قَدَّمتُ في مقالتي السابقة (خَفَاْيَاْ اَلْعُقُوْبَاْتِ اَلْأَمْرِيِكِيَّةِ عَلَىْ اَلْسُّوْدَاْنْ)، عرضاً مُختصراً لتصاعُد العداء الأمريكي وتَسَلسُلْ عقوباتهم وإجراءاتهم، التي انحصرت آثارها على السُّودان (دَّولةً وشعب)، وأوضحتُ كيفية صناعة البشير وعصابته لذلك الحصار وأهدافه ومراميه الخَفِيَّة. وسأجتهد في هذه المقالة، لتوضيح دوافع (الحديث) المُفاجئ عن رفع هذه العُقُوبات، ومُتطلَّبات ذلك والمُستفيد الأساسي من هذه الخُطوة.
أكبر مظاهر الدهشة، صنعها الأمريكان حينما بَادَرَوا بالحديث عن رفع العُقُوبات، رغم وجود وتعاظم أسباب فَرْضِهَا (المُعْلَنَة)، إذ لم يتغيَّر نهجُ المُتأسلمين ومُمارساتهم، سواء إيقاف عدائياتهم أو تصدير الإرهاب، بخلاف تضييقهم على الحُرِّيات وتأجيجهم للصراعات الدَّاخليَّة والخارجية، مما يدفع للتساؤُل عن (دَوَافع/أسباب) الأمريكان لمُبادرتهم هذه! وبعيداً عن ضجيج المُتأسلمين وأباطيلهم، تزول الدهشة/الحيرة تماماً، إذا توقَّفنا في (تَزَامُن) مُبادرة الأمريكان (المُفاجئة)، مع دعوة العصيان المدني النَّاجحة أواخر العام الماضي، وهو تَزَامنٌ لم يأتِ مُصادفة وإنَّما بتدبيرٍ مدروس، بعدما أكَّد نجاح العِصيان – أياً كان حجم ذلك النجاح وحدوده – على قُوَّة السُّودانيُّين، وقُدرتهم على اقتلاع البشير وعصابته بقليلٍ من التدبير والتنسيق، مما دفع الأمريكان للمُسارعة بالحديث عن رفع العُقُوبات، لتشتيت انتباهنا حفاظاً على البشير وعصابته، لأنَّهم أداة أمريكا لتمزيق السُّودان وإهدار مُقدَّراته.
وبالنسبةِ للمنافعِ الاقتصاديَّة التي يتحدَّث عنها المُتأسلمون وإعلامهم المأجور، واستدلالهم السَّاذج بتحسُّن أوضاعنا (مُباشرةً) عقب رفع العُقوبات، خاصةً سعر الصرف، فهو يتنافى مع الثوابت العلمية الرَّصينة، لأنَّ سعر الصرف له مُتطلَّبات/مُقوِّمات، ويتأثَّر بمجموعة من العوامل كتضخُّم الأسعار ومُستوياتها النسبية، وحجم الطلب على العملة المحلية ونسبة تغيُّر مُعدَّلات الفائدة، ومُستوى عجز الحساب الجاري أو عجز حساب التجارة بين دولةٍ وأُخرى، وحتمية الإنتاج القابل للتصدير والمُنافسة العالمية، والإنتاجية العالية والجيدة بتكاليفٍ أقل، وأفضلية السلع المحلية على الأجنبية. وهناك القروض الخارجية والاستقرار السياسي والأداء الاقتصادي العام، وحجم المُضاربة بسوق العملات والكساد وغيرها من العوامل والمُتطلَّبات الحتمية. وينبغي ألا ننخدع بانخفاض قيمة العملات الأجنبية، المُتزامن مع الحديث عن رفع العُقوبات، لأنَّه مُؤشِّرٌ يعكس (هَشاشَة) اقتصادنا وهُلاميته، واعتماده على القيل والقال، كما أنَّ أسباب تراجُع الجنيه السُّوداني هيكلية ومُعقَّدة، ويصعُب مُعالجتها بقرارٍ ورقي لا يزال محل لغط على أكثر من صعيد. والرَّاجح، أنَّ الجنيه سيتراجع أكثر تبعاً لتكاليف الواردات المُتصاعدة، وتوقُّف عجلة الإنتاج وارتفاع حِدَّة التضخُّم، وحاجة القطاعات الإنتاجية والخدمية لإعادة تأهيل شاملة، والحديث يطول في هذا الجانب ولا يسع المجال لتفصيله.
ومن جهةٍ ثانيةٍ، تَفَنَّنَ المُتأسلمون في تدمير وإهدار مُقدَّراتنا السيادية والاقتصادية بطُرُقٍ مُتنوعة، أخطرها الاحتلال كحالتي إثيوبيا ومصر، اللَّتان فاقت تجاوُزاتهما سيادتنا الوطنية، لتشمل تهديدنا في أهمَّ عناصر الوجود وهو المياه. فسدُّ النهضةِ بشروطه المُجْحِفَة وغياب الضمانات والمزايا (المُوثَّقة) رسمياً، لا تتوقَّف خطورته على احتمالية انهياره أو آثاره البيئية، وإنَّما يُعدُّ مَدْخَلاً خطيراً لتقليص حِصَّة مياهنا السطحية، وهو ما حدث فعلاً، إذ تَزَايَدَت المَطَالِب بتعديل اتفاقيات مياه النيل، عقب توقيع اتفاقية هذا السد! وبالتوازي، فَقَدْنَا جانباً كبيراً من مياهنا الجوفيَّة، عقب احتلال المصريين لغالبية الأراضي النوبيَّة وجُزْءٌ من شمال دارفور، بمُساعدة البشير وعصابته والذين لم يكتفوا بالصَمْت على الاحتلال المصري، وإنَّما ساعدوهم بإخلاء تلك المناطق من السُّودانيين، بحِجَّة مُحاربة تجارة/تهريب البشر ومُكافحة الأرهاب!
ومن صور تدمير وإهدار مُقدَّراتنا السيادية والاقتصادية أيضاً، إسراعُ المُتأسلمين ببيع ورَهْنِ أراضينا ومشاريعنا، وإحالة عوائدها لمصالحهم الشخصية، كتخصيص نصف مساحة مشروع الجزيرة للصينيين، ومَنْحْ السعوديين أراضي أعالي نهر عطبرة لمُدَّة 99 سنة، والتخلُّص الكامل من مشروع الرهد، بخلاف المساحات الشاسعة التي منحوها للإماراتيين، رغم إضرارهم المُتعمَّد بالسُّودان (دولةً وشعب)! فالإماراتيُّون لم يكتفوا بالتهام أراضينا بالتواطُؤ مع المُتأسلمين، وإنَّما سَعُوا لتدمير نخيلنا – مصدر الدخل الأساسي لقطاعٍ كبيرٍ من أهلنا – بشتلاتهم التالفة/المريضة، ولم يُسَاءَلوا أو يُعاقَبوا على جُرمهم الثابت هذا حتَّى الآن! كما تحتضن الإمارات، أموالنا التي نهبها المُتأسلمون عموماً والبشير وأسرته خصوصاً، كأرصدةٍ واستثماراتٍ عقاريةٍ وخِدَمِيَّة، حَتَّى ميناءنا الرئيسي لم يسلم من عَبَث الإماراتيين وتعدِّياتهم، وكتبتُ مقالاً تفصيلياً بُعنوان (اَلْتَخْرِيْبُ وَاَلْهُرُوْبُ اَلْإِسْلَاْمَوِيْ)، مع إرفاق قرار وزير النقل بهذا الخصوص! واللافت، أنَّ جميع المُستفيدين من مُقدَّراتنا السيادية والاقتصادية، هم أزلام وأذرع أمريكا في المنطقة، مما يعني في المُحصِّلة، أنَّ مُقدَّراتنا لم تعد لنا وباتت تحت سيطرة الأمريكان، وأنَّهم المُستفيد الأوَّل من رفع عُقُوباتهم التي فُرِضَت أساساً لالتهام هذه المُقدَّرات.
والأخطر من ذلك تمزيق السُّودان تبعاً لمُثلَّث حمدي، الذي حَصَرَ السُّودان في محور (دنقلا، سنَّار، الأُبيض) واستبعد ما يقع خارج هذا المحور، وتحديداً استبعد الجنوب الذي تمَّ فصله، والشرق ودارفور والمنطقتين وأقصى الشمال، وهو طَرْحٌ إسلامَوِيٌ (مُوثَّق) لا يُمكنهم إنكاره، ويعكس أبشع صور الخيانة الوطنية/العُظمى في العصر الحديث. وعقب فصل الجنوب، أجَّجَ المُتأسلمون نيران الصراع بدارفور والمنطقتين، ورفعوا وتيرة إجرامهم غير المسبوق فيهما، وتركوا حلايب والأراضي النوبيَّة بأقصى الشمال للمصريين، وصَمُتوا على الاحتلال الإثيوبي لأراضي الشرق، وتخلَّصوا من باقي الأراضي بالبيع والرهن، بما في ذلك ميناءنا الرئيسي. واصطدمَ المُخطَّط بدارفور والمنطقتين، وتحمَّل أهلنا هناك ضغوط البشير وعصابته وإجرامهم المُتزايد، على مَسمَع ومَرأى الأمريكان والعالم أجمع، والذين لم يفعلوا شيئاً سوى بيانات الشجب والقلق تجاه الجرائم الإسلامَوِيَّة، بما يُؤكِّد مُوافقة ومُباركة الجميع لهذه الجرائم!
وتتعَزَّر هذه الحقيقة، بتقاطع وتضارُب الاشتراطات الأمريكية لرفع الحصار (سابقاً وحالياً)، فمن جهة يُشدِّدون على تحقيق تغييرات جذرية بمسارات السلام، ومن جهةٍ ثانية يقولون بأنَّ الحُرِّيات ليست شرطاً (مُلزماً)، يحول دون رفع السُّودان من قائمة الدول الرَّاعية للإرهاب، بخلاف تعاظُم الأسباب المُعْلَنَة لفَرْض عُقُوباتهم كما أوضحنا أعلاه! وهذه مُعطياتٌ تُؤكِّد أنَّ الأمريكان، يسعون لإلهائنا وشَرْعَنَة (أكذوبة) الحصار بصفةٍ عامَّة، وأنَّ قرارهم الأخير بتمديد العُقوبات (خصوصاً)، يهدف لتهيئة ظروف تكرار نيفاشا بدارفور والمنطقتين (تحديداً). ودونكم التعدِّيات الإسلامَوِية، كحالة طُلَّاب جامعة بخت الرضا ودعم صراعات دارفور بالمال والعتاد، وتأجيج نيران العُنصُرية، وإشعال الصراعات العقائدية، والتمييز الديني بين أبناء السُّودان، مع تزايُد استفزاز أهل الشرق وأقصى الشمال، وهي وقائعٌ ماثلة ومُتصاعدة، خاصةً عقب قرار تمديد العُقوبات ووعود رفعها نهائياً في أكتوبر القادم، وللأسف وَقَعَ الكثيرون في فِخَاخِ الوعودِ الزَّائفة!
ليتنا كسُّودانيين، نُدرك بأنَّنا الضحايا الحصريُّون، لِفِتَنِ المُتأسلمين وسادتهم والمُغامرين معهم، وأخطرها العنُصُرية والجَهَوِيَّة، والتي دفعنا ثمنها غالياً وستدفعه أجيالنا القادمة مُضاعفاً، عقب سيطرة مالكي السُّودان الجُدُد، سواء أمريكا أو أزلامها السَّاعين لإشباع أطماعهم على جماجمنا. وأمَّا عن وَهْمِ انصلاح حالنا بمُجرَّد صدور القرار الإعفاء الأمريكي، فالعرض المُختصر أعلاه، يُؤكِّد حاجتنا لجهودٍ كبيرة، وإجراءاتٍ هيكليةٍ وبِنْيِوِيَّةٍ مُعقَّدةٍ ومُتَّصلة، لأنَّنا نفتقد مُقوِّمات النهضة عموماً والاقتصادية خصوصاً، بدءاً بالكوادر البشريَّة المُؤهَّلة (أكاديمياً وأخلاقياً ونفسياً)، وانتهاءً بالديون المُتلتلة وفُقدان الأراضي والمياه، حتَّى الميناء الوحيد تمَّ التخلُّص منه! ويُمكن القول، إجمالاً، بألا فائدة من رفع العُقوبات طَالَما بَقِيَ البشير وعصابته، لأنَّ المُستفيد الأوَّل من ذلك هم الأمريكان وأزلامهم، والخاسر والضحيَّة الأكبر نحن السُّودانيُّون، دون استثناء أي منطقة/إقليم. وبدلاً من العَشم الكاذب، والوقوع في فِخَاخ المُتأسلمين وسادتهم الخارجيين، لنجتهد ونقتلع هذه العصابة المأفونة، ولنتعلَّم من دَرسِ الجنوب وما يحياه أهلنا هناك من مآسي ومهالك، تَسبَّب فيها نفس الخَوَنَة، والعاقل من يتَّعظ بغيره.
الحَلُّ الأمثلُ والأقلُّ تكلفة، لجميع السُّودانيين، يتمثَّل في الاتحاد الحقيقي لاقتلاع هؤلاء، اعتماداً على الذات وبعيداً عن العالم الخارجي، وبعدها يُمكن وضع استراتيجية رصينة وشاملة لكل القطاعات والمجالات، لإعادة بناء/تأهيل السُّودان بدءاً بالإنسان نفسه. وهذه مسئولية النُخبة المُتعلِّمة، خاصةً عُلماء النفس والاجتماع والتربية والقانون والاقتصاد، لأنَّهم منوطين بوضع الحلول العلمية والعملية لمشاكلنا الرئيسية، وأخطرها الجَهَوِيَّة/القَبَلِيَّة التي صنعها المُتأسلمون وسادتهم بيننا، وهذا هو سبيلنا للحاق بما تبقَّى من بلادنا وأهلينا.
ملحوظة: عقب إكمالي لهذه المقالة، قرأتُ خبراً عن حُكْمٍ قضائيٍ أمريكي بتغريم (السُّودان) 7 مليار دولار، كتعويضٍ عن تفجيرات نيروبي، رغم عِلم الأمريكان الكامل، بعدم تَوَرُّط السُّودان (الدولة والشعب) في الجريمة، وعجزنا عن سداد هذا المبلغ لانعدامه بالأساس، ولكنها (جَزَرَة) إضافية لدعم الابتزاز القادم!