المكان : حي شعبي أو بالأدق عشوائي
الموقع : بعيد عن العاصمة بعد الصالحين عن الجحيم
الزمن : زمن النزوح – زمن الحرب .. الحرب التي ضدك أو ضدك
السكان : غُبش
الرائحة : البراز والخمر
الشوارع مثل ثعابين قصيرة تنتهي بطرق مسدودة دائماً ، أهلها أدرى بشعابها ، إذا كنت تتجول في هذه الشوارع لأول مرة ، وأنت تنساب بآلية في طريق طويل فيه كل مقومات الشارع قد ينتهي بكل بغرفة نوم أحدهم.
أنت تعيش هنا بعد أن فقدت كل شئ هناك ، وتحلم بالعودة قريباً لذا تفعل كل أشياءك بصورة مؤقتة ، من أجل هذا فأنت تصارع كل يوم من أجل المأكل والمشرب .. والملبس لا يهمك أمره كثيراً ، حتى صُرعت أخيراً ، صُرعت وأنت تعول أسرة ، أنت الآن راقد وواع تماماً بعجزك ، ترقد والسل يدب في أحشائك دبيب السوس في العود ، تحولت كلماتك إلى سعال وصديد ، عظامك البارزة مواسير تنساب فيها الحمى ، هناك أيضاً تقرحات على ظهرك من كثرة الإستلقاء ، هذا بيني وبينك لأن لا أحد يعلم عنها شئ حتى الآن ، لا شئ تفعله سوى النظر ، النظر فيما حولك ، صرت عيناً … ترصد كل الأشياء حتى الأصوات. الآن أنت متكوم في غرفتك الخاصة .. الغرفة الوحيدة التي تخصك وتخص أفراد أسرتك زوجتك وتوأميك ولكنك ترى كل ما يحدث في شارع حيّك العشوائي أو بتسمية أكثر لباقة \”معسكر النازحين\” ترى الأطفال عراة وحفاة وهم يتمرغون في القذارة يقضون وقتهم في اللعب ومطاردة الكلاب في فوضى ، الأمهات والآباء بتجهون حثيثاً نحو الموت والسجون والجنون .. ترصد هذه الحلقات كل يوم من موقعك هذا ، حلقات كثيرة من الناس ، حلقات صراع ، حلقات شجار بالآلات الحادة وحلقات رقص التي تكون في العادة أكثر من بقية الحلقات ، رقص لأن أحدهم تزوج ، رقص لأن أحدم تمت ترقيته ، ورقص لأن أحداهما أنجبت طفلاً ، ورقص لأن أحدهم مات.
يصلك كل ما في الشارع من أحداث لأنك تقريباً تسكن في الشارع ، الآن يصلك صوت تبول أحد السكاري على جدار غرفتك ، وتقيوء ذاك أما بابك وتدحرج ذاك مقاوماً للدوار ، تري النسوة في نشاطهن اليومي ينقلن الخمور من مكان لآخر متنافسات على الخامة الجيدة ونظافة مجلس الزبائن ، فالشعار المرفوع هنا \” بيتك للكل ، لأن الكل في بيتك ، لأن بيتك في الشارع والشارع من تراب\”.
زوجتك واحدة من النسوة ، تعمل في نشاط غريب ، تقوم بدورك ودورها في البيت ، فأنت محبط ومريض ومثخن بجراحات لا تندمل ، لم تستطيع أن تقي جسدك وعقلك ومعنوياتك من هذا الدمار الذي حل بك ، أنت صورة لكثيرين لكنهم فقط يندسون خلف زجاجات الخمر حتي لا يطحنهم هذا الحاضر المرير. عينك بؤرة تلتقي فيها كل الأشعة المرتدة من حيّك ، حيّك الذي يمتد يوماً بعد يوم إلى أقصى الأقاصي مستقبلاً النازحين والمتساقطين من ركب المدينة الصاروخي ، ليعيشوا هذه الحياة ، حياة لا مجال فيها للتساؤلات لأن كل الأسئلة لها إجابة واحدة ومعروفة للك \” لا خيار \”.
ومن منطلق هذه الإجابة يتعامل الكل دون حسرة أو ذكريات جميلة قد تقطع عليهم مجرى حياتهم ، فزوجتك الآن تعمل بنشاط النمل ، لا تعلم متى تنام فأنت ترصد إستيقاظها ليلاً ونهاراً ، ليلاً تسهر معك لتخفيف عنك الألم والحمى ، في ذات الوقت تصنع الخمر ، فهي مثل عمال المناجم ، تتصبب عرقاً ودموعاً ، تدك الأرض لإخفاء الآثار حذراً من الكشة ، فهي تنقل الخامة من حفرة إلى النار ومن النار إلى حفرة أخرى ، ثم حفرة ثالثة لتبتلع الفضلات المتبقية. فيجب إخفاء تلك الآثار جيداً حتى لا تكتشفها \”الكشة\” غداً. وفي النهار تنساب بين الزبائن ملبية طلباتهم ، وتوفير أدوات الشواء لهم ، لقد أعتدت على هذه الفوضى حتى صارت جزء منك ، كل هذا الضجيج يتم حول رأسك.. أنت مغتاظ لدرجة الموت من السكارى الذين يحيطونك من حين لآخر ، واصفين لك وصفات مذهلة للعلاج ، ورائحتهم التي تفوح شواء وخمر وبصل تجعلك تكاد تتقيأ أحشائك ، كل هذا وأنت عبارة عن عين ترصد فقط ، يحيرك نشاط زوجتك المفرط ، هي تحس بأنها إذا توقفت ستقف معها أشياء كثيرة منها قلبك ، وإذا نامت قد تفقدك وتفقد توأميها.
تحيرك أيضاً إبتسامتها المفرطة رغم نزيفها الداخلي لأن السكاري سيظنون أن أخلاقها ضيقة فأنهم لا يحبذون ذوات الأخلاق الضيقة ، ها هي قادمة نحول نحيفة تتلاعب داخل ثوبها مثل ملعقة داخل كوب ، تستطيع بكل يسر أن تتابع عروقها وتفرعاتها من المنبع إلى المصب والعكس ، ترفع الوسادة التي تحت رأسك واضعة النقود تفعل هذا الشئ في كل دقيقة تقريباً تجرى حساباتها وتضعها دون اعتبار لأي رأس ملقي هناك كأنك والوسادة شئ واحد ، ولعلك تختلف قليلاً لأنك تسعل فالوسادات لا تسعل ، عندما تفعل ذلك يكاد رأسك ينفجر من الألم يتبعها سعالك فتنتبه لوجودك وتسندك بيد وتمسك العلبة التي تحوي بعض التراب لتبصق فيها لعابك الصديدي المريض باليد الأخرى، يتم ذلك خلال مخاطبتها مع أحدهم ومناقشتها له، ثم تسقيك بعض الماء وتذهب لتلبية الطلبات بعد قليل تأتي وتلقمك بعض الطعام وتسقيك الحليب ، ليس بينكم لغة فهي تتحاشي النظر إلى عينيك التي ترصد كل شئء حتى تفكيرها تفعل كل هذه الأشياء بآلية فيخيل إليك أنها تفعل أشياء كثيرة في آن واحد.
حضر الصغيران ووقفا بعيداً ، كأنه ليس بيتهما ، فهو بيتهما في الليل فقط عند النوم ، لا يقتربان من الزبائن ، لأنهما يذكران ذلك اليوم الذي ضربتهما الأم ضرباً مبرحاً ، عندما دلفا وتلقفهما السكاري وصاروا يتحدثون معهم ، وكل واحد منهم يحس بمسؤلية تجاههما فيحشر اللحم في أفواههما ويدس بعض العملات في أيديهما لشراء الحلوى ، كانت الأم ترمقهما بنظرة تأديبية حارقة حتى لا يأخذا النقود ، ولكن السكاري أصروا عليهما، لأنهم كانوا في عالم آخر ، عالم الإفراط في كل شئ فكانوا يقولون بأن الأب أخيهم ، وآخر يلعن المرض ، وآخر يحضنهما باكياً مع توالي الأكل على أفواههما والنقود في أيديهما ، لم تستطع الأم أن تخرجهم من التراجيديا المفرطة تلك فذهبت وإنتزعتهما من وسطهم وأخذتهما خلف الغرفة الوحيدة وضربتهما ضرباً مبرحاً وهددتهما بأنهما إذا فعلا ذلك مرة أخرى فأنها ستذبحهما ذبحاً قائلة: أأنتم أفضل من هؤلاء الأطفال الذين يلعبون في الشارع. منذ ذاك اليوم إذا ارادا شيئاً وقفا هناك إلى أن تبصرهم فتأتي وفي أحايين أخرى لا تبصرهم فيعودان إلى مطاردة الكلاب والتبرز في العراء والعلب الفارغة، متناسين الجوع والعطش حتى المساء.
أنت الآن تسمعها وهي تقول لجارتها بأنها أدخرت النقود الكافية لتأخذك غداً إلى المستشفى، لأنك إذا مت فأنها لن تغفر لنفسها أبداً، فتتكور أنت ألماً.
تعلم جيداً هذه الفوضى التي تسود المكان ، السكارى هاربون، النسوة مهرولات يخبئن الخمور وأخريات يغلقت أبواب غرفهن في زعر فالفرار .. الفرار .. والفرار وتصلك تلك الأصوات الطفولية هاتفه: الكشة .. الكشة .. الكشة. تماماً هي نفس النغمة عندما يهتفون: الأغاثة .. الأغاثة .. الأغاثة، هم كذلك لا يفرقون بين المصيبة والمصيبة.
يلي هذا الهاتف إقتحام تلك الكتائب المسلحة لحفظ النظام العام ومحاربة الرذيلة والحرام والترويض أيضاً، يتفرقون في كل البيوت ويسكبون السوائل على الأرض حتى الماء الذي تم الحصول عليه بعد شقاء مرير ، ويدحرجون البراميل على الأرض، فيقبضون على ذلك وتلك، ويضربون آخر وفي أقل من القليل تمتلئ عرباتهم بالسكارى والنسوة والأواني وتتحرك إلى حيث أتت ، ركض الأطفال خلف الشاحنات باكين منادين على أمهاتهم ، أباءهم ويضيع بكائهم وسط شخير عربات البوليس، ويتلاشى صراخهم وسط الغبار والعادم، كان طفلاك معهم لأن زوجتك لم تنجو هذه المرة، كنت تراقبها عندما نبش ذاك الأرض ووجد مكان مخبئها وأخرج الخمور وسكبها على أرضية الغرفة، كانت تتمتم وعيناها ذاهلتان: فقط لو أتوا في الأسبوع القادم .. كانت تكرر هذه الجملة ، وهي تقف هناك ويديها إلى الخلف كانت تتمايل أماماً وخلفاً كأنها تهديد طفلاً، وتتحاشى النظر إليك كأنها تخشى إلا تجدك، جرها ذاك أمامه بقسوة، كنت تعلم أنها كانت تريد أن تقول شيئاً ولكن…!!؟؟ أختفت العربات في الأفق وعاد الصغار منهكين من البكاء ودموعهم قد تركت أثراً مالحاً على تلك الخدود الجافة عادوا كما كانوا متناسين ما حدث هنا ، عادوا لمطاردة الكلاب والتبرز في العراء والعلب الفارغة محافظين على طفولتهم التي في أحضان اللامعقول.
عاد صغيراك إلى البيت ووجدا فوضى من الأواني المبعثرة والأسّرة المقلوبة رأساً على عقب والخمور المهدرة على الأرض، بيتك صورة مصغرة للحيّ كله، بذل الصغيران جهدهما لوضع الأمور في نصابها أنت متكور عبارة عن قطعة من الألم ، تحس بتهتكات في صدرك، والحمى تسري في عظامك أكثر ما يؤلمك أنك تحولت إلى عين، عينك ستة على ستة تنظر فقط لا غير، ترى طفلتك التي تحسب بأنها في هذه الأثناء يجب أن تحل محل الأم فصار حازمة، وذامة شفتيها فتبدو أكبر من سنينها القليلة بعشرات المرات، طفلك لا يفارق الضحك شفتيه فهو مصر على إظهار تلك الفراغات في لثته.
عندما تسعل يهرولان نحوك تشد هي من ذراعيك ويسندك هو من ظهرك لتبصق لعابك الصديدي في العلبة ، لقد ذهبت الأم إلى السجن، الطفلان يعلمان أنها ستعود، وأنت تعلم أيضاً، ولكن بأكثر دقة .. تعلم أنها ستعود ولكن ليس قريباً .. ربما لن تجدك وتعلم أيضاً بأن ألمها أكبر من آلامك لأنها تعلم بغيرها لن تكون الأشياء هنا.
ساد ضجيج آخر ولكنه يختلف وصاح الأطفال: الأغاثة .. الأغاثة .. الأغاثة .. كل من في الحيّ يحمل صفيحاً وأكياساً فارغة وعلباً لتقلي الأغاثة ، فعل طفلاك مثلما فعلوا، وأمتدت الصفوف، كباراً وصغاراً ونساء ورجالاً وكثرت الشجارات وبكاء الأطفال طمعاً في حفنة دقيق أو قطرة زت، الشمس تشرق وتغيب على الرؤوس، يوم واحد لا يكفي، وتنظر أنت .. أنت العين تنظر إلى تلك الجوالات وعلب الزيت وقد كتب فيها بالخط العريض باللون الأزرق U.S.A وواحدة عليها نجمة حمراء علب الزيت U.S.A لبن البدرة (المشهور بين الأهالي بـ for dogs ) U.S.A جوالات الدقيق U.S.A وتفوّه … لعابك الصديد .. ولكن ليس في العلبة هذه المرة ، بل على وسادتك .. لأن الأطفال كانوا هناك في الصفوف الأخيرة.
الصغيرة كانت تصنع لكما الطعام .. طعام لا طعم لا ولا رائحة ولكن لا مفرد من أكله وإلا ستموت جوعاً .. وأنه لفضيحة أن يموت الإنسان جوعاً في بلد هو سلة غذاء العالم.
لقد نفذت النقود التي تركتها زوجتك تحت الوسادة .. فقط لولا الإغاثة …
بعد عدة أيام ظهرت جرارات من على البعد ، هتف الأطفال: الكشة .. الكشة تصادمت النسوة مع السكارى في الطرقات بحثاً عن مكان لتخبئة تجارتهن وتمرغ السكارى على الأرض في طريق الفرا .. ولكن بعد قليل لم يكن الأمر كذلك .. فهتفوا مرة أخرى مستبشرين: الأغاثة .. الأغاثة ، وتدفقوا في الشوارع وفي أياديهم الأكياس والعلب الفارغة .. أيضاً لم يكن الأمر كذلك فسبهم الكبار ورشقوهم بالحجارة ، أبتعدوا عن الحيّ كانوا يعلمون بأن هناك شئ ولكن لا يعلمون كنهه ، وأنت .. العين كنت تعلم ولكن لا تستطيع الهتاف ، اقتربت تلك المعاول التي تسير على أربع أكثر، تم هدم كل البيوت التي كانت قائمة على الشوارع الرئيسية كما قالوا ومناطق الخدمات ومجرى السيل، وبهذه الأسباب أصبحت البيوت الواقفة هنا وهناك مثل أسنان في فهم عجوز خرف ، حتى غرفتك الوحيدة ذابت تحت وطأة الجرارات. اليوم التالي، شمس حارقة، تحول الحيّ الطيني إلى خرق عالقة في الهواء لتقي رؤوس الرضع من الهجير، تنتفض مع الرياح وتتلوى في كل الإتجاهات، والبقية في إنتظار المساء ليجود لهم بالظل، أنت هناك متكوم تحت ظل الغرفة الوحيدة التي قربك، واثاثك من حولك، الحمي الآن تسرى في عظامك سريان السم في الأوردة، لا تعلم شئ عن زوجتك، طفلاك شبحان يظهران ويختفيان، رفعت عينك إلى السماء تتمنى شيئاً، ربما الموت، ولكن الطبيعة باغتتك بمفاجآتها، كانت هناك عاصفة ترابية تتجمع في الأفق ومن خلفها سحب داكنة تصنع كائنات عملاقة ولكنها سرعان ما تغير شكلها قبل أن تحدد ماهية الأشكال، ساد إضطراب فيما حولك، الكل يبحث عن ما يأويه من ثورة الطبيعة تلك، حيث لا مأوى، غطت الأمهات أطفالهن بالمشمعات والملاءات مع تجمع كل أفراد الاسرة في مكان واحد ليقي كل الآخر بجسده.
سعلت كثيراً أثناء العاصفة الترابية حتى كدت تفقد وعيّك لولا تلك القطرات المائية التي لامست وجهك، حضر صغيراك وتلفتا يمنى ويسرى .. أنت من تهمهم في هذه الأثناء، بحثا عن مشمع لتغطيتك، أمسكت هي الطرفين الأماميين وأمسك هو بالطرفين الخلفيين، وصنعا لك سقف ليقيك من المطر، إنحدرت منك دمعة تغلي، وأنت تراهما تحت المطر، يصارعان الرياح التي أخذت تعصف بهما وأحياناً تنزع من أيديهما السقف ويهرولان لجلبه بسرعة قبل أن تبتل أنت, هو يضحك مظهراً فراغات لثته، الأمر بالنسبة إليه لعبة .. لكنها سخيفة بعض الشئ ، وهي ذامة شفتيها لتبدو أكبر من أعوامها بعشرات المرات وتنظر إلى الأفق كأنها في إنتظار شئ ما ، كنت تراهما من تحت المشمع وهما يحاولان جاهدين بألا تمسك قطرة، ألتمعت تلك القطرات التي كانت عالقة بنهايات إذنيهما مثل البلور فلاح لك أمل هناك .. أمل بعيد .. بعيد جداً.
توقفت الأمطار، هما الآن يخلعان أثوابهما الرطبة ويندسان تحت فراشك من البرد والرطوبة، كنت مصدر دفء لهما، عظامك الساخنة تغلى، وصدرك يغلى بالسعال، نام ذاك وهو يحلم بعودة الأم واللعب في ماء المطر وإصطياد الأسماك الضآلة التي إنجرفت مع الماء من الترعة القريبة، وترى تلك وعيناها مثبتة في الأفق كأنها في إنتظار شئ ما ، أما أنت فكنت تتسلل من الحياة شيئاً فشيئاً حتى لا ينتبها لغيابك.
تعليق واحد
سيروا الى الامام بكل ثقة