هى فنانة ومُلهمة ورمز للغناء فى جنوب افريقيا ،امتلكت موهبة وصوت شجى لم يصدح من أجل العاشقين فقط وإنما استعملته أداة ومعولاً لهدم سياسات التمييز والفصل العنصري فى بلادها ،نجحت فى فنها إلا إنها عانت مثل باقى شعبها وطُردت من بلادها لأنها نادت بالحرية ولم تعد إليه إلا بعد ثلاثين عاماً قضتها فى المنفى تكرس فنها وحياتها السياسية من أجل حرية بلادها، لقٌبت “بأم إفريقيا” وهو اللقب الذى أطلقه عليها أيقونة النضال الإفريقى “نيلسون مانديلا”، كما عُرفت “بالأسطورة” و”إمبراطورة الأغنية الإفريقية”، بادلها جمهورها حباً بحب وأحتراماً باحترام، ولما لا وقد سخرت فنها وحريتها فى سبيل قضية أسمى وأهم وهى حب الوطن .
ميريام ماكيبا… وإن غادرت الحياة بجسدها عام 2008 إثر أزمة قلبية ألمت بها فى إيطاليا وهى على خشبة المسرح تغنى من أجل قضية سياسية، إلا أنها لازالت وستبقى شعلة متقدة فى قلوب ملايين الأفارقة الذين لازالو يغنون أغنياتها لليوم، يكفيها أن يوم وفاتها كان مرثية حزينة صدمت كل دول العالم ويكفيها فخراً إنها دُفنت متشحة بعلم بلادها وفى الصفوف الأمامية يقف مانديلا يستقبل عزاءها قائلاً “أن ماكيبا “كانت سيدة أولى للغناء في جنوب أفريقيا وتستحق لقب أم أفريقيا، كانت أم معركتنا وأم شعبنا الفتي، ومن خلف مانديلا رثاها ملايين من محبيها فى جنوب إفريقيا ومن محبى الحرية فى كافة دول العالم، ولم لا وهى ينُظر إليها باعتبارها نمط آخر من المغنيات اللواتي غامرن بكل شيء في سبيل الحرية والعدالة ،وهي لهذا تتجاوز صفة الفنانة لتقترب من مرتبة الرمز السياسي إسمها طبقا لبيانات الميلاد “أوزنزيل” ويعنى بلغة قبائل الزولو “لا تلومن إلا نفسك” أما اسم الشهرة فهو” ميريام ماكيبا” الذى اشتُهرت به فى سماء الفن واطُلق عليها بعد لجوءها للولايات المتحدة الأمريكية، ولدت فى جوهانسبرج بعض الفرق المحلية ،وفى العشرين من عمرها التحقت بفريق “مانهاتن براذرز” الذي أطلق عليها اسم “ميريام” ثم بفرقة “ سكا يلا ر كس ”النسائيــــــة التى اشتُهرت بأن كل أعضاءها كانوا من النساء، ولــــم تنس ماكيبا يوماً أن
الفضل لدخولها محراب الفن والغناء هو والدتها التى كانت تشجعها على الغناء بل أنها تعترف لها فى مذكراتها التى أصدرتها مع صدور أول ألبوم غنائى بفضل والدتها فى تعليمها أصول الغناء.
تميز الخط الغنائى لماكيبا بمزج موسيقى الجاز مع الأغنيات التقليدية في جنوب إفريقيا، وقد حظيت بالاهتمام العالمي في عام 1959 خلال جولة قامت بها للولايات المتحدة مع المجموعة الغنائية الجنوب إفريقية “مانهاتن براذرز”، وغنت خلالها أغنيات تنادى بإنهاء سياسات التمييز، ما جعلها تدخل ضمن القائمة السوداء لحكومة الفصل العنصرى، إلا أنها استمرت فى تسخير موهبتها الصوتية للمطالبة بالحرية وتعددت مواقفها السياسية المناهضة للإستعمار، ماجعلها فى مرمى الإستهداف من جانب حكومة جوهانسبرج العنصرية،وفى عام 1956وبعد مشاركتها في عمل وثائقي مضاد لنظام الفصل العنصري كان بعنوان “عودي إلينا يا إفريقيا ”ولما حاولت ماكيبا الرجوع لبلدها بعد جولة خارجية لحضور جنازة والدتها فوجئت بصدور قرار سياسي بتجريدها من جنسيتها الجنوب إفريقية ومنعها من الدخول إليها مرة أخرى، ومنع إذاعة أغنياتها والبقاء في المنفى، ومن هنا بدأت مرحلة جديدة من الشتات والترحال ولم تعد إلى جنوب إفريقيا إلا بعد الإفراج عن نيلسون مانديلا عام 1990 وقبل أربعة أعوام من انتهاء نظام الفصل العنصري، ولم ينسى مانديلا ماكيبا التى ساندت بآرائها وأغانيها حركات تحرر وثورات الشعوب الأفريقية فدعاها للعودة لوطنها وسط مظاهرة حب كبيرة وبعد غيبة عن الوطن دامت 31 عاماً كاملة حيث زارت بلدها للمرة الأولى بجواز سفر فرنسي يحمل تأشيرة دخول لمدة ستة أيام فقط ،وبعد عامين عادت ماكيبا مرة أخرى إلى بلادها لتقيم في الضاحية الشمالية لجوهانسبورج أسست خلالها مركزا لتأهيل المراهقات.
عرفت ماكيبا بعد تجريدها من جنسيتها حياة اللجوء السياسى فانتقلت إلى واشنطن التى مكثت فيها لفترة استمرت خلالها بالجمع بين العمل الفنى والسياسى ولأنها تدعوا للحرية اعتبرتها واشنطن عام 1966 شخصية غير مرغوب خاصة بعد تزوجها بـ “ستوكلي كارمايكل” زعيم حركة “القوة السوداء” التى كانت تدعوا للمساواة بين الزنوج والبيض فى الولايات المتحدة، فانتقلت إلى غينيا عام 1973 التى منحتها جنسيتها، ورغم سنوات النفي والابتعاد عن مسقط رأسها، كانت العديد من دول أفريقيا وطناً لها، ومنحتها جوازات سفر تكريماً لموهبتها ونضالها، فمنحتها السودان وفرنسا والولايات المتحدة جنسياتهم تقديراً لما تقوم به لصالح بلدها.
استغلت صوتها فى كافة المنابر والساحات الدولية، واستمرت فى لعب دوراً نشطاً في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وغنت للحب والعدالة والمساواة وحاربت بصوتها وكلمات أغانيها الاضطهاد والظلم والتفرقة العنصرية وبادلها العالم الإحترام حيث كانت أول إفريقية تفوز بجائزة “جرامى” الموسيقية عام 1956 وجائزة “بولار” الفنية ،وفى العام 1961 أدانت علناً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة نظام الفصل العنصرى، كما منحها الإتحاد الإفريقى أرفع أوسمته عرفاناً بدورها ولمشاركتهاعام1963 فى مراسم إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية وغناءها خلال هذه المناسبة تقديراً للدور السياسي للمنظمة، وفي عام 1985، قلدها الرئيس الفرنسى “فرانسوا ميتران” وسام الشرف الفرنسي من رتبة فارس في الفنون والآداب تقديراً لجهودها، كما نالت تقديراً غير مسبوقا من أمبراطور الحبشة السابق هيلا سيلاسي، والرئيس الكوبي فيديل كاسترو والرئيس الاميركي جون كينيدي وغيرهم من كبار الشخصيات العالمية، و فى العام 1999 تم اعتمادها من قبل الأمم المتحدة سفيرة للنوايا الحسنة.
أصدرت عملاقة الغناء الإفريقي ميريام ماكيبا أكثر من 30 اسطوانة مزجت فيها موسيقى البلوز والجاز بشكل رائع وقد نشرت ماكيبا سيرة حياتها تزامناً مع صدور ألبومها الموسيقى الأول الذى تضمن 19اغنية غنتها بلغات ثلاث وكان بعنوان “سانجوما ،”وكانت ترى أن تلك الأغنية “سانجوما” هى أكثر الأغنيات القريبة من نفسها ومشاعرها، أما أشهر أغانيها على الإطلاق فهى أغنية ” باتا باتا” و”ذي كليك سونغ” و”مالايكا”، وكتبت أشهر أغنياتها «باتا باتا» التي سجلت نجاحاً عالمياً ونقلتها عنها المغنية الفرنسية “سيلفي فارتان” وفي عام 1965 حصلت على جائزة «غرامي» مع رفيقها في الغناء “هاري بيلافونتي”، وانتقلت في ستينات القرن الماضي لتقيم بالولايات المتحدة، ثم غادرت إلى غينيا واستقرت فيها، وفي السبعينات والثمانيات كثفت نشاطها الفنى فباتت أغانيها تتردد في جميع أنحاء العالم، وطافت مسارح العالم تغني لحركات التحرر من الإستعمار، ولا ينسى الجمهور العربى وقوفها أمام الجماهير في الجزائر لتغني بالعربية وتهتف مع الآلاف “أنا حرة في الجزائر”، كما سافرت مع زوجها “كارمايكل” إلى بغداد أوائل سبعينات القرن الماضي.
وقد مرت ماكيبا بفترات من الحزن والكآبة أبعدتها عن الغناء وعرضتها لضيق ذات اليد، خاصة بعد فقدانها لإبنتها الوحيدة الشابة “بونجي”، عام 1985، إلا أنها تجاوزت محنتها وعادت إلى الأسماع بعد اشتراكها في اسطوانة “جريسلاند” مع الموسيقي الأمريكى العالمى “بول سيمون” أما عودتها الحقيقية للأضواء فقد كانت عام 2000 مع صدور أسطوانتها بعنوان «هوم لاند» أي الوطن، وفيها غنت إنشودتها بحنين العودة الى أحضان بلادها، وبعد فترة من صدور هذه الاسطوانة، دعيت ماكيبا لتقديم حفلات تاريخية كان أولها على مسرح «الأولمبيا» بباريس.
على الرغم من بريق الأضواء الذى عاشته ماكيبا خلال مشوارها الفنى، إلا أن حياتها الشخصية كانت بمثابة محطات من الألم بدأتها بقهر الإبعاد عن الوطن، وفقدان الإبنة الوحيدة، وتعثر زيجاتهاوعدم استقرارها أسرياً، وهى الضريبة الى دفعتها نظير حبها لوطنها وتكريس وقتها لهذه القضية ،وفي 2005 أرادت ماكيبا القيام بجولتها الأخيرة في العالم وقالت حينها “يجب أن أذهب إلى العالم لأشكره وأودعه بعد ذلك سأبقي في بيتي مثل جدة وأريد أن ينثر رمادي في المحيط الهندي لأتمكن من الإبحار مجدداً إلى كل هذه الدول.
وفى السادسة والسبعين من عمرها توفيت أسطورة الغناء المناضلة “ميريام ماكيبا” في التاسع من نوفمبر 2008 اثر إصابتها بنوبة قلبية بعد ساعات قليلة من انتهاء حفلة موسيقية في مدينة نابولى الإيطالية و بعد لحظات من غنائها في حفل للتضامن مع الكاتب والمخرج الإيطالي “روبيرتو سافيانو ”الشهير الذي يطلب زعماء المافيا رأسه، وكانت الفنانة الكبيرة قد غنت لنصف ساعة وانسحبت وراء ستار المسرح بينما الجمهور يواصل التصفيق لكي يستعيدها ثانية، لكن المشرفين على الحفل وجدوها ملقاة أرضاً وفاقدة للوعي، معلنةً انتهاء رحلة جمعت ما بين عشق الوطن وفداءه بسلاح الفن والغناء، سيفتقد عشاق الحرية والمساواة كثيراً هذه الفنانة الرائعة التي تحدت شراسة وطغيان وغطرسة المستعمـــــــــر الأبيض..
المصدر : صوت الهامش/ مجلة افريقيا قارتنا