اسماعيل عبد الله
عندما اعلن تحالف نداء السودان عن وثيقته التي اسماها الاعلان الدستوري , كتبنا منتقدين لاجندة تلك الوثيقة لانها لم تشر بصورة صريحة الى خيار الكفاح المسلح الساعي الى اسقاط النظام , ولم تضع بند اللاجئين و النازحين في اولى اولويات ذلك البيان , باعتبار ان اللاجيء و النازح هما المستهدفان بالدرجة الأولى في أي عملية تفاوضية تسعى لارساء دعائم السلام في السودان , وحينما توضع قضية هؤلاء المستضعفين في صدر بنود الاعلان الدستوري , فبالضرورة ان يتبادر الى الذهن مجرموا الابادة الجماعية و التطهير العرقي الذين يحتضنهم النظام , بمن فيهم الرأس الكبيرة , ومن الاهمية بمكان ان يستحضر المتحالفون مع السيد الامام الصادق المهدي , مذكرات الاعتقال التي صدرت بحق اربعة من جاهبذة النظام الانقاذي المتسلط , وحتمية انفاذ الاجراءات القانونية الهادفة الى القاء القبض على هؤلاء المطلوبين , الامر الذي جعل الذين كان حري بهم التمسك بحقوق ضحايا الابادة الجماعية , يركنون إلى اهمال إظهار هذه الحقائق على صدر وثيقة نداء السودان استحياءً ومجاملةً للسيد الامام , هذا الرجل الذي لم يخفي موقفه المعارض لاستكمال استحقاقات المحمكة الجنائية الدولية في الشأن الدارفوري , وهو ذات الشخص الذي شهدت له الميديا المحلية و العالمية على الكثير من التصريحات و الايحاءات و الايماءات , التي تبغض احقاق العدالة الدولية في شأن المطلوبين للمثول امام هذه المحكمة , المتخصصة في مثل هذه الجرائم البشعة المرتكبة بحق الشعوب المستضعفة , فكانت آخر تصريحات السيد المهدي المتململة من ضرورة الايفاء بهذه الاستحقاقات العدلية , ما ورد في لقائه الذي اجرته معه قناة وتلفزيون روسيا اليوم , وكعادته فقد جاءت كلماته ممجوجة ورمادية كرد فعل طبيعي لموقفه وخطه السياسي المتذبذب الذي عهدناه فيه , وخطواته المتأرجحة التي ظل يسلكها طيلة الخمسين سنة من رئاسته لحزب الامة ووجوده في خضم معتركات العمل العام في ربوع الوطن الحبيب.
فحفيد الامام المهدي يعتبر احد اعمدة السودان القديم , التي اقعدت الدولة السودانية عن التقدم و التطور , و حرمتها من مواكبة احقاق الديمقراطية و الحكم الراشد , فجسد من خلال مسيرته السياسية الطويلة اوضح نموذج للكهنوت الديني , فاستغل النزعات الايمانية لمعتقدات الدين الاسلامي الراسخة في وجدان شعبه , و استخدم إرث الثورة المهدية في تغذية مشروعه الطامح الى السلطة التي حاز عليها مرتين , ولم يحقق خلال هاتين الفرصتين انجازاً يستحق الذكر , بل شهدت مدد حكمه الكثير من مظاهر الهلامية و الضبابية و التراخي و اهمال مؤسسات الدولة , وعدم اكتراثه لاعادة صياغة هذه المؤسسات ديمقراطياً , بحيث تصبح صلدة وقوية تسطيع التماسك والوقوف ضد مؤامرات الانقلابيين , فكل الذي عرفناه عن ايام جلوسه على الكرسي هو الضعف و الهوان , ذلك الهوان الذي ما زالت صورته خالدة في ذاكرة الذين عايشوا تلك الايام , فما برحوا يرونه ماثلاً امامهم برغم تقادم السنين و الازمان , فانك لن تجد واحد من الناخبين الشباب بالسودان الحديث المستقبلي , سوف يسمح عبر صوته الانتخابي للسيد الامام بالعودة مجدداً , ليعتلي عرش الحكم في البلاد ويعيد تدوير الفشل مرات ومرات , فجسد الامة السودانية ما عاد يحتمل إعمال مشرطه الصديء , و لا ان يكون فأراً مخبرياً على الدوام , و ان الشأن السياسي السوداني ليس كما كان من قبل , حيث استشراء السذاجة السياسية و التماهي مع الاستعباط والاستعباد الطائفي , ومباركة الفعل الوراثي في شئون ادارة دولاب الدولة و الحزب , فالصادق باختياره للكهنوتية في الممارسة السياسية لا يقل قدراً عن الراحل الترابي او الميرغني , في انتهاج نفس المنهج الميتافيزيقي الذي انتهجه الرجلان في ماراثون الوصول الى الكرسي , فجميعهم استثمر التدين الذي هو السمة الغالبة لاهل السودان , واستغفلوا الناس نتيجة لايمانهم اليقيني و الصادق بالغيبيات , و لم يضعوا نصب اعينهم الواجبات الاساسية للانظمة و الحكومات , الا وهي تجويد الاداء الخدمي المعني بتوفير لقمة العيش والدواء و الكساء و التعليم للمواطن.
إنّ بعض مكونات تحالف نداء السودان قد تواترت بياناتها , مؤكدة على عدم تأييدها لما صرح به المهدي , فبحكم قيادته لمؤسسة هذا النداء السوداني المزعوم قد ادخل شركائه في حرج بالغ , خاصة وان هؤلاء الشركاء يمثلون احرص الجبهات السودانية المعارضة على ملاحقة مطلوبي لاهاي , فقطع حديث الامام قول كل جهيزة من جهيزات تحالف نداء السودان , كانت تدافع عن عملية توليه لرئاسة الجسم الذي انيط به ازاحة الهم و الغم عن صدر شعب البلاد المقهور , لقد أخطأ المتحالفون مع الصادق ايما خطأ عندما قبلوا بالتنازل عن مجرد الحق الاعلامي , في طرح واشاعة المسألة الجوهرية المتعلقة بالمحكمة الجنائية الدولية , فلم يدبجوا تلك الوثيقة بالمطالبة بذلك الحق الذي لا يقبل المساومة , و ذلك الهدف الأسمى الذي يتعلق بانصاف الضحايا , فخلطوا ما بين المطالب السياسية و القضايا القانونية , وكما هو معلوم ان مجهودات التحقيق و التقصي التي تقوم بها المحكمة المعنية , قد ادخلت بعض الذين يرفعون شعار الدفاع عن الضحايا في قفص الاتهام , مما يدل على انها قد اتخذت مسلكاً مهنياً صرفاً , في حسم ملف الجرائم المرتكبة بحق الانسان في الاقليم الغربي , ما يؤكد ضحالة حجة الذين يرفعون صوتهم باتهام المحكمة بالتسييس و الميكيافيلية.
فالطائفيون بجمبع مسمياتهم ليسوا برجال للمرحلة المقبلة , ابتداءً من الجبهة العريضة و انتهاءً ببقايا الختمية و الانصار في الداخل السوداني , فجميعهم يمثلون تكتل فكري تقليدي داعم للنسق القديم في تعاطيهم لامر ساس يسوس في الوطن الكبير , وهم ما يزالون يأملون و يمنون النفس بممارسة ذات المماحكة بعد زوال نظام الحكم الانقاذي , تلك المماطلات التي ارهقوا بها هيكل الدولة في آخر ممارسة ديمقراطية , وعلى الرغم من مشاركتهم لهذه المنظومة الاخوانية , الا انهم يظنون ويحسبون أن ناخب اليوم هو ناخب الامس , لعشمهم الفاضح ورغبتهم الجامحة للعب نفس الدور المكرور الذي لعبوه في فترة الديمقراطية الثالثة , فهذه العقلية الديناصورية القديمة ليست مؤهلة لادارة شان الوطن في المستقبل القريب , وعلى الوطنيين و الثوريين من ابناء شعبنا ان يفوتوا عليهم كل سانحة من السوانح التي من شأنها ان تفتح لهم المجال , وتجعلهم يمتطون ظهر قاطرة النظام الجديد كدأبهم , لقد عاس اصحاب الفكر القديم في البلاد تخريباً منذ مؤتمر المائدة المستديرة , و اطفئوا كل شموع الوعي والاستنارة التي اشعلها الخيرون من ابناء هذه الأمة , فمن باب التكرار يعلم الاحرار لا نرى طائل ولا جدوى من تجريب المجرب , و الواجب الأخلاقي يجبر هؤلاء الاحرار ان يغلقوا كل الابواب والنوافذ منعاً لتغول هذه الانتهازية الطائفية , المتمرسة في تبديل جلدها الحربائي المتقلب و المخادع.
اما الذين ما يزالون يتبعون خطوات الامام وقع الحافر بالحافر , من حملة الاجازات العلمية و الخبراء والمهندسين و الاطباء و القانونيين , عليهم ان يقفوا للحظات و يعيدوا تقييم تجربتهم مع حزبهم المتقوقع والمتمترس في محطته الأولى , و ان يتخذوا القرار الذي من شأنه ان يصب في مصلحة الوطن , وذلك بان يخرجوا من غيبوبة التبعية العمياء لمشروع هذا الحزب , الذي اصبح ضيعة و مزرعة لعائلة الامام واصهاره.
اسماعيل عبد الله
[email protected]