مئات الآلاف من الأرواح الدارفورية التي أزهقت في فترة سلاطين باشا أثناء إدارته للإقليم، ولاحقا المهدية، ثم فترة حرب الجنوب، ثم صراع دارفور الحالي، لم تزهق مثلها طوال فترة سلطنة دارفور التي استمرت أربعة قرون. ولم يحدثنا التاريخ عن إهدار السلاطين الفور لأرواح المكون الإثني الذي كانوا يسايسونه بكثير من الحكمة، بل كانت فترة السلاطين قد شهدت استقرارا، نتيجة لإدارة الدمنقاويين، والشراتي، غير المركزية للحواكير، والديار. وكان من نتاج حكمة السلاطين أن تمكنت دارفور من إقامة علاقات دبلوماسية إقليمية، ودولية. وفي هذه الفترة أيضا تمكن نظام الإدارة الأهلية الذي أقامه السلاطين الفور من إحداث التنوع في النسيج الاجتماعي، وشكلت المصاهرات بين القبائل الوافدة إلى الإقليم من كل اتجاهاته، معلما بارزا لتشكل إنسان دارفور الحالي.
ولهذا سمح السلاطين لاحقا ـ مع اتساع الديموغرافيا ـ بقيام إدارات مناطق داخل الإقليم لا يشرفون عليها مباشرة، وإنما كانت العلاقة فيدرالية بين الديار التي مركزها الفاشر، إذ أسسها السلطان المثقف الرشيد. وفي عهد هذا السطان الذي حقق نهضة ثقافية للفاشر في عام 1780 أقيم مجلس للثقافة بالمقربة من رهد تندلتي الذي يشق المدينة، وتم تكريم العلماء الوافدين، والاحتفاء بهم، وعندئذ بدأت قوافل طلاب رواق السنارية إلى الأزهر. ومن المعلوم أن سلطنة دارفور كانت تقوم مقام الدولة التي لها علاماتها السيادية مثل القصر، والعلم، والعملة، ومجلس وزراء، ومستشارين، وكان للسلطنة مجلس إفتائها، ومارشاتها العسكرية، والتي لاحقا طورها الموسيقار أحمد مرجان، وأصبحت ضمن الجلالات التي يقدمها سلاح الموسيقى. ولهذا يحق للدارفوريين أن يفتخروا بهذا التاريخ الباهر، والانتماء لإقليم مميز، ذلك في وقت لم تكن أجزاء واسعة من السودان الحالي تشهد نظاما خلاقا للحكم، والتسامح الاجتماعي، والاعتناء بالثقافة، وتبني الغريب.
بل إن سلطنة الفور التي سبقت السلطنة الزرقاء كما قال المؤرخ الدكتور أحمد إلياس قد كانت أكثر غنى في تراثها وثقافاتها، وهي التي أمدت دولة سنار بعلماء شناقيط، ووداي، وفولاني، كما بين الدكتور محمد مختار الشنقيطي. ومع ذلك تم تحريف التاريخ لتكون دولة سنار أول نموذج للدولة في السودان الجغرافي الحالي بينما سلطنة الفور كانت أرسخ تاريخا، وتجربة، وتساكنا، في نظام الحكم، كما قال الأستاذ عالم عباس. فهي نشأت عام 1445 بينما نشأت دولة سنار عام 1502.
وعلى كل حال، في ظل التحولات الدولية التي أدت إلى سيطرة العثمانيين على الإقليم غاب الاستقرار في دارفور، ووظف إنسانه المسالم لمشاريع دينية مؤدلجة، واقتصادية، وسياسية، لها علاقة بالمحيط الإقليمي، والسوق العالمية. وحين جاء الحكم الوطني استبشر الدارفوريون بأن يمتد استقرارهم، وأن تتركهم السياسات المركزية لحالهم دون أن تضرب الفرقة وسطهم. ولكن للأسف خاب فألهم، ثم ساهمت الحكومات المركزية جميعها شمولية، وديموقراطية، في إفساد أمن دارفور إلى أن انتهينا إلى هذه الحكومة التي استثمرت دماء دارفور رخيصة لتحقيق تطلعاتها في البقاء في السلطة.
ومع ذلك لا يلقى اللوم عليها فقط فأبناء الإقليم المثقفين، وغير المثقفين، ساهموا بقدر كبير في الوقوع في رغبات الحكومة. ولعل اللوم الأكبر يقع على إسلاميي دارفور، وانتهازييه في المؤتمر الوطني والشعبي الذين أصبحوا أدوات طيعة منذ حين. تحركهم الأيديولوجيا لتحقيق أهدافهم بينما لا ينشغلون بأهلهم الذين تشردوا في المعسكرات. وجاء قادة من الحركات المسلحة عبر محاصصات وزارية ليستلذوا بالمناصب دون إيلاء أي اهتمام بهؤلاء المئات من آلاف المشردين في الإقليم، واللاجئين إلى دولة تشاد. وشمل السقوط في حبائل الذات الضيقة عددا من منسوبي حزب الامة بقيادة أبناء الإدارة الأهلية، صلاح الغالي، ومسار، ونهار، وسيسي، وسعد بحر الدين، ودوسة، وبقية المتعلمين الذين سعوا إلى تحقيق السلطة، والنفوذ، والثروة على حساب المصلحة الإستراتيجية لأهلهم. وهناك نخبة من أبناء دارفور عريضة ظلت تتابع أحداث الإقليم الملتهبة، وتفضل الصمت بعد أن وقفت على حجم الموت اليومي الذي يشمل أقرباءها حتى. وهذا النوع من النخبة يفضل هذه السلبية، إما لدواعي تتعلق بسلامة مكونها القبلي وسط هذا الحريق، أو أنها تخشى من اتخاذ مواقف إيجابية، أو التعبيرات بالكلمة، والتي قد تعرضها لخسران امتيازات عدة.
إن الصراع الذي يدور الآن بين موسى هلال من جهة وبين المركز ليس سوى تمظهر لعلاقات الشد والجذب بين مكون من دارفور وبين مكون من المركز. وبمثلما أن سلاطين باشا كان يحاول إخضاع مادبو ودود بنجا لمركزية الحكم التركي العثماني فإن الخليفة عبدالله نفسه حذا حذوه، إذ حاول أيضا إخضاع مادبو وغيرهم للحاق بالثورة المهدية. وتكرر الأمر في فترة السلطان علي دينار الذي حاول الإبقاء على دارفور مستقلة تدير شأنها بنفسها، ولكن هُزِم في خاتم المطاف وعاد الإقليم تابعا. وظلت الأوضاع مستقرة حتى جاءت الحركات المسلحة لتدخل في تنازع مع السلطة المركزية، وانتهى الأمر إلى ضمور حركتها على أرض الواقع، ومن ثم سيطرت المليشيات التابعة للحكومة على دارفور، إلى أن انتهينا إلى تمكن موسى هلال على إدارة منطقته بعيدا عن سطوة الحكومة. إذن فإن التاريخ ظل يكرر نفسه عبر هذه العلاقة المضطربة بين دارفور وبين المركز بين حقبة تاريخية وأخرى. تتعدد أسباب وظروف الاضطراب، ولكن الفكرة واحدة: إخضاع دارفور إلى إرادة المركز بالقوة، لا بالحوار.
حتى الآن لا ندرك إلى أين تسوقنا المناوشات اللفظية بين موسى هلال والمركز، وهل فعلا يملك الطرفان الإمكانية للاصطدام.؟ ولكن الشئ الذي ندركه أن هلالا لا يطمح أكثر من تعزيز نفوذه، والمنتمين إلى مجلس الصحوة الذي ما يزال ضعيفا في تقديم نفسه كحزب أو تيار سياسي، أو مجلس مطلبي يهدف إلى تغيير البلاد باتجاه الديموقراطية، والتنمية المتوازنة، أم هو حريص فقط على السير نحو تحقيق مصالح هلال ومناصريه. على أن هلالا نفسه لا يملك إلى الآن مشروعا سوى امتلاكه لتاريخ هو متهم عبره بأنه أحد الذين ارتكبوا انتهاكات إنسانية إبان تحالفه مع حميدتي من جهة والحكومة من الجهة الأخرى لصد الحركات. ولكن رغم هذا فإن كل شئ في السياسة وارد، فربما تحول غبن هلال الحالي إلى “دواس” قد يحمله كثيرا لبناء طموحات سياسية أكبر، خصوصا أنه وصل إلى هذا التأثير المليشي من نقطة الصفر، إذ لم يكن لديه نفوذ كبير حتى على مستوى محافظته. بل كان سجينا في بورتسودان لا يقوى على فعل شيء.
الملاحظ في نار الاحتراب في صراع دارفور ـ المركز هو أن وقودها هم أبناء دارفور نفسهم، سواء المتمردين على سلطة المركز أو المدافعين عنه، وكذلك لاحظنا أن الضحايا هم أهل دارفور أنفسهم وليس آخرين سواهم. فضلا عن ذلك فإن الموارد المهدرة هي موارد دارفور نفسها، خصوصا إذا نظرنا مؤخرا إلى الصراع الأخير الذي أدخر إنتاج الزراعة، والرعي، والتجارة، للتسليح أكثر من التنمية البشرية، أو الجغرافية، إضافة إلى الخراب الذي عم قرى دارفور التي كانت تساهم بقدر وافر في المنتجات الزراعية والحيوانية على مستوى القطر.
هناك معارضون من دارفور، وغير دارفور، يتمنون لو أن هلالا وحميدتي اعتركا حتى يهلك كل أفراد ميليشتيهما اللتين قننتهما الحكومة: حرس الحدود والدعم السريع. وقاعدة التمني السياسية البحتة هذه تنبني على أن الميليشيتين خلقهما المؤتمر الوطني لصالح تثبيت دعائم حكمه، وهكذا فإنه ما دام ذلك الاعتراك المتوقع يصب في صالح الحركات المسلحة الرئيسية، وسائر المعارضين، فالاعتماد على قاعدة “اللهم أجعل كيدهم في نحرهم” هي مبتغى المعارضين.
ومهما يكن من أمر فإن التفكير الحكومي الاستراتيجي نفسه يتمنى لو أن تم القضاء تماما على قوة هلال أولا، والقضاء على حميدتي ثانيا، متى ما أحس النظام أن ميليشيا الأخير قد استنفدت أغراضها، أو تشكل خطرا للحكم، كما هو حال مليشيا هلال الآن، على أن تعيد الحكومة الاعتبار لاحقا للقوات المسلحة لصون وحدة البلاد عند خلوها من ميليشيات أقوى من الجيش. ولكن الشئ الذي ربما قد لا تتحسب له الحكومة حقا هو أن أي تفكير للقضاء على هلال ربما يقلب الموازين رأسا على عقب، لو أن التحول في علاقات الجوار مكنه بدعم حفتر، أو دبي، والحركات المسلحة، وحكومة الجنوب، للاستقواء أكثر فأكثر. وربما لو تم حلف مثل هذا فإن الوصول إلى الخرطوم سيكون سهلا لتحالف الراغبين في إسقاط نظام المؤتمر الوطني. ولعل هلال قد هدد بذلك فيما بدت تصريحاته في هذا الخصوص مملوءة بالثقة.
عودا إلى بدء، يظل السؤال قائما إلى أين يقود صراع مكونات دارفور مع سلطة المركز في ظل توطن الأسباب المغذية له طوال أكثر من قرن ونصف تقريبا؟