانون تفكيك التمكين، فكانت اول تظاهرة دعوا لها ضد الحكومة بتاريخ 14 ديسمبر، أي بعد أسبوعين من إجازة القانون. يتضح من ذلك ان تشكيلة الحكومة و طبيعتها لم تشكل تهديداّ يذكر للإسلاميين فلم يضطروا لرفضها الا بعد ظهور التهديد المباشر لمصالحهم الاقتصادية و مؤسساتهم و مواقعهم فيها كأفراد.
الآن و بعد أن فككنا ما نعنيه بالسودان ممثلاً في الغالبية الأقل حظاً من مكوناته و ساكنيه، و عرفّنا نجاح الثورة بإعادة صياغة العلاقة بين هذه المكونات و السلطة بشكل يمنع استمرار استغلالها و قهرها مؤسسياً، و نظرنا إلى أحداث الثورة و الفاعلين السياسيين فيها و مواقفهم و انحيازاتهم المختلفة من هذا المنظور، تبقّى إذاً أن ندلف إلى موازنة المكاسب و الخسائر في ميزان هذه التعريفات لنجيب على سؤال انتصار الثورة السودانية أو هزيمتها.
تفاصيل كثيرة يمكن أن توضح ميزان القوى في هذه الحكومة، يمكننا النظر إلى الوثيقة الدستورية مثلا لنرى أن إصلاح المؤسسة العسكرية متروك للمؤسسة العسكرية و هو ما لا يمكن وصفه سوى بكونه نكتة بايخة، فلو كانوا منطقيا قادرين أو راغبين في إصلاح مؤسستهم لفعلوا ذلك في 30 عام من حكم الإنقاذ أو حتى في 70 عام منذ الاستقلال. و نتذكر هنا عزوف القيادة السياسية عن التحالف مع صغار الضباط و الجنود المنحازين للثورة و الذين يمثلون مفتاح الإصلاح الحقيقي للمؤسسة، القيادة السياسية اختارت التحالف مع قيادات الجيش التي تكمن مصالحها في إبقاء شكله الحالي و رفض الإصلاحات الجذرية. يمكننا النظر أيضاً إلى قيادة حميدتي قائد قوات الدعم السريع لمفاوضات السلام، أو إلى الوثيقة الدستورية التي أعطت العساكر سلطة اختيار أعضاء مفوضيات السلام و الانتخابات و الحدود و الدستور، مما يوضح أن أدوات عنف الدولة في الجيش و الشرطة ما زالت في يد العسكر و كذلك اهم القرارات المتعلقة بصنع السلام و الدستور و غيره.
تفاصيل عدة يمكننا التطرق إليها لقياس و موازنة مكاسب و خسارات الثورة السودانية، فالبشير مثلاً سقط و نظامه ما يزال قائم، فهل انتصرنا أم انهزمنا؟، الإسلاميين خارج الحكم و مصالحهم الاقتصادية ما زالت مستمرة، و سؤال النصر أم الهزيمة يعود الينا، إلا أنني ارغب بتوجيه النظر إلى حدث معين نجري من خلاله هذه الموازنة لقراءة وضعنا الحالي. فللنظر إلي ما حدث في منطقة تالودي الغنية بالذهب في جنوب غرب السودان، و في هذه المنطقة نظم السكان اعتصام لرفض عمل شركات الذهب في منطقتهم لكونها تلقي بمخلفات السيانيد غير المعالجة في مناطقهم مما يؤدي إلى أضرار صحية و أمراض تصيب الإنسان و الحيوان و الزرع و البيئة بشكل عام. نتيجة لاعتصام استمر 4 أسابيع و تظاهرات و أعمال احتجاجية كثيرة تمكن مواطنو تالودي من الحصول على أمر بإغلاق شركات الذهب، و لكن رفضت شركات الجنيد و السنط و ابرسي الامتثال للقرار، و يجدر بالذكر هنا أن شركة الجنيد مملوكة لقوات الدعم السريع و قائدها حميدتي. رفضت الشركات إغلاق مصنعها فتحرك السكان في موكب نحو المصانع –بعد تقديم مذكرة للجيش و إمهاله 48 ساعة لتطبيق القرار و إغلاق المصنع–، و هناك أمام مصنع الجنيد تعرض لهم جنود الدعم السريع بالذخيرة الحية. كان ذلك في 3 أكتوبر 2019، أي بعد اقل من شهرين من توقيع الوثيقة الدستورية و تشكل الحكومة “المدنية“. في مساء نفس اليوم اصدر المجلس السيادي بيان قرأه ناطق عسكري باسم المجلس في شاشة التلفزيون القومي قبل منتصف الليل بدقائق. أدان البيان الاعتداء على المصنع و عدد ممتلكات المصنع التي تم حرقها و تخريبها من قبل “مجموعات مسلحة” حسب بيان المجلس. هنا إذاً و في قضية واضحة جدا وضعت صحة الناس مقابل ذهب حميدتي، كان خيار الحكومة ممثلةً في مجلسها السيادي الاصطفاف مع مصالح حامل المال و السلاح مقابل هدر فرص العدالة للأغلبية المتضررة و المسحوقة من اجل مراكمة أموال آخرين. أدان المجلس السيادي اعتداء المواطنين على شركات الذهب دون أي ذكر لسنوات من اعتداءات و انتهاكات هذه الشركات لحقوق المواطنين و صحتهم.
لا يوجد تغيير في العلاقات بين الجماهير و السلطة إذاً، ما زالت السلطة في حماية ذات الجهات المسيطرة بامتيازاتها و ثرواتها في عهد النظام السابق على حساب مصالح ذات الجهات المقهورة منذ عهد النظام السابق.
في مناطق مجاورة استطاع المعدنيين الأهليين باحتجاجهم إلغاء إتاوات و رسوم غير منطقية تفرضها عليهم الدولة دون خدمات، و هذا كما أثبتنا سابقاً انتصار استثنائي، و لكننا لم نوجد شكل علاقة جديدة لملكية الناس للأرض و الثروات القومية قادرة على حل أنظمة الإتاوة و لم نوجد علاقة و أداة جديدة بين المعدنيين الأهليين و أصحاب الأرض و السلطة تضمن قدرتهم على مواجهة عنف الدولة الاقتصادي أو حتى المسلح و تمنحهم مساحة للمشاركة في اتخاذ القرار. لم نخلق علاقات و أشكال تنظيم تدعم استدامة المكتسبات الاستثنائية. و ما زال المكتسبات استثنائية لا يمكننا عدها في قائمة الانتصارات، و لكننا نرى في كل ما لم نحقق (بعد) مجموع الخطوات و خطة العمل لنضالنا القادم و المتواصل.
فعلى صعيد آخر ما زالت الكيانات المقاومة قادرة على التأثير على القرار السياسي و إجبار مراكز السلطة على مراجعة الميزانية، أو إصدار التوضيحات، أو التراجع عن التعيينات المعيبة. بالمقابل تتواصل محاولات تدجين هذه الكيانات بوضع قانون يحكم عمل لجان المقاومة و يحصره في العمل الخدمي، أو تعطيل قيام الجمعيات العمومية للنقابات المهنية و استبدالها بلجان تسيير مُعينة. هذا التأرجح بين اكتساب أجسام المقاومة لمساحات جديدة و بين محاولات السلطة تدجينها هو في الحقيقة ديدن العمل الثوري المستمر، فالثورة السودانية و إن كانت لم تنتصر بعد، إلا أنها ما زالت قادرة الخروج من دائرة العودة من كل ثورة دون أية مكتسبات. أجسام المقاومة السودانية قادرة في هذا الظرف الاستثنائي على العمل لبناء أشكال من التنظيم تتمسك بمكتسبات الجماهير و تبني العلاقة بينها على مستوى أعلي من حيث تشابك المصالح و تحليلها؛ مما سيؤدي لخلق جبهات مقاومة أقوي تمكننا أن نواصل المسيرة لنبدأ في قفزتنا التالية من خطوة اكثر تقدماً و بتحالفات اكثر جذرية و مبدئية.