التراشقات الكلامية بين كباشي وحمدوك والتي جاءت على خلفية مقولة الأول (عطاء من لا يملك لمن لا يستحق)، الموجهة لثنائي تفاهم اديس ابابا (الحلو – حمدوك) حول علمانية الدولة، قادت الثاني لأن يدلي بحديث متلفز ظاهره الدبلومساية وباطنه الغبن الناجم عن هذه المقولة المستفزة، وعكست هذه التراشقات حجم التذمر بين الشقين المدني والعسكري في منظومة الانتقال، هذا التذمر الذي بذل رئيس الوزراء جهداً دبلوماسياً ملحوظاً في سبيل اخفائه منذ أن تقلد حقيبة رئاسة الوزارة، وظل يرسل هذه الرسائل النبيلة في حله وترحاله ويقول (نحن نعمل في تناغم)، لكن ربما وصل الرجل الى قناعة راسخة من أن (تغطية النار بالعويش) امست لا تجدي فتيلا، فقرر أن ينقل هذا الاحتقان الى العلن، هذا يذكرنا بالشد والجذب الذي حدث بين جناحي الحركة الاسلاموية حينما انفجر الخصام المكتم عليه بين انصار العسكر والمدنيين من مريدي العرّاب نهاية القرن الماضي، فيبدو أن العسكريين بطبعهم وطبيعتهم لا يعيرون اهتماماً ولا يلقون بالاً لدعاة الحكم المدني، واصبح من المؤكد خروج الازمة السياسية بين الشقين من السيطرة مع توقيت بروز اشارات الاستقطاب الحزبي والايدلوجي وسط النخبة السياسية القادمة على صهوة حصان جوبا، وهذا سوف تكشف عنه النقاب الاصدارة الجديدة للتشكيلة الحكومية القادمة.
العضو السيادي المثير للجدل ومنذ ذلك اليوم الذي صدر منه التصريح القاسي (وحدث ماحدث)، شغل الرأي العام بتصدره لمشهد التصريحات الاعلامية المعبرة والداعمة للشق العسكري بحكومة الانتقال، والسامع لأحاديثه في قنوات الاعلام يرقب ويلحظ الثقة الكبيرة التي يتحلى بها الرجل، وهذه الثقة لابد وأن تكون نابعة من وجود طبقة سياسية خفية وعلنية تسنده وتشد من ازره، وكل الاقلام الناقدة لمسيرة هذا العضو السيادي تصفه بالكادر الذي ما يزال يوالي المنظومة البائدة، والشخص المناسب في المكان المختص بالتصريحات النارية و(شيل وجه القباحة) من اجل اخوة الامس، مثلما كان يفعل العقيد يونس محمود عقب انقلاب الشؤم الذي قاده العميد عمر حسن، فتنظيم الاخوان المسلمين متخصص في اختيار من يتولون عنه لعب دور كبش الفداء (كباشي) الذي يغسلون على صوفه آثامهم، وهذه الخصيصة تجدها في الكثير من القياديين ممن يتبعون للجماعة البائدة الذين لعبوا نفس الدور في عهدهم الموحش امثال (الخبير الاعلامي) ربيع عبد العاطي، فالمدينون للفكر البائد بالولاء من رموز الانتقال يستميتون في نفي هذه الحماسة النائحة والداعية لعودة الظلام، ومهما حاولوا اخفاء هذه الاعتزازة البائنة بالاثم الكبير الا ان هذه الغلواء لا تلبث ان تفتضح وتبين بين ثنايا تلك الابتسامات الثعلبية الماكرة.
الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء يختلف ويتفق حوله الشعب السوداني، لكن يظل يمثل رمزية البطل الثوري الذي حملته سواعد واعناق جماهير ثورة ديسمبر، ومكانته في الحسابات الثورية اكبر من مكانة اي جنرال عسكري من الذين فرضهم الظرف التاريخي المعلوم، وتشهد سيرته ومسيرته المهنية عدم التلوث بفايروس كورورنا الاسلام السياسي الذي اصبح لعنة تطارد المصابين به، ومن يريد ان يضع حاجزاً بينه وبين الشعب الثائر فليفاضل بين العسكر والمدنيين، أو ليظهر شعرة خفيضة من الانتماء للبائدين كما اخطأ زعيم العدالة والمساواة بُعيد دخوله الخرطوم من باب جوبا، وزيارته لقصر المرشد الروحي لجماعة الاخوان المسلمين المتحورة الى ما سمي لاحقاً بالحركة الاسلاموية المقبورة، الكثير من ساسة اليوم لا يعون ولا يستدركون مغبة التلوث بالفايروس الاسلاموي المميت، فحمدوك ومدنيو المجلسين السيادي والوزراء لن يكونوا بأي حال من الاحوال مكان ادانة بجرم شنيع كالجرم الذي ارتكبه اخوة حسن اذا ما تقدموا باستقالاتهم اليوم، لقد استغل كتاب وصحفيو النظام البائد مساحات الحرية التي انتزعتها ثورة ديسمبر المجيدة ليهدموا لا ليبنوا، فتحركت جيوش اعلامهم في عمليات منظمة ومأجورة ومستمرة للاصطياد في المياه العكرة.
الصدام المحتوم بين انصار المدنية والساعين لاعادة دويلة الطغيان البائدة سيندلع عاجلاً غير آجل، وما يجعل ذلك حتمياً هو اصرار بعض رموز الانتقال على جلب بعض شخوص الحرس القديم تحت مظلة وستار من اسموهم العقلاء والمعتدلين، يحدث هذا ودماء الشهداء لم تجف بعد واسر المفقودين لم يتوصلوا الى معلومة تشفي صدور امهات مكلومات، فالحق ثابت الا يميل مع من ثار واسقط الطغاة ولن يكون في جعبة الذي كان حتى الأمس القريب حارساً طيّعاً للقتلة والمجرمين، فالحرب المعلنة مع بواكير بزوغ فجر الحرية والانعتاق مع حلول شهر ابريل من العام الماضي، في الأساس دائرة بين طائفتين، طائفة يسوقها الحنين الجارف الى عهد الجنون والهوس والظلم والظلمات، وأخرى تشرأب الى التحرر والانعتاق من تلك العهود المكفهرة بظلام الجور والكبت والقهر والاذلال والانكسار، فالذين اعتادوا على استخدام آلة الحكم في كسر ارادة الشعوب وسعيها الفطري نحو الحرية والاستقلال سيخيب ظنهم هذه المرة ايضا، لأن الشعور العام قد هزم الخضوع لقوة السلاح وبطشه واستعد للدفاع عن مكتسبات هذه الثورة العظيمة، وتاكيدنا على حدوث المواجهة يأتي من باب تشريح العقلية الجهادية والاصولية التي مازالت تتمتع بشيء من الوجود في دهاليز حكومة الثورة، هذه العقلية مطابقة تماماً لمنظومة المفاهيم الطالبانية التي لم تقتلع من كابول إلا بعد سيل من الدماء.
اسماعيل عبد الله
[email protected]
2 ديسمبر 2020