فيرا سونجوي – بروكنجز (1)
ترجمة قراءات إفريقية
صرّح الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام الاتحاد الإفريقي، في أثناء زيارته الأخيرة لإفريقيا، أنّ هناك «الكثير الذي أود فعله لتظلّ أمريكا فاعلة في الملف الإفريقي، ولكن القانون هو القانون، ولا أحد فوق القانون، حتى الرئيس».
وهذه المشاعر التي أفصح عنها الرئيس أوباما، في خطبته أمام الاتحاد الإفريقي في يوليو الماضي، تلخّص رسالة أوباما لإفريقيا عندما يتعلق الأمر بالحاجة إلى مؤسساتٍ قوية، ففي خطبته ركّز على أنّ الرئيس الأول للولايات المتحدة، جورج واشنطن (1789م – 1797م)، رفض أن يترشح لفترة رئاسة ثالثة عام 1798م في السنوات الأولى للجمهورية الناشئة، بالرغم من الشعبية التي كان يحظى بها، وفي المقابل قرّر التنحي للتأكيد على الانتقال السلمي، وعلى المبادئ الديمقراطية التي آمن بها، كما فعل نيلسون مانديلا الشيء نفسه في جنوب إفريقيا.
ولكن في عام 1940م، وفي خطوة غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي، سعى الرئيس فرانكلين روزفلت، وبعدما يقرب من قرن ونصف القرن من حكم جورج واشنطن، إلى الترشح لولاية ثالثة ورابعة، وفاز في الانتخابات، قد يقول البعض إنّ تلك الفترة كانت غير عادية، حيث بدأت الحرب العالمية الثانية، ولكن قبل ولادة الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة، وقبل أن تحصل العديد من الدول الإفريقية على استقلالها، تحرك الكونجرس الأمريكي عام 1951م للتصديق على تعديلٍ في الدستور الأمريكي ليقصر الرئاسة رسمياً على فترتين فقط، وقد مُرّر القانون عام 1947م، وصُدّق عليه بعد ذلك بأربع سنوات.
ولذلك؛ فإنّ الأمر استغرق قرناً ونصف القرن، من جورج واشنطن إلى هاري ترومان، من 1797م إلى 1951م، لتقوية هذه المؤسسات واستكمالها، فحتى بناء المؤسسات الأمريكية استغرق وقتاً، ولكن بمجرد بنائها ظلت مؤسسات محترمة؛ فلم يجرؤ أحدٌ منذ ذلك الحين على تغيير التعديل الثاني والعشرين من الدستور، حتى في الوقت الذي سعت فيه الولايات المتحدة إلى بناء اتحادٍ فيدرالي أكثر تماسكاً.
التجارب الإفريقية الأولى في التمثيل السياسي: خطوات على استحياء:
إنّ مفهوم التمثيل الانتخابي (الحكومة التمثيلية) بدأت في القارة مع الاستقلال، منذ خمسينيات القرن الماضي في بعض الدول، وفي الستينيات لمعظم الدول.
ويُظهر (شكل 1) من الخمسينيات وحتى الثمانينيات أنّ عدد الانتخابات اللاتنافسية (حزب واحد) قد زادت بصورة كبيرة، فقد انتقلت القارة من خمسة انتخابات لاتنافسية في الخمسينيات إلى 37 انتخاباً لاتنافسياً في الثمانينيات.
وقد وصف البعض تلك الحقبة بأنها «سنوات التعلم»؛ حيث كانت الدول تجرّب مفاهيم الصناديق وأوراق الاقتراع وقواعد التمثيل الانتخابي.
وفي نهاية 1980م كان لدى كلّ الدول تقريباً انتخابات منظمة لثلاث مراتٍ على الأقل، لذا كانت اللحظة مواتية لتمثيلٍ انتخابيٍّ أكثر شمولاً وتنافسية، وقد بدأ المواطنون في طلب المزيد من الانتخابات التمثيلية، ولكن ظلّ القادة مترددين في معظمهم على الانفتاح السياسي، لذا بدأت القلاقل تضرب البلاد.
من انتخابات لاتنافسية إلى الانقلابات: انتقال متعرج:
إنّ الانتقال من انتخابات لاتنافسية إلى انتخابات تنافسية لم يكن انتقالاً سلمياً؛ مع وجود تدخلات عسكرية عديدة حول القارة (انظر شكل2).
وقد شهد العقد، من 1980م إلى 1989م، أكثر الانقلابات في تاريخ إفريقيا، وانتقال للحكومات أيضاً، ولكن في بيئة غير تنافسية. وفي نهاية التسعينيات شهدت العديد من الدول تكاليف الانقلابات العسكرية، وكان هناك رفضٌ متزايدٌ للانقلابات العسكرية وظهورٌ لأحزاب المعارضة عبر القارة، وهذه التجربة ساعدت الانتقال الإفريقي من الانتخابات اللاتنافسية إلى الانتخابات التنافسية.
شيوع الانتخابات التعددية مع عدم الانتقال السياسي الشامل:
بحلول التسعينيات اتجه الانتقال السياسي في الدول الإفريقية من شيوع الانتخابات غير التنافسية إلى انتخابات تنافسية، فقد ازداد عدد الانتخابات التنافسية بصورةٍ كبيرةٍ، من أقلّ من عشرين في الثمانينيات إلى 72 في التسعينيات، مع دخول نظام تقييد المدد الرئاسية من سبع سنوات إلى خمس سنوات أو أقل، كما تبنّت الدول دساتير جديدة، وقد تعزّز هذا الاتجاه بنهاية العقد الماضي، وشاع نمط الانتخابات التنافسية والتعددية.
من الانتخابات التنافسية إلى الانتقال القيادي: بدء عملية بناء المؤسسات:
أصبحت إفريقيا على مفترق طرقٍ جديدٍ في عملية بناء المؤسسات، فبينما قلّ عدد الانتخابات اللاتنافسية والانقلابات؛ لم تزدد في المقابل عدد الانتخابات التنافسية التي تقود إلى انتقالٍ في القيادة، كما شهدت عدة دول انتقالاً قيادياً واحداً فقط منذ استقلالها، ولم يكن أيٌّ منها تنافسياً.
وبالإضافة إلى طول بقاء العديد من القادة في الحكم كانت هناك مخاوف متزايدة من حدوث انتكاسات، فقد انتُخب هؤلاء القادة عبر عملية تنافسية مفتوحة بدستورٍ واضحٍ وشفاف، ولكن سرعان ما بدأت تلك القيادات في التساؤل حول جدوى قِصَر المدد الرئاسية؛ فانتشرت موجة من المبادرات الرئاسية عبر القارة تحاول أن تغيّر الدساتير؛ مما أدى إلى عدم استقرارٍ في تلك الدول، بل انتكاسة ديمقراطية؛ ففي بوركينافاسو وبوروندي قادت تلك المحاولات إلى قلاقل مدنية ومصرع أشخاص، وقد أشار أوباما إلى تلك المبادرات بقوله: «أعتقد أنني إذا ترشحت مرة ثانية للرئاسة فيمكنني الفوز، لكنني لا أستطيع فعل ذلك»(5) .
ففي العام المقبل ستشهد إفريقيا انتخابات في: جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا وجمهورية الكونغو ورواندا والجابون وتشاد وغينيا الاستوائية، وكلّ تلك الدول أنهى رؤساؤها فتراتهم الرئاسية المحددة، وسوف يتشكل مستقبل القارة طبقاً لما سيحدث في تلك الدول، بالإضافة إلى دولٍ أخرى ستخوض انتخابات قبل نهاية 2020م، وستكون قد انتهت فترات رئاسة القادة الحاليين أيضاً.
ملاحظات استشرافية:
أولاً: بينما انتقلت الكثير من الدول من نظام الحزب الواحد إلى انتخاباتٍ تنافسيةٍ بصورةٍ سلمية؛ لا يزال هناك الكثير من أصحاب المناصب الحالية يسيطرون ويفوزون في الانتخابات، وهذا الاتجاه يفيد أنّ العملية التنافسية لم تنضج بصورةٍ كافية لإفراز النتائج التي من المفترض أن تفرزها انتخابات تنافسية.
ثانياً: حتى الدول التي نجحت في تغيير القيادة تمّ إجهاض ثمرة تجربتها؛ مثل نيجيريا وجزر القمر وليبيا وبنين وغانا والصومال، فقد حصلت تلك الدول على انتقالٍ في القيادة، ولكنها لم تكن عبر عملية تنافسية، وكان معظمها عن طريق استيلاء للجيش على السلطة، بل الحقيقة أنّ الدول التي حظيت بأعلى انتقال للسلطة كان ذلك عن طريق انقلابات، فنيجيريا تتصدر عمليات انتقال السلطة بـ 16 حالة، منهم 6 انقلابات، يتبعها دول أخرى مثل جزر القمر بخمسة انقلابات و 12 انتقال للقيادة.
والأهم أنّ غانا ونيجيريا انتقلتا من انقلابات إلى انتخاباتٍ تنافسيةٍ ولم تنتكسا إلى الانقلابات مرة ثانية، بل استمرتا في إجادة العملية التنافسية، بل إنّ هاتين الدولتين مات لهما رئيسان في أثناء المنصب، ولكن التزاماً بالعملية التنافسية ومؤسساتها تمّ استعادة العملية التنافسية أو الحفاظ عليها في الحالتين.
وبالرغم من تلك التطورات؛ فإنّ العملية التنافسية السلمية لا تزال غريبة على القارة فيما يتعلق بالانتقال القيادي، ولا يزال العكس هو السائد في إفريقيا.
وثالثاً: إنّ الدول التي خاضت انتقالاً تنافسياً مباشرة بعد استقلالها، مثل موريشيوس وزامبيا وبوتسوانا، نجحت في الحفاظ على الزخم، ولم تنزلق إلى الانقلابات أو عمليات أخرى من الانقطاع في القيادة، في حين أنّ دولاً مثل ليبيريا أجرت تنافسات صورية أُعيد فيها انتخاب القادة أنفسهم؛ لينتهي الأمر بانقلابٍ؛ قبل أن تستقر مرة ثانية في عملية انتخابية تنافسية.
رابعاً: بالنظر إلى بقية العقد الحالي؛ هناك علاماتٌ غير مبشّرة بأنّ المواطنين في الدول التي لم تخض عملية تنافسية حقيقية سيكونون بمثابة الأرض الخصبة لثورات شعبية وحالات من عدم الاستقرار، بما في ذلك للأسف عمليات إرهابية، وكما أشار الرئيس أوباما مؤخراً: «إذا ما ضحينا بالحرية باسم الأمن؛ فإننا نخاطر بفقدان كليهما»، فإنّ هذا الأمر ينطبق بشدة على الدول التي بها عددٌ أكبر من الشباب وبنسب تعليم منخفضة مع ارتفاع في البطالة.
والقارة في المجمل قفزت باتجاه عملية انتخابية تنافسية وتمثيلية، وما استغرقت الولايات المتحدة في إنجازه قرناً ونصف القرن أنجزته بعض الدول الإفريقية في أقلّ من 40 عاماً، وقد كانت تلك العملية في بعض الأحيان مضنية وصعبة، ولا يزال هناك انتكاساتٌ في بعض البلدان، وجمودٌ في البعض الآخر، وعلى الرغم من ذلك ما يتشكّل بوضوح هو خطوات راسخة باتجاه المزيد من الانتخابات التنافسية والانتقال القيادي.
والأهم في غضون السنوات الخمس المقبلة هو أنّ دور المواطنين ودور الاتحاد الإفريقي والقيادة التي أظهرتها دولٌ أخرى، مثل الولايات المتحدة، ستظلّ كلها عوامل حاسمة في تحديد كيفية تشكّل مستقبل القيادة الإفريقية وكتابة التاريخ، فهل سينجح الاتحاد الإفريقي في تبنّي تشريعات تجعل تحديد فترات الرئاسة ملزمة؟ هل تدعم الدول الغربية المجتمعات المدنية من أجل عزل القادة الذين يحاولون التلاعب في دساتيرهم؟ هل سيتخذ الرئيس أوباما خطوات إيجابية لضمان تحقيق أحلام العديد من الشباب الإفريقي – الذي استمع إليه – وذلك مع مغيب شمس هذا العقد؟
وفي الوقت الذي نحتفي فيه بدولٍ، مثل موريشيوس وبوتسوانا والرأس الأخضر وبنين وزامبيا وكينيا وغانا، ودول أخرى كثيرة، فإننا لا نستطيع أن نغضّ النظر عن حقيقة أنه لا يزال هناك الكثير مما يجب فعله لتحسين مؤسسات التمثيل الديمقراطي في تلك البلدان، وفي القارة ككل.
ومن أجل حماية تلك المؤسسات وتقويتها؛ فهناك عددٌ من التحديات التي يجب التغلب عليها، مثل التعامل مع تكلفة الانتخابات التنافسية، وتنمية الشفافية، ومعايير الانتخابات التي تستوعب جميع أطياف المعادلة السياسية، وتوضيح العملية السياسية (في الكثير من الدول لا يتم تحديد يوم الانتخابات في الدستور)، وإتقان أنظمة التصويت، وبناء لجانٍ انتخابية ذات مصداقية، والأهم من كلّ ذلك هو حماية إرادة الشعوب أولاً من أجل ممارسة واجباتهم المدنية للمشاركة في التنافس، وثانياً لقبول نتائج تلك الانتخابات.
وفي هذا الصدد؛ تستطيع إفريقيا أن تتعلم من تجاربها، ولكن أيضاً من تجارب الدول الأخرى التي تستطيع أن تقدّم حلولاً أفضل لتوظيفها في العالم كله.
إنّ الاتحاد الإفريقي، مثله مثل الكونجرس الأمريكي عام 1947م، يستطيع أن يواجه تلك التحديات، وبوقوف شباب إفريقيا إلى جانبه؛ فإنّ قارةً جديدةً ستظهر في نهاية الطريق، بقيادات مختارة شعبياً، وبكرامة وبسلمية تدعمها مؤسساتٌ قوية.
الإحالات والهوامش:
(1) From strong men to strong institutions: An assessment of Africa’s transition towards more political contestability, Vera Songwe, Nonresident Senior Fellow, Global Economy and Development, Africa Growth Initiative, August 4, 2015, on: http://www.brookings.edu/blogs/africa-in-focus/posts/2015/08/04-africa-transitions-songwe
(2) Source: African Leadership Transitions Tracker, Brookings Africa Growth Initiative, on: http://www.brookings.edu/research/interactives/2015/africa-leadership-transitions
(3) Source: African Leadership Transitions Tracker, Brookings Africa Growth Initiative, on: http://www.brookings.edu/research/interactives/2015/africa-leadership-transitions
(4) Source: African Leadership Transitions Tracker, Brookings Africa Growth Initiative, on: http://www.brookings.edu/research/interactives/2015/africa-leadership-transitions
(5) خطاب أوباما، نقلاً عن البيت الأبيض، على الرابط التالي: https://www.whitehouse.gov/the-press-office/2015/07/28/remarks-president-obama-people-africa