ألدكتور عبد الله آدم حمدوك الموظف الأممي الكبير والخبير الدولي، لم ينافسه أحد عندما بحث الثوار عن الرجل الأنسب لشغل رئاسة وزراء حكومة الثورة، ويكاد يكون الأوحد منذ استقلال السودان من حيث تحقيقه لنسبة إجماع كبيرة وسط مختلف الشعوب السودانية، فتقريباً توافق عليه العامة من السودانيين عدا القلة القليلة من بعض الساسة وجزء يسير من المثقفين الذين يعدون على اصابع اليد، وازدادت شعبيته عندما وطأت قدماه أرض الوطن وقدم خطابه الأول والمختصر المفيد الذي أرضى به الناس، كما أن لشمول شخصيته لمواصفات الإنسان السوداني العادي الأثر الواضح على لمعان وتوهج نجمه وتمكن إسمه من قلوب الشباب، الذين دافعوا عنه دفاعاً مستميتاً وشرساً وزينوا خلفيات صفحات حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعي، بصورته المطبوع عليها علامة النصر والملحق بها عبارة (شكراً حمدوك).
ألخطاب المختصر والمفيد الذي قدمه حمدوك وهو ما يزال واصلاً لتوه من العاصمة الأثيوبية لتسلم مهام رئاسة الوزارة، كان بمثابة خارطة الطريق لتحقيق أهداف الثورة وتلبية لطموح الثوار، وقد احاط الخطاب علماً بشعار الثورة الثلاثي – حرية – سلام – عدالة، ولأول مرة يطلق مسؤول حكومي رفيع المستوى (إسم للدلع) على الحركات المتمردة والحاملة للسلاح في وجه الحكومات، بوصفها (حركات الكفاح المسلح)، وزار إثنين من أكثر زعمائها شهرةً وعناداً في عقر داريهما، متجاوزاً كل الأعراف والبروتوكولات المعمول بها عالمياً والتي تستوجب نمطاً معيناً في السلوك البروتوكولي، باعتباره رئيساً لحكومة جاءت بعد مخاض عسير لثورة شعبية عظيمة عظم الشعب الذي أشعل جذوتها، وفي ذلك الخطاب وضع البلسم الشافي لحلحلة جذور الأزمة المعيشية بأطروحة الأقتصاد البراغماتي.
ألفرق كان واضحاً بين حمدوك الثوري المتحمس، الذي تحدث لجماهير شعبه حديث القلب للقلب عندما ترجل عن ظهر حصانه الذي أتى به مسرعاً من بلاد الإمبراطور هيلاسيلاسي، وبين أول ظهور إعلامي رسمي له في لقاء المكاشفة العلنية التي عقدها معه الصحفي عثمان ميرغني، فجاءت صورته باهتة ومهزوزة وبدت عليه علامات الرجل غير الواثق، فانتفض الشارع المؤيد له وصب جام غضبه على (الحيطة القصيرة) الصحفي المسيكين عثمان ميرغني، الذي لم يقم سوى بدوره الصحفي والإعلامي المهني المحايد، لكنه الحب الذي يعمي القلوب والبصائر، لقد أحبت جماهير الثورة الشعبية السودانية حمدوك حباً منقطع النظير لم يتوفر لأحد غيره لكنه لم يأخذ هذا الزخم الشخصي المأخذ الذي يليق به ولم يستثمره الإستثمار الذي يخدم قضية الثورة.
ألصالون السياسي السوداني بطبيعته محتضن لأسوأ النماذج من محترفي السياسة في بلادنا، منذ بواكير مؤتمر الخريجين وحتى تاريخ سقوط الدكتاتور، فأمثال حمدوك من خبراء المنظمات الدولية والمدراء التنفيذيين للشركات العالمية لا يستطيعون التعامل مع سكان هذا الصالون، ودائماً ما يصطدمون بخيبات الأمل الشاخصة عبر سلوك هؤلاء الذين نطلق عليهم قادة سياسيون، فكل من خبر دروب ومعتركات هذه الميادين يدرك عظم الورطة التي ولج أبوابها الخبير الأممي، فميادين السياسة السودانية مثلها مثل ساحات (الدافوري) ومعارك كرة (الشُرّاب)، لا قانون يحكمها غير اللت والعجن و(الدفس) والرفس، وبرزت مظاهر هذه الفوضوية في تكوين الحكومة الأولى وتعيين الوزراء السابقين، وفي اختيار بعض من الولاة الجدد الذين تشوبهم شوائب عدم الفكاءة وانعدام القبول الشعبي بولاياتهم.
ألثائر لابد وأن يكون مصادماً ومنافحاً عن حقوق الشهداء والجرحى والمفقودين أولاً، ومن بعد ذلك يتفرغ للنظر في قضايا الباحثين عن توفير الخبز والدقيق وإشباع شهوة البطن، فأيما ثورة لا تصون دماء شهدائها لن تقدر على الأستمرار والصمود، وإفتقار رمز حكومتنا الثورية لعنصر المصادمة أفقده الكثير من المؤيدين، وعلى إثر ذلك انخفضت الأصوات الشاكرة له وبدأت أسهمه في الهبوط وفقدان القيمة، فهذا الشعب عطوف بطبعه لكنه عنيف عندما يبغض ويخاصم، ولكم أن تعتبروا بتجربته مع حكم حزب المؤتمر الوطني المحلول، فلقد انهزم المرابون الذين استباحوا ارض السودان الحلوب أمام المد الكاسح لمعلم الشعوب هذا، ولم تنفعهم أموالهم ولا أولادهم عندما أزفت ساعة ترحيلهم.
ألوطن بحاجة ملحة لجراح ماهر غير مرتجف اليدين لأجراء عملية عاجلة لإستئصال ما تبقى من مفسدين يراوغون ويماطلون ويضعون المتاريس أمام جهود الوطنيين الخُلّص لإنجاز السلام وتحقيق العدالة، فالواجب الثوري المقدس الواقع على رؤوس مثلث سلطة الثوار حمدوك – حميدتي – برهان، يفرض عليهم أن ينظفوا الصالون السياسي السوداني من الواقفين بالمرصاد ضد تطلعات الشعوب السودانية، فتسونامي الثورة التصحيحية قادم بأمواجه العاتية الجارفة لكل متمترس وراء الظلم والفساد وتجارة الحرب.
إسماعيل عبد الله
[email protected]