بقلم عثمان نواى
تتوالى الأقنعة فى السقوط لتكشف عن ان عقلية التمييز والاستعلاء عند نخبة المركز الخرطومى لاتزال تبارح مكانها حتى بعد الثورة وبعد شعارات السلام والعدالة والحرية. وكان آخر الساقطين بعض من أعضاء لجنة نقابة أطباء السودان بالمملكة المتحدة ، حيث قال الدكتور عز الدين ميرغني حمو فى مقال متداول فى الوسائط ” خلال عمل لجنه مشتركه بين لجنه من الاطباء ومجموعه في مانشستر لدعم ثوره ديسمبر، اصر بعضهم أن المواطنين السودانيين في الأراضي المحرره لم يشاركوا في حراك انتفاضة ثورة ديسمبر.
هذا السؤال يجسم العقليه الخربه ونمط التفكير اللإنساني الذي يغيب الآخر أو يلغيه تماما : للغته، لونه،لسحنته،لشكله،لعاداته، وطقوسه ومعتقداته mind set الذي لا يري الاخر (invisible ) هناك (غشاوه) أن كنت لا تراه وتسمعه فلا يمكن ان تحس به وبمعاناته. ” انتهى كلام دكتور عز الدين العضو فى مجموعة مانشيستر .
وقد تم ارسال رسالة الى مجموعة تضامن جبال النوبة فى المملكة المتحدة بذات المضمون تم من خلالها رفض دعم كان يفترض ان يقدم لمستشفى الجقيبة فى المناطق المحررة ،حيث ان نقابة الأطباء تدير تبرعات خصصت للمتاثرين باحداث الثورة السودانية. وكان يفترض ان يتم تخصيص جزء من هذه التبرعات لاقامة مشروعات فى مناطق مختلفة منها المناطق المحررة فى جبال النوبة ودارفور أيضا. ولكن تم رفض منح المبالغ المتفق عليها الى جبال النوبة بحجة ان سكان تلك المناطق لم يشاركوا فى الثورة. ويا له من منطق معوج. بل قال احد أعضاء نقابة الأطباء فى لندن فى تعليق على مقال دكتور حمو ان ” هئية عمليات قوش ليست موجودة فى المناطق المحررة.”! وهل توجد البراميل المتفجرة الساقطة من طائرات الانتنوف فى الخرطوم؟ ام ان مواصفات ضحايا الثورة تنطبق فقط على الاعتقالات والقتل من جهاز الأمن ولا تنطبق معايير ضحايا الثورة على الثائرين منذ سنوات، حرقت قراهم وقتل أطفالهم وحوصروا ومنعوا الطعام والدواء ٨ سنوات عجاف؟ ام ان توقيت الثورة يبدأ من حيث اشتعلت شراراتها فى مناطق معينة وأما بقية مناطق النزاعات فى السودان تقع فى هوامش فوارق التوقيت؟
للأسف ان هذه العقلية التى لا ترى الا نفسها تتفوق دوما على سوء الظن بها. فبدلا ان يرى هؤلاء الأطباء جراح الوطن المفتوحة ويحاولون مداواتها ورتق وجدان الوطن المنفتق من تصرفات تاريخية لا تتوقف عن التكرار المرير، يقررون ان يزيدوا الجرح عمقا، وان يبعثوا الى الاجيال الحاضرة والمستقبلية رسائل الانقسام الوجدانى قبل الجغرافي والسياسي. فإن انقسام الارض ليس سوى تصديق رسمي على انقسام الوجدان الوطنى.
هذا المشهد ليس بجديد ولقد قالها كثيرون من قبل ان نخبة المركز لا ترى فى أطراف السودان سوى أرض بلا بشر. يقول خالد الكد فى كتابه الأفندية فى السودان متحدثا عن مجموعة ابروف إحدى الجمعيات الأدبية المؤسسة للحراك الثقافى ايام الاستعمار وبعض قيادتها مثل احمد خير من المؤسسين لمؤتمر الخريجين قال إنهم ” رفضوا الطائفية لانها تقسم الناس.. ولكنهم لم ينظروا( للناس ) باعتبارهم كل السودانيين، بل فقط طبقتهم من الأفندية المتعلمين. لأن كل مجهود قاموا به كان فقط لتوحيد تلك الطبقة من الأفندية المتعلمين.. وليس لتوحيد كل سكان السودان.”( خالد الكد، الأفندية فى السودان. ص ١١٢)
ولازال الأفندية المتعلمين ينظرون الى السودان فقط على أنه هم ودوائرهم الضيقة. حيث لا يوجد أحد سواهم فى هذا الوطن. يرون النضال والثورة بمقاييس نضالهم هم وفى اطار مناطقهم فقط ويضعون المعايير والقوانين التى تنطبق على قياسهم فقط ويحرصون على تلك المعايير لضمان استبعاد كل من سواهم. هذه اللعبة المستمرة منذ ما قبل الاستقلال فى بناء سياجات تعريف الوطن والوطنية والثورة بما يتفق فقط ومقاسات أفندية المركز، هى التى تمزق الوطن، وهى التى ضيعت فرص توحد سكان السودان منذ مازقبل مرحبا الاستقلال ولا زالت تتكرر ذات الأخطاء الكارثية. ولكن التاريخ فى هذا الفضاء المفتوح للتعبير سوف يكتب ويقرر فى نهاية القصة من المتسبب فعلا فى صناعة أزمات الوطن بدلا عن حلها. ومن الذى لا يحظى ولو بقليل من الحكمة لرأب صدع الوطن المتسع. وهاهم يضيعون فرصة أخرى لبناء جسور الثقة بين بنى هذا الشعب.. فالعبرة ليست فى الأموال بل فى الحساسية والتقدير ورسائل التوحد بين يدى الثورة التى لم تبدأ فى ديسمبر بل بدأت منذ اول شهيد قتل على يد الإنقاذ منذ اول يوم لها سواء فى ساحات الجامعات او فى كراكير الجبال او فى مستنقعات الغابات.. ولكنه قصر النظر والعنصرية التى تعمى اصحابها وتجعلهم غير مؤهلين لقيادة اى مؤسسة وطنية.. رغم تشبثهم الابجى بقيادة البلاد.. ولكنهم فقط يقودونها نحو الهاوية..
nawayosman@gmail.com