دفاتر البان آف (19)
ترجمة: أبكر آدم إسماعيل
السؤال النظري الذي ظل يُطرح في الخمسين سنة الأخيرة كلما كان تاريخ البلدان المتخلفة قيد المناقشة – حول ما إذا كان يمكن تخطي المرحلة البرجوازية أم لا – يجب الإجابة عليه في مجال العمل الثوري، وليس من خلال المنطق. لا يمكن للمرحلة البرجوازية في البلدان المتخلفة أن تبرر نفسها إلا بقدر ما تمتلك هذه البورجوازية الوطنية من قوة اقتصادية وتقنية كافية لبناء مجتمع برجوازي، ولتهيئة الظروف اللازمة لنمو بروليتاريا واسعة النطاق، ولمكننة الزراعة، وأخيراً لجعل وجود ثقافة وطنية أصيلة ممكناً.
إن البرجوازية مثل تلك التي نشأت في أوروبا قادرة على بلورة إيديولوجية وفي الوقت نفسه تعزيز قوتها الذاتية. لقد نجحت مثل تلك البرجوازية، الديناميكية، المتعلمة والعلمانية في تحقيق تراكم رأس المال وأعطت للبلد الحد الأدنى من الازدهار. في البلدان المتخلفة، رأينا أنه لا توجد بورجوازية حقيقية. لا يوجد سوى نوع من الطبقة الصغيرة الجشعة، الشرهة والوحشية، بعقل بائع متجول، مسرورة جدا بقبول الأرباح التي تمنحها لها السلطة الاستعمارية السابقة فحسب. هذه الطبقة التي تسعى للثراء السريع تُظهر نفسها عاجزة عن الأفكار العظيمة أو الإبداع. إنها تتذكر ما قرأته في الكتب المدرسية الأوروبية، وبصورة تدريجية، لا تصبح حتى نسخة طبق الأصل عن أوروبا، بل نسخة كاريكاتورية منها.
إن النضال ضد البرجوازية في البلدان المتخلفة أبعد من أن يكون نضالا نظرياً. إنه لا يهتم بإصدار إدانتها على النحو المنصوص عليه في حكم التاريخ. لا ينبغي معارضة البرجوازية الوطنية للبلدان المتخلفة لأنها تهدد بإبطاء التنمية الشاملة والمتناغمة للأمة فحسب، وإنما يجب معارضتها بكل بساطة وبشدة لأنها، حرفيًا، لا تصلح لأي شيء. هذه البرجوازية، تعبر عن وضاعتها (mediocrity) في أرباحها، وإنجازاتها، وفي فكرتها وتحاول إخفاء هذه الوضاعة في المباني ذات القيمة التفاخرية (prestige value) على المستوى الفردي، ومن خلال طلاء الكروم على السيارات الأمريكية الكبيرة، ومن خلال العطلات في الريفييرا وعطلات نهاية الأسبوع في النوادي الليلية المضاءة بالنيون.
هذه البرجوازية التي تدير ظهرها أكثر فأكثر للشعب ككل لا تنجح حتى في الحصول على تنازلات مذهلة من الغرب، مثل الاستثمارات التي ستكون ذات قيمة بالنسبة لاقتصاد البلاد أو إقامة صناعات معينة.
على العكس من ذلك، فإن مصانع التجميع تنبثق وتكرس نوع التصنيع الاستعماري الجديد الذي يتلاشى فيه اقتصاد البلاد. وبالتالي يجب أن لا يقال إن البرجوازية الوطنية تؤخر تطور الدولة، بأنها تضيع الوقت أو تهدد بقيادة الأمة في أزقة مغلقة. في الواقع، المرحلة البرجوازية في تاريخ الدول المتخلفة هي مرحلة غير مجدية. عندما تختفي هذه الطبقة الاجتماعية، ويتم التهامها بواسطة تناقضاتها الخاصة، سيتبين أنه لم يحدث شيء جديد منذ إعلان الاستقلال، وأن كل شيء يجب أن يبدأ من جديد.
لن يحدث التغيير على مستوى البنى التي أقامتها البرجوازية خلال فترة حكمها، حيث أن هذه الطبقة الاجتماعية لم تفعل أكثر من مواصلة تراث الاقتصاد والفكر والمؤسسات التي خلفها المستعمرون. ومن الأسهل تحييد هذه الطبقة البرجوازية، كما رأينا، فهي ضعيفة فكريا وضعيفة اقتصاديا. في المناطق المستعمرة، تستمد الطبقة البرجوازية قوتها بعد الاستقلال بشكل رئيسي من الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع السلطة الاستعمارية السابقة.
تتمتع البرجوازية الوطنية بفرصة أكبر لتولي منصبها من المضطهِد، حيث تم منحها الوقت الكافي للتمتع بالوجود رأسا برأس مع سلطة الاستعمار السابق. لكن التناقضات العميقة الجذور تقوض صفوف تلك البرجوازية. هذا هو ما يعطي المراقب انطباعا بعدم الاستقرار. لا يوجد حتى الآن تجانس في الطبقة الاجتماعية.
كثير من المثقفين، على سبيل المثال، يدينون هذا النظام القائم على أساس هيمنة القلة. في البلدان المتخلفة، هناك أعضاء معينون من النخبة والمثقفين والموظفين الحكوميين، الذين هم مخلصون، والذين يشعرون بالحاجة إلى اقتصاد مخطط، وحظر المتربحين، والحظر الصارم لمحاولات التعمية. بالإضافة إلى ذلك، فإن هؤلاء الأشخاص يقاتلون بقدر ما من أجل المشاركة الجماعية للشعب في ترتيب الشؤون العامة.
كما أنه في تلك البلدان المتخلفة التي تحصل على الاستقلال، هناك دائمًا عدد قليل من المثقفين المخلصين، الذين ليس لديهم أفكار محددة تحديدا واضحا حول السياسة، ولكنهم لا يثقون في غريزة السباق نحو المناصب والمعاشات التي تمثل عرضًا للأيام الأولى للاستقلال في المستعمرات. يوضّح الوضع الشخصي لهؤلاء الرجال (الذين يعولون العائلات الكبيرة) أو خلفيتهم (النضال الصعب والتربية الأخلاقية الصارمة) ازدراءهم الواضح للمنتفعين والانتهازيين. يجب أن نعرف كيف نستخدم هؤلاء الرجال في المعركة الحاسمة التي نهدف إلى الانخراط فيها والتي ستؤدي إلى نظرة أكثر صحة للأمة. إن إغلاق الطريق أمام البرجوازية الوطنية هو بالتأكيد الوسيلة التي يمكن من خلالها تجنب تقلبات الاستقلال الجديد، وتراجع الأخلاق، وتثبيت الفساد داخل البلاد، والانحدار الاقتصادي، والكارثة الفورية للنظام المعادي للديمقراطية الذي يعتمد على القوة والتخويف. لكنه أيضا الوسيلة الوحيدة للتقدم.
ما يمنع اتخاذ القرار من قبل العناصر الديمقراطية العميقة للأمة الفتية ويضاعف خوفهم هو القوة الظاهرة للبرجوازية. في البلدان المتخلفة المستقلة حديثًا، تتسرب الطبقة الحاكمة بأكملها إلى المدن التي بناها الاستعمار. إن غياب أي تحليل لمجموع السكان يدفع المراقبين إلى الاعتقاد بوجود برجوازية قوية ومنظمة تمامًا. في الواقع، نحن نعرف اليوم أن البرجوازية في البلدان المتخلفة غير موجودة. إن ما يخلق برجوازية ليس هو الروح البرجوازية ولا ذوقها ولا أخلاقها ولا حتى تطلعاتها. البرجوازية هي فوق كل شيء المنتج المباشر للظروف الاقتصادية المحددة.
الآن، في المستعمرات، إن الظروف الاقتصادية هي ظروف برجوازية أجنبية. إنها البرجوازية في البلد الأم التي نجدها، من خلال وكلائها، في مدن المستعمرات. إن البرجوازية في المستعمرات هي، قبل الاستقلال، برجوازية غربية، وهي فرع حقيقي لبرجوازية الدولة الأم تستمد شرعيتها وقوتها واستقرارها من هذه البرجوازية الاستعمارية. خلال فترة الاضطرابات التي تسبق الاستقلال، حاولت بعض العناصر المحلية والمثقفين والتجار الذين يعيشون في وسط البرجوازية المستوردة أن يتماهوا مع هذه البرجوازية المستوردة. وتوجد لدى هؤلاء المثقفين والتجار المحليين رغبة دائمة في التماهي مع الممثلين البرجوازيين للبلد الأم.
هذه البرجوازية المحلية، التي تبنت بلا تحفظ وبحماس طرق التفكير التي تميّز البلد الاستعماري والتي أصبحت منفصلة بشكل عجيب عن فكرها الخاص، واستندت في وعيها إلى أسس أجنبية نموذجية، ستدرك، واللعاب يسيل من فهمها، أنها تفتقر إلى شيء أساسي بالنسبة للبرجوازية: وهو المال. البرجوازية في بلد متخلف هي برجوازية في الروح فقط. لأن ما يضمن نوعيتها المميزة كبرجوازية ليس قوتها الاقتصادية ولا ديناميكية قادتها ولا اتساع أفكارها. وهي بالتالي، تبقى في بادئ الأمر ولفترة طويلة برجوازية الخدمة المدنية. إنها تستمد قوتها طمأنينتها من المواقع التي تحتفظ بها في الإدارة الوطنية الجديدة. إذا أعطتها الحكومة ما يكفي من الوقت والفرصة، فإن هذه البرجوازية ستتمكن من صرف المال الكافي لتقوية هيمنتها. لكنها ستكشف دائما عن نفسها على أنها غير قادرة على ولادة مجتمع برجوازي حقيقي مع كل العواقب الاقتصادية والصناعية التي ينطوي عليها ذلك.
منذ البداية، توجه البرجوازية الوطنية جهودها نحو أنشطة من النوع الوسيط. يوجد أساس قوتها في استعدادها للتجارة والمؤسسات التجارية الصغيرة، وفي الحصول على العمولات. إنه ليس مالها الذي يعمل، ولكن فطنتها التجارية. إنها لا تدخل في استثمارات ولا يمكنها تحقيق ذلك التراكم لرأس المال الضروري لولادة وإزدهار برجوازية أصيلة. وبهذا المعدل، قد يستغرق الأمر قرونًا لإقامة ثورة صناعية جنينية، وفي كل الأحوال ستجد الطريق مغلقا بواسطة المعارضة التي لا هوادة فيها للدولة الأم السابقة، والتي ستتخذ جميع الاحتياطات اللازمة لذلك عندما تقوم بوضع الاتفاقيات التجارية الاستعمارية الجديدة.
إذا كانت الحكومة تريد إخراج البلاد من الركود ووضعها بشكل جيد على الطريق نحو التنمية والتقدم، فيجب عليها أولاً وقبل كل شيء تأميم القطاع التجاري الوسيط. البرجوازية، التي ترغب في رؤية كل من انتصار روح صنع المال والتمتع بالسلع الاستهلاكية، وفي نفس الوقت انتصار موقفها الاحتقاري تجاه كتلة الشعب والجانب الفاضح لصنع الربح (ألا ينبغي علينا نسميه سرقة؟)، هي في الواقع تستثمر إلى حد كبير في هذا القطاع التجاري الوسيط.
والسوق الوسيط، الذي كان يهيمن عليه المستوطنون سابقاً سيتم غزوه بواسطة البرجوازية الوطنية الشابة. في الاقتصاد الاستعماري، يعد القطاع الوسيط هو القطاع الأكثر أهمية. إذا كنت ترغب في التقدم، يجب أن تقرر في الساعات القليلة الأولى تأميم هذا القطاع. لكن من الواضح أن مثل هذا التأميم يجب ألا يأخذ جانبًا صارمًا تسيطر عليه الدولة. إنها ليست مسألة وضع أولئك الذين لم يحصلوا على أي تعليم سياسي على رأس هذه الخدمات.
في كل مرة يتم فيها تبني مثل هذا الإجراء، فقد رأينا أن الحكومة قد ساهمت في الواقع في انتصار ديكتاتورية موظفي الخدمة المدنية الذين تمت قولبتهم في البلد الأم السابق، والذين أظهروا أنفسهم عاجزين عن التفكير في شروط الأمة ككل. وسرعان ما بدأ هؤلاء الموظفون المدنيون في تخريب الاقتصاد الوطني وخلع المفاصل عن هيكله؛ في ظل هؤلاء استشرى الفساد والمراوغة وتحويل الأسهم والسوق السوداء.
إن تأميم القطاع الوسيط يعني تنظيم تعاونيات البيع بالجملة والتجزئة على أساس ديمقراطي. ويعني ذلك أيضًا إضفاء اللامركزية على هذه التعاونيات من خلال جعل الجماهير مهتمة بترتيب الشؤون العامة. لن تكون قادراً على القيام بكل ذلك إلا إذا أعطيت الجماهير بعض التعليم السياسي. في السابق، تم إدراك أنه يجب توضيح هذه المشكلة الأساسية تماما وإلى الأبد. اليوم، صحيح أن مبدأ التعليم السياسي للجماهير مشترك بشكل عام في البلدان المتخلفة. ولكن لا يبدو أن هذه المهمة الاولية قد تم أخذها بحق على محمل الجد.
عندما يشدد الحكام على الحاجة إلى تثقيف الجماهير سياسياً، فإنهم يقررون أن يشيروا في نفس الوقت إلى أنهم يريدون أن يدعمهم الناس في العمل الذي يودون القيام به. والحكومة التي تعلن أنها ترغب في تثقيف الجماهير سياسياً فإنها تعبر هكذا عن رغبتها في الحكم مع الشعب وللشعب. يجب أن لا يتم الحديث بلغة قصدها تمويه الإدارة البرجوازية. في البلدان الرأسمالية، تركت الحكومات البرجوازية منذ فترة طويلة هذه المرحلة من السلطة الطفولية. وبعبارة صريحة، فإنها تحكم بمساعدة قوانينها وقوتها الاقتصادية وشرطتها. والآن بعد أن أصبحت قوتها راسخة، لم يعد عليها أن تضيع الوقت في اتخاذ مواقف ديماغوجية. إنها تحكم من خلال مصالحها الخاصة، ولديها شجاعة قوتها الخاصة. لقد خلقت الشرعية، وهي قوية في حد ذاتها.
ليس للطبقة البرجوازية في الدول المستقلة حديثًا فلا تملك القدرة على التشكك في دوافع أفراد الشعب ولا الهدوء المطمئن، المؤسس على قوة البورجوازية الراسخة. من هنا تنبع حقيقة أنها تُظهر قدرا من القلق لإخفاء قناعاتها الحقيقية، لحرف الانتباه، وباختصار لتعيين نفسها كقوة شعبية. لكن تضمين الجماهير في السياسة لا يتألف من تعبئة وتحريك عشرة آلاف أو مائة ألف من الراجال والنساء ثلاث أو أربع مرات في السنة. هذه الحشود والتظاهرات تشبه التكتيكات القديمة التي تعود إلى ما قبل الاستقلال، والتي كانت تقوم فيها باستعراض القوة لكي تثبت لنفسها وللآخرين أن لديها جماهير تقف وراءها. يقترح التعليم السياسي للجماهير ألا نتعامل معهم كأطفال ولكن لكيما نجعل منهم ناضجين.
هذا يقودنا إلى النظر في دور الحزب السياسي في بلد متخلف. لقد رأينا في الصفحات السابقة أن الأرواح البسيطة، التي غالباً ما تنتمي إلى البرجوازية المولودة حديثاً، لا تتوقف أبداً عن تكرار أنه في بلد متخلف، فإن توجيه السلطة من قبل سلطة قوية، وبعبارة أخرى، ديكتاتورية، هو أمر ضروري. ومن هذا المنطلق، يُمنح الحزب مهمة الإشراف على الجماهير.
يلعب الحزب دور البديل الجاهز للإدارة والشرطة، ويسيطر على الناس، ليس من أجل التأكد من أنهم يشاركون حقا في أعمال حكم الأمة، لكن لكي يذكرهم باستمرار أن الحكومة تتوقع منهم الطاعة والانضباط . تلك الديكتاتورية المشهورة، التي يؤمن مؤيدوها أنها مستمدة من العملية التاريخية ويعتبرونها مقدمة لا غنى عنها لفجر الاستقلال، ترمز في الواقع إلى قرار الطبقة البرجوازية في حكم البلد المتخلف أولاً بمساعدة الشعب، ولكن لتكون ضده في القريب العاجل.
إن التحول التدريجي للحزب إلى جهاز مخابرات هو مؤشر على أن الحكومة تضع نفسها أكثر فأكثر في موقف دفاعي. ويُنظر إلى الكتلة غير المتجانسة للشعب على أنها قوة عمياء يجب السيطرة عليها باستمرار إما عن طريق التضليل أو التخويف بواسطة قوة الشرطة. يتحول الحزب إلى مقياس لجهاز المخابرات. ويتم تحويل عضو الحزب المتشدد إلى مُخبر. وقد عهد إليه ببعثات عقابية ضد القرى. يتم تصفية أحزاب المعارضة الجنينية عن طريق الضرب والرجم.
يشهد مرشحو المعارضة حرق منازلهم. الشرطة تزيد من استفزازاتها. في هذه الظروف، يمكنك أن تكون على يقين من أن الحزب لا ينازعه أحد وأن 99.99٪ من الأصوات يتم إعطائها لمرشح الحكومة. ينبغي أن نضيف أنه في أفريقيا، هناك عدد معين من الحكومات تتصرف في الواقع بهذه الطريقة.
وعلاوة على ذلك، فإن جميع أحزاب المعارضة، التي عادة ما تكون تقدمية، ومن ثم تميل إلى العمل من أجل التأثير الأكبر للجماهير في إدارة الأمور العامة، والتي ترغب في تركيع البرجوازية جامعة المال، هذه المعارضة المحاصرة بالاتهامات والسجون تجد نفسها محكوم عليها أولا بالإسكات ثم الوجود السري.
إن الحزب السياسي في أجزاء كثيرة من أفريقيا، التي هي مستقلة اليوم، مدفوع باتجاه طرق بالغة الخطورة. بحضور أحد أعضاء الحزب، يصمت الناس ويتصرفون كقطيع من الأغنام وينشرون المدائح في تقريظ الحكومة أو القائد. ولكن في الشارع عندما يأتي المساء، بعيدا في القرية، في المقاهي أو بجانب النهر، فإن خيبة أمل الناس المريرة، ويأسهم، وأيضا غضبهم المتواصل يجعل من نفسه مسموعا.
فالحزب، بدلاً من الترحيب بالتعبير عن السخط الشعبي، بدلاً من أخذ هدفه الأساسي في التدفق الحر للأفكار من الناس إلى الحكومة، يشكل حاجزاً ويمنع مثل هذه الأفكار. قادة الحزب يتصرفون مثل الرقباء الكبار، وكثيراً ما يذكرون الناس بضرورة “الصمت في الصفوف.” هذا الحزب الذي كان يطلق على نفسه اسم خادم الشعب، والذي كان يزعم أنه يعمل من أجل التعبير الكامل عن إرادة الشعب، بمجرد أن تعيد القوة الاستعمارية البلاد إلى سيطرته، يعجل بإعادة الناس إلى كهوفهم مرة أخرى.
وفيما يتعلق بالوحدة الوطنية، فإن الحزب سوف يرتكب العديد من الأخطاء، على سبيل المثال عندما يتصرف حزب ما، يسمى بالحزب الوطني، كحزب يقوم على الاختلافات الإثنية، يصبح هذا الحزب، في الواقع، قبيلة تصنع من نفسها حزبا. هذا الحزب الذي يعلن أنه حزب قومي، ويدعي أنه يتحدث باسم الشعب بأكمله، يقوم بصورة سرية، وأحيانًا علانية، بتنظيم ديكتاتورية إثنية أصيلة. ولا نرى بعد ذلك صعود ديكتاتورية برجوازية، ولكن ديكتاتورية قبلية.
يتم اختيار الوزراء وأعضاء مجلس الوزراء والسفراء والمفوضين المحليين من نفس المجموعة الإثنية للزعيم، وأحيانا مباشرة من عائلته. يبدو أن مثل هذه الأنظمة من هذا النوع العائلي تعود إلى قوانين زواج الأقارب القديمة، إننا لا نشعر بالغضب، لكننا نشعر بالخجل عندما نواجه بمثل هذا الغباء، مثل هذا الدجل، مثل هذا الفقر الفكري والروحاني. هؤلاء الرؤساء في الحكومة هم الخونة الحقيقيون في أفريقيا، لأنهم يبيعون بلادهم لأعدائها الأكثر إثارة للخوف: يا للغباء.
من المؤكد أن هذه القبلنة للسلطة المركزية يشجع على الأفكار الإقليمية والانفصالية. كل اتجاهات اللامركزية تظهر مرة أخرى وتنتصر، وتتمزق الأمة إلى أجزاء، وتتشظى إلى نتف. يستيقظ الزعيم، الذي اعتاد على الدعوة إلى “الوحدة الأفريقية” وهو يفكر في عائلته الصغيرة، يوماً ما ليجد نفسه مثقلا بخمس قبائل، كل منها تريد أيضاً أن يكون لها سفراء وزعماء خاصين بها. ومثلما كان دائما مفتقرا إلى المسؤولية، وهو لا يزال غير مدرك وما يزال خسيسا، يدين “خيانتهم.”
لقد لفتنا الانتباه أكثر من مرة إلى التأثير البغيض الذي كثيرا ما كان يمارسه الزعيم. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن الحزب في دوائر معينة يتم تنظيمه مثل عصابة، ويوضع الشخص الأكثر قسوة في قمته. غالبًا ما يتم ذكر صعود هذا الزعيم وسلطته على الآخرين، والناس لا يترددون في التحدُّث، بنبرة مِلئها التواطؤ والاعجاب، بأنه يستطيع إرهاب أقرب المتعاونين معه. من أجل تجنب هذه المخاطر العديدة يجب شن معركة لا تنتهي، معركة لمنع الحزب من أن يصبح أداة راغبة في يد القائد.
“قائد”: الكلمة تأتي من الفعل الإنجليزي “يقود،” لكن الترجمة الفرنسية المتكررة هي “السواقة.” السائق، راعي الشعب، لم يعد موجودا اليوم. لم يعد الناس قطيعًا؛ لا يحتاجون إلى أن يكونوا مُساقين. إذا ساقني القائد، أريده أن يدرك أنه في الوقت نفسه أنني أريه الطريق. يجب أن لا تكون الأمة كتلة يقودها عملاق خارق (Grand Panjandrum). ونتفهم الذعر الذي يحدث في الدوائر الحكومية في كل مرة يصاب فيها أحد هؤلاء القادة بالمرض؛ فتراهم مهووسين بمسألة من سيخلفه.
ماذا سيحدث للبلاد إذا اختفى الزعيم؟ الطبقات الحاكمة التي تنازلت لصالح الزعيم، هي طبقات تفتقر إلى المسؤولية، غافلة عن كل شيء، مشغولة أساساً بملذات حياتها اليومية، وحفلات الكوكتيل، ورحلاتها المدفوعة من أموال الحكومة، والأرباح التي يمكن أن تجنيها من المشاريع المختلفة ـ من وقت لآخر يكتشف هؤلاء الناس الأرض الروحية القاحلة في قلب الأمة.
البلد الذي يرغب فعلاً في الإجابة على الأسئلة التي يطرحها التاريخ، والذي يريد يطوِّر ليس فقط بلداته ولكن أيضا أدمغة سكانه، يجب أن يمتلك مثل هذا البلد حزباً سياسياً موثوقاً به. الحزب ليس أداة في يد الحكومة. بل على العكس تماما، فإن الحزب أداة في يد الناس. هم الذين يقررون السياسة التي تنتهجها الحكومة. الحزب ليس، ولا ينبغي أبدا أن يكون، المكتب السياسي الوحيد الذي قد يلتقي فيه بحرية جميع أعضاء الحكومة وكبار الشخصيات في النظام.
أحيانا، وللأسف، يتألف الحزب كله من أعضاء المكتب السياسي فقط، الذين يقيمون بشكل دائم في العاصمة. في بلد متخلف، يجب على أعضاء الحزب البارزين أن يتجنبوا العاصمة كما لو كانت قد ضربها الطاعون. يجب عليهم، مع بعض الاستثناءات القليلة، العيش في المقاطعات الريفية.
يجب تجنب مركزة كل النشاط في المدينة. يجب أن لا يؤخذ أي عذر للانضباط الإداري على أنه يضفي شرعية على هذا التكدس لعاصمة مكتظة بالسكان بالفعل والأكثر نموا مقارنة بتسعة أعشار البلد. يجب أن يكون الحزب لامركزيا لأقصى الحدود. إنها الطريقة الوحيدة لإحياء الحياة في الأقاليم التي ماتت، تلك الأقاليم التي لم يتم إيقاظها بعد للحياة.
ومن الناحية العملية، يجب أن يكون هناك عضو واحد على الأقل من المكتب السياسي في كل منطقة، ويجب أن لا يتم تعيينه رئيسا لتلك المنطقة. ويجب أن لا يكون لديه سلطات إدارية. وليس بالضرورة أن يكون العضو الإقليمي للمكتب السياسي أعلى رتبة في التنظيم الإداري الإقليمي. بالضرورة يجب أن لا يكون جزءا من السلطة. كما يجب ألا يكون الحزب سلطة، بالنسبة إلى الشعب، بل كائنًا يمارس الناس سلطتهم ويعبرون عن إرادتهم من خلاله.
كلما قل الارتباك والازدواجية في الصلاحيات، كلما زادت قدرة الحزب في لعب دوره كدليل، و بالتأكيد سيشكل للشعب ضمانة حاسمة. إذا كان الحزب مختلطاً مع الحكومة، فإن حقيقة كونك متشددًا حزبيًا يعني أنك ستتمكّن من اختصار الطريق لتحقيق غايات خاصة، ولشغل منصب في الحكومة، ولصعود السُلّم، والحصول على الترقي ، وتحقيق مهنة لنفسك.
في بلد متخلف، فإن وضع المسؤولين الديناميين في المقاطعة يوقف العملية التي بواسطتها تصبح المدن ثقيلة الوطأة ويوقف اندفاع جماهير الشعب الريفي غير المتسق نحو المدن. إن إقامة المنظمات الإقليمية والمسؤولين الذين لديهم السلطة الكاملة، في الأيام الباكرة للاستقلال، للقيام بكل ما في وسعهم لإيقاظ مثل هذه الأقاليم، ولإعادة الحياة إليها، ولتعجيل نمو الوعي بها ضرورة لا مفر منها لبلد يرغب في التقدم.
خلافا لذلك، فإن كبار الشخصيات البارزة في الحكومة ومسؤولي الحزب سيتجمعون حول القائد. فالخدمات الحكومية تتضخم إلى أبعاد هائلة، ليس لأنها تتطور وتتخصص، ولكن لأن أبناء العمومة الجدد والمتشددين الجدد يبحثون عن وظائف ويأملون في أن يُدخلوا أنفسهم تدريجيا إلى آلة الحكومة. ويصبح حلم كل مواطن هو الذهاب إلى العاصمة، والحصول على نصيبه من الكعكة. وتُهجر المقاطعات المحلية. ولا يجد أهل الريف أحدا لقيادتهم، وهم غير متعلمين وغير مدعومين، لذلك يديرون ظهورهم لحقولهم المتداعية، ويتدفقون نحو هوامش المدن، وبالتالي يضخمون صفوف البروليتاريا الرثّة من كل الانتسابات.
إن لحظة الأزمة الوطنية الجديدة ليست بعيدة. ولتجنب ذلك، نعتقد أنه ينبغي اتباع سياسة مختلفة تمامًا: يجب أن يكون الجزء الداخلي، البلد الخلفي، هو الجزء الأكثر تميزًا في البلاد. علاوة على ذلك، في الملاذ الأخير، لا يوجد شيء غير مريح في اختيار الحكومة لمقعدها في مكان آخر غير العاصمة. العاصمة يجب أن تكون منزوعة القداسة؛ يجب أن نُظهر للجماهير المنبوذة بأننا قررنا العمل من أجلها. واضعة هذه الفكرة في الاعتبار، حاولت حكومة البرازيل أن توجد برازيليا. كانت مدينة ريو دي جانيرو الميتة إهانة للشعب البرازيلي. لكن لسوء الحظ، فإن برازيليا ليست سوى عاصمة جديدة، لا تقل وحشية عن الأولى. الميزة الوحيدة لهذا الإنجاز هو أنه يوجد اليوم طريق يعبر الأدغال إليها.
لا، ليس هناك سبب جاد يمكن أن يعارض اختيار عاصمة أخرى، أو تحريك الحكومة ككل نحو واحدة من أكثر المناطق ضعفا. العاصمة في البلدان المتخلفة هي فكرة تجارية موروثة من الفترة الاستعمارية. لكننا نحن مواطنو البلدان المتخلفة، يجب علينا أن نسعى في كل مناسبة للاتصال مع الجماهير الريفية. يجب أن نضع سياسة وطنية، وبعبارة أخرى سياسة للجماهير. يجب علينا ألا نفقد الاتصال مع الجماهير التي ناضلت من أجل استقلالها ومن أجل التحسين الملموس لوجودها.
يجب على الموظفين المدنيين والفنيين المحليين عدم الانغماس في الرسوم البيانية والإحصاءات، ولكن في قلوب الناس. وينبغي أن لا يغضبوا في كل مرة يكون هناك سؤال عن الانتقال الذي يجب القيام به إلى “الداخل” الريف). يجب ألا نرى النساء الشابات في البلد يهددن أزواجهن بالطلاق إذا لم ينجحوا في تجنب التعيين في وظيفة ريفية. ولهذه الأسباب، يجب على المكتب السياسي للحزب أن يعامل هذه المقاطعات المنسية بطريقة مميزة للغاية. إن حياة العاصمة، والتي هي حياة مصطنعة تماما، والتي تلتصق بالحياة الحقيقية الوطنية مثل جسم غريب، يجب أن تأخذ أقل مساحة ممكنة في حياة الأمة، التي هي مقدسة وأساسية.
في بلد متخلف، يجب تنظيم الحزب على نحو لا يقتصر على مجرد التواصل مع الجماهير. يجب أن يكون الحزب هو التعبير المباشر للجماهير. الحزب ليس إدارة مسؤولة عن نقل أوامر الحكومة؛ إنه المتحدث النشط والمدافع غير القابل للفساد عن الجماهير. من أجل التوصل إلى هذا المفهوم للحزب، يجب علينا قبل كل شيء تخليص أنفسنا من الموقف الغربي البرجوازي بالذات، الذي يزدري الجماهير ويعتبرها غير قادرة على أن تحكم نفسها بنفسها.
في الواقع، تثبت التجربة أن الجماهير تفهم تمامًا أكثر المشكلات تعقيدًا. واحدة من أعظم الخدمات التي قدمتها الثورة الجزائرية لمثقفي الجزائر هي أنها جعلتهم على اتصال مع الشعب، وسمحت لهم برؤية قصوى، فقر الشعب المدقع الذي لا يوصف، وفي نفس الوقت سمحت لهم بمشاهدة صحوة ذكاء الشعب والتقدم المستمر في وعيه. الشعب الجزائري، تلك الجموع الجائعة من الأميين، أولئك الرجال والنساء الذين أُخضعوا لقرون لأبشع أنواع التجهيل، صمدوا ضد الدبابات والطائرات، ضد النابالم و”الخدمات النفسية،” ولكن فوق كل شيء ضد الفساد وغسيل الأدمغة، ضد الخونة وضد الجيوش “الوطنية” للجنرال بيلونيس. لقد صمد هذا الشعب على الرغم من الأفراد المترددين أو الضعفاء، وعلى الرغم من الدكتاتوريين المحتملين. لقد صمد هذا الشعب لأن نضاله قد انفتح منذ سبع سنوات على آفاق لم يحلم بها من قبل.
اليوم، تعمل مصانع الأسلحة في وسط الجبال على بعد عدة ياردات تحت الأرض؛ اليوم، تعمل المحاكم الشعبية على كل المستويات، وتقوم لجان التخطيط المحلية بتنظيم تقسيم الحيازات الضخمة، والعمل على صنع جزائر الغد. قد يرفض فرد معزول أن يفهم مشكلة من المشاكل، لكن المجموعة أو القرية تتفهم بسرعة مذهلة. صحيح أنه إذا تم الحرص على استخدام لغة لا يفهمها إلا الخريجون في القانون والاقتصاد، يمكنك بسهولة إثبات أن الجماهير يجب أن تدار من فوق.
ولكن إذا كنت تتحدث باللغة اليومية، إذا لم تكن مهووسًا بالرغبة المنحرفة في نشر الارتباك والتخلص من الشعب، فعندئذ سوف تدرك أن الجماهير سريعة الالتقاط لكل ظلال المعانى وتعلم كل حيل الصنعة. إن اللجوء إلى اللغة التقنية، يعنى اعتبار الجماهير غريرة لم تجتاز طقوس العبور. مثل هذه اللغة من الصعب أن تخفي رغبة المحاضر في خداع الناس وإبعادهم عن الأشياء.
إن استعمال اللغة الغامضة هو قناع يخفي وراءه أعمال السرقات الكبرى. يتم تجريد الشعب من ممتلكاته وسيادته في وقت واحد. أي شيء يمكن شرحه للشعب، بشرط واحد هو ترغب حقاً أن يفهم الشعب. وإذا كنت تعتقد أنك لا تحتاج إليه، بل تريد العكس من ذلك، لأنه قد يعرقل سلاسة عمل العديد من الشركات ذات المسئولية المحدودة التي تهدف إلى جعل الناس أكثر فقرا، فالمشكلة إذاً واضحة تماما.
لأنه إذا كنت تعتقد أنك تستطيع إدارة بلد ما دون السماح للشعب بالتدخل، إذا كنت تعتقد أن الناس يخلقون اضطرابا في اللعبة من خلال مجرد وجودهم، سواء قاموا بإبطاء ذلك أو إذا كان ذلك بقيامهم بتخريبها من خلال جهلهم الطبيعي، فيجب عليك أن لا تتردد:
يجب أن تُبقي الناس خارجا. والآن، يحدث أنه عندما تتم دعوة الناس للمشاركة في إدارة البلد، فإنهم لا يبطئون الحركة ولكنهم على العكس يسرِّعونها. لقد حظينا نحن الجزائريين بالفرحة وحسن الحظ خلال هذه الحرب للتعامل مع عدد لا بأس به من الأسئلة. في مقاطعات معينة من البلاد، وجد قادة الثورة السياسيون العسكريون أنفسهم يواجهون في الواقع حالات تتطلب حلولا جذرية. سننظر في بعض هذه الحالات.
ونواصل….