لندن : صوت الهامش
نشرت مجلة (ذيس إز أفريكا) تقريرا حول مقتل زعيم الـموزمبيق سامورا ماشيل، جاء فيه أن سامورا قبل أن يسافر لحضور مؤتمر دولي في العاصمة الزامبية لوساكا في أكتوبر 1986، أعلن على الملأ أنه نجا من محاولة اغتيال حديثة، متهما حكومة جنوب أفريقيا بالتدبير لقتله، وأصدر تعليمات لما ينبغي أن يحدث حال وفاته.
ولم يعد سامورا أبدا إلى الموزمبيق من المؤتمر؛ ففي طريق عودته انحرفت الطائرة الرئاسية على نحو غير مبرر 37 درجة في سلسلة جبال ليبومبو الواقعة بين كل من جنوب أفريقيا والموزمبيق وسوازيلاندا؛ وقد مرت تسع ساعات قبل أن تقوم جنوب أفريقيا بإخطار الموزمبيق بأن الطائرة قد تحطمت، على الرغم من أن قوات الأمن الجنوب أفريقية كانت متواجدة في مسرح الحادث قبل ذلك بساعات عديدة حيث قامت تلك القوات أثناء ذلك بمصادرة كافة الوثائق الرسمية الموجودة في حطام الطائرة بما في ذلك الصندوق الأسود.
غير أن جروحا في رقبتي الطيارَين بعد ذلك أثارت الشكوك حول تعرضهما للقتل في الموقع، وليس إبان تحطم الطائرة.
بعد ذلك عيّنت جنوب أفريقيا لجنة للتحقيق في الحادث، وبعد تأخرها في بدء مهامها بسبب رفض قوات الأمن تسليم الصندوق الأسود للطائرة، أصدرت اللجنة تقريرا يعزي سبب التحطم برمته إلى خطأ من الطاقم الروسي للطائرة؛ فيما أجْرت الحكومة الروسية تحقيقا خاصا استنتج أن الطائرة تم تضليلها عبر إشارات ملاحية أخرجتها عن مسارها بحيث اعتقد الطياران أنهما فوق أرض مستوية بالقرب من “مابوتو” بينما هما واقعيا فوق سلسلة جبلية.
بعد ذلك، أجْرت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا تحقيقا في الحادث ونشرت تقريرا احتوى على تفاصيل تدعم نظرية الاغتيال؛ كما أن غارسا ماشيل، أرملة سامورا وزوجة نلسون مانديلا (آنذاك) شهدت بأن سامورا تعرض للقتل وقدمت لهيئة لجنة الحقيقة والمصالحة تفاصيل خطة تضم عملاء من جنوب أفريقيا والموزمبيق ومالاوي.
وفشلت اللجنة في التوصل لنتيجة مؤكدة بطريقة أو بأخرى، رغم التأكيد على كفاية الأدلة اللازمة لفتْح تحقيق؛ وبعد ذلك بعشرة أعوام في ديسمبر 2012، أعلنت وحدة “الصقور” في شرطة جنوب أفريقيا فتْح تحقيق جديد في حادث تحطم طائرة سامورا؛ على أن يجري التحقيق بالتعاون مع حكومة موزمبيق على أمل التوصل لإجابات طال انتظارها عن أسئلة حول وفاة سامورا قبل الأوان.
لكن، أيا كان ما سيكشف عنه التحقيق، فإنه لن يحل قضايا كثيرة عالقة، لا سيما تلك التي تقبع في عُمْق الذاكرة ولا يمكن لأي لجنة تحقيق أن تصل إليها؛ فالموزمبيق اليوم حافلة بتذكارات سامورا في كل مكان، ثمة شوارع ومؤسسات تحمل اسم سامورا، وتماثيل في الميادين تجسد إيماءاته المميزة، وملصقات تشهد بالشعبية الجماهيرية التي خلفها وراءه؛ غير أن الحلم الذي عاش ومات يدافع عنه هو الأصعب عند البحث عنه.
وكأن التاريخ يحدث بالعكس! فحيث كانت أعدادٌ غفيرة من البرتغاليين تغادر الموزمبيق إبان الاستقلال، ثمة الآن أعداد غفيرة تعود مجذوبة بفرص استثمارية في الدولة التي تتحول سريعا من إحدى أفقر دول العالم إلى إحدى أكثر دول القارة الأفريقية ثراء؛ وحيثما دعا سامورا ذات يوم إلى تأميم مصادر الدولة، فإن حكومة الموزمبيق اليوم تضمن للمستثمرين الأجانب ألا تتجاوز نسبة الحكومة في شركات التعدين حاجز الـ 20 بالمائة.
وتولى سامورا منصبه كـرئيس مؤسس للموزمبيق عام 19755، بعد سنين من زعامة جبهة تحرير موزمبيق المناضلة في سبيل الاستقلال عن البرتغال ليتولى سامورا قيادة البلاد في ظروف عاصفة؛ وكان سامورا مؤمنا بالصراع المسلح ليس كغاية في حد ذاته وإنما كوسيلة للبداية في بناء مجتمع جديد.
ومع تحقيق الاستقلال، قام سامورا بإصلاحات كبرى تتناسب مع الروح الجديدة؛ وكاشتراكي عنيد فقد عَمَد سامورا إلى تأميم كافة أراضي وثروات البلاد وأخذ بزمام مؤسسة التعليم العام والمستشفيات عبر البلاد، كما حظر التدين ما أثار ضده الكنائس الدولية صاحبة الاستثمارات الضخمة في البلاد.
ومع نهاية عام 1975، كان معظم المستعمرين البرتغاليين قد غادروا الموزمبيق خوفا من الانتقام العنيف بسبب الجرائم الاستعمارية، وقد حرص هؤلاء المستعمرون على تدمير ما تركوه في البلاد من بنية تحتية صناعية أو محاصيل زراعية أو آلات ومعدات؛ وقد أدى هذا الخروج التخريبي إلى الإلقاء بالدولة الحديثة الاستقلال في هوّة اضطراب اقتصادي؛ ذلك أن النظام الاستعماري كان يستبعد السود من المهن الحرفية ليضمن سيطرة الأيدي البرتغالية على وسائل الإنتاج التقني والصناعي والزراعي في البلاد؛ وقد أدت الفجوة الواسعة بين مهارات المستعمرين وأبناء البلاد إلى تراجع ملحوظ في الإنتاج غداة خروج المستعمرين.
وقد زادت الحال سوءا بتغير أنماط العمل والتجارة؛ ففي ظل الحكم البرتغالي، كانت الموزمبيق توفر عمالة ضخمة وطريقا تجاريا رائحا غاديا إلى جنوب أفريقيا وزيمبابوي على نحو يضمن استمرار تدفق العائدات إلى الحكومة الاستعمارية؛ لكن العلاقات مع جنوب أفريقيا وزيمبابوي قد ساءت بعد وصول جبهة تحرير موزمبيق إلى الحكم، وبعد مرور عام واحد من الاستقلال تراجعت أعداد عمال الموزمبيق في قطاع التعدين بجنوب أفريقيا من 2000 عامل أسبوعيا إلى 400 فقط.
وخوفًا من اشتراكية سامورا، وردًا على دعمه للحركات التحررية في جنوب أفريقيا وزيمبابوي، فقد عمدت الدولتان إلى دعم حركة المقاومة الوطنية الموزمبيقية (رينامو) المعارضة والتي قادت حملة تخريبية عنيفة دمرت فيها المدارس والمستشفيات المنشأة حديثا، ولقد كانت تلك الأعمال التخريبية نواة لحرب أهلية مدمرة امتدت حتى مطلع التسعينيات وسقط فيها مئات الآلاف.
ولطالما أكد سامورا على رغبته في تحويل النضال المسلح إلى ثورة مستمرة تخلق مجتمعا جديدا، قائلا “إن حرب التحرير التي خضناها لم تكن لتغيير الظلم البرتغالي بظلم موزمبيقي، أو الظلم الأوروبي بظلم أفريقي، أو الظلم الأجنبي بظلم وطني”.
وفي مناخ سياسي عاصف كهذا لم يكن من السهل على الأيديولوجية الكاريزمية لـ سامورا أن تجد طريقها للحياة؛ وعلى الرغم من عدم تحقق التوقعات التي كانت معقودة على الاستقلال إلا إن سامورا ظل يحظى بشعبية جماهيرة حاشدة.
على أن سامورا لم يكن بلا أعداء؛ لقد كان يعمل في بيئة تتزايد فيها العداوة يوما بعد آخر على نحو اتضح بعد محاولة انقلاب فاشلة ضده عام 1984 تورط فيها عدد من أعضاء حكومته، اثنان منهم سعوا للرئاسة بعد وفاته؛ وقد استمر هذا الوضع في التردي حتى غادر سامورا البلاد متجها إلى لوساكا لحضور مؤتمر دولي في أكتوبر 1986 حيث لم يعد أبدا إلى موزمبيق.