(١)
تهدف هذه المقالة لارسال رسالتين هامتين. الرسالة الاولي لاولئك الرجال والشباب الذين اجبرتهم البطاله والمسقبة للمغامرة وامتطاء صهوات احصنة الهلاك للبحث قي ليل الفلوات البهيم عن الذهب. فالجهل بالنتائج الوخيمة للتعدين العشوائي لن يحميهم واسرهم من الكارثة. والحديث هنا ليس عن موتهم المأساوي عندما تنهار المناجم علي رؤسِهم، او تفتك بهم االثعابين السامه، وتصتادهم نيران القناصه من حرس الحدود المصرية والليبة. فالكارثة اكبر من ذلك بكثير.
اما الرسالة الثانية فللمسؤلين الذين إلتبس عليهم الأمر ولم يفرقوا بين الثروة والنقود او الذهب، وبلغ ولعهم بالذهب مبلفا تجاهلوا فيه مسؤليتهم الاخلاقيه نحو مواطنيهم وتسخير اجهزة الإعلام لتبصيرهم بمهالك التعدين العشوائي عن الذهب ظنا منهم ان الذهب قد حبانا به الله لتعويض ما افتقدنا من موارد بتروليه بعد انفصال الجنوب وهم يعلمون ان البون شاسع بينهما.
(٢)
ثمة فرق كبير بين الثروة وبين الذهب. وقد تنبه الفيلسوف البريطاني دفيد هيوم لهذا قبل اكثر من ثلاثة قرون. فالثروة الوطنية تشمل الموارد الاقتصادية المتمثلة في الزراعة والصناعة وفي البُني التحتية وفي الموارد البشرية واهمها الايدي العاملة التي تتمتع بالعلم والمهارة. اما الذهب فهو مجرد اداة للتبادل التجاري، ومع التقدم الإقتصادي تميزت العملات الورقيه وبعد ذلك الكروت البلاستكية بميزات عملية افتقدها الذهب كعملة للتداول – وتجدر الاشارة هنا الي ان الذهب كان العملة الوحيدة المقبولة و المستخدمة في التجارة الخارجية العالمية واستمرت كذلك في عهد التجارين (The Mercantilist) الذين كانوا يفضلون تصدير ثرواتهم وإكتساب الذهب لدعم اقتصادهم الوطني وتفادي الاستيراد لانه يفقدهم مدخراتهم من الذهب وبلغ بهم الأمر اتهام كل من يستورد ويخرج الذهب خارج الحدود بالخيانه العظمي. (السودان الان يستورد ما قيمته اضعاف ما يصدر لاهماله تنمية موارد الانتاج والتصدير.)
(٣)
ثمة مقولة مشهورة للعالم الإقتصادي الاسكتلندي المعروف ادم اسميث نعي فيها السياسه الاستراتيجية للاستعمار الاسباني قبل اربعة قرون خلت حيث كان هدف الاسبان من غزو شرق الولايات المتحدة هو الحصول علي الذهب وعندما فشلوا في الحصول عليه تركوا امريكا الشماليه بقضها وغضيضها واتجهوا جنوبا لغزو امريكا الجنوبيه والفوز بذهب حضارة الإينكا.
سخر ادم اسميث منهم وقال ان جنكزخان كان اكثر ذكاء وحكمة من الاسبان اذ قبل ان تغزو جيوشه اوروبا وبادر مستفسرا هل يملك الاوروبيون اراضي زراعية وخيول وابقار؟ ( يعني هل لديهم ثروات) وعندما تاكد من وجود موارد طبيعية غزا اروبا واستمتع بخيراتها.
في ضو هذه الحقائق فان تهافت المسؤلون في السودان وتكالبهم علي التنقيب عن الذهب وتشجيع المواطنين الذين يعانون من الفقر والبطاله والجهل للتدافع زرافات ووحدانا للتنقيب العشوائي عن الذهب دون ادني جهد منهم ومن وسائل الاعلام لتوعيتهم وتبصيرهم بالمخاطر الكارثية لهذا النشاط ودون اي اعتبار لسلامتهم الشخصية وسلامة البيئة التي يعملون فيها بل وسلامة البيئة علي امتداد الوطن، لظلم عظيم وخطر ماحق سينجم عنه تدميرإنسان السودان وبيئته لقرون عددا.
للذهب وظيفة هامة وهي دعم ميزان المدفوعات وتمويل استيراد السلع الراسمالية التي يحتاجها السودان لبناء مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعيه ( اي التعليم والرعاية الصحية) وحماية سعر العملة الوطنية من التراجع في وجه العملات العالمية، ولكن الذهب في حد ذاته سلعة اولية يعاني سعرها الضطراب ولا يقيم تنميه اقتصادية مأمولة. والبترول الذي فقدناه يمتاز علي الذهب كطاقة نحتاجها في الداخل لاقامة مشروعات التنمية الاقتصادية (زراعة وصناعة وبُني اساسية تتمثل في المواصلات والاتصالات) ولاقامة المشروعات الخدمية ( المتمثلة في التعليم والصحة والاستهلاك المنزلي). فاين الذهب من كل ذلك !
ما زال السودان يعاني من لعنة البترول الذي ذهب مع انفصال الجنوب واورثنا المرض الهولندي، (اي اهمال القطاعات الإقتصادية المنتجة والداعمة للتصدير). اما لعنة الذهب فستبقي معنا ومع الاجيال القادمة اذا لم ندرك ونعي باكرا الاثار الماحقة المترتبة علي التعدين دون ضوابط صارمة ومراقبة ومتابعة.
(٤)
استاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد جفري ساكس ( Geffry Sachs ) وزميله اندرو وارنر ( Warner Andrew ) اجريا دراسة شملت ٩٥ دولة نامية تعتمد في اقتصادها علي تصدير المعادن وذلك خلال الفترة ١٩٧٠ الي ١٩٩٠
وخرجو بتيجة مفادها ان تصدير المعادن خلال تلك الفترة صاحبه تراجعا في نمو دخل الفرد، كما لم تسهم الشركات العاملة في التعدين الا بالنذر اليسير في خلق فرص للعمل. هذا يعني ان الارباح المكتسبة من تعدين الذهب قد راحت لخزائن الشركات او استاثر بها المسؤلون او الحكومة ولم تُنفق علي التعليم والصحة ودعم الشرائح الضعيفة.
في واقع الامر انتج السودان عشرات الاطنان من الذهب خلال السنوات الماضيه حسب افادة المسؤلين في وزارتي المعادن والمالية. ولكن ظلت مستويات الفقر لاغلب السودانين كما هي وظلت نيران التضخم مستعرة . وخلت خزائن بنك السودان من العملات الصعبة وانهارت قيمة الجنيه السوداني لمستويات غير مسبوقة علي الرغم من ان اهم وظيفة لانتاج الذهب هي دعم ميزان المدفوعات وحماية العملة الوطنية من التدهور والسقوط دون كابح ( Free fall ).
(٥)
قليل من الدول (السودان ليس من بينها) لديه تشريعات قانونية واجراءات فعَالة تُخضع الشركات الوطنية والاجنبية العاملة في هذا المجال للمحاسبة وتَحمُل تبعات الخراب والدمار الذي تلحقه بالانسان والبيئه.
فعلي سبيل المثال تعتبر شركة نيومونت ( Newmont ) الامريكيه ومقرها دنفر في ولاية كلورادو، حسب التصنيف العالمي، ثاني اكبر شركة عالمية تعمل في تعدين الذهب. ولكن اينما حلت هذه الشركة دخلت في نزاعات قانونية خطيرة مع المواطنين والحكومات اُضطرت معها إضصرارا لدفع ملاين الدولارات. ففي اندونسيا طُولبت الشركة بدفع ٥٥٠(خمسمائة وخمسين) مليون دولارا لانها تسببت في تلويث مياه الخليج الذي كانت تعمل بالقرب منه فنتج عن ذلك موت الاسماك والاحياء المائية. كما تلوثت التربة وظهرت امراض جلدية خطيرة وغريبة وسط القرويين ادت لموتهم واجهضت النساء. (Daniels, International trade, chapter 5, 2013). انكرت الشركة وطلبت تسوية خارج المحكمة استطاعت ان تدفع جزءً يسيرا من المبلغ المطلوب.
وفي غانا اُتهمت الشركة بتدمير البيئة وترحيل الناس قسرا وتوطينهم حيث ارادت الشركة، وتسببت في تلوث الانهار والتربة. تسرب الزرنيخ من مناجم الشركة الي المحيط وتسبب في قتل الآف الاطنان من الاسماك وطلبت المحكمة من الشركة في عام ٢٠٠٩ دفع ملاين الدولارات.
تسببت نفس الشركة في فضائح وفساد في بيرو بامريكا الجنوبية تحدثت عنه كبريات الصحف الامريكية مثل النيويورك تايمز والوشنجتون بوست ( Wickapedia ). هذه صورة سريعة لممارسات اكبر شركة تعدين للذهب في العالم، ما بال الشركات الاجنبية الاخري التي لم يسمع بها احد؟
حتي في الولايات المتحدة الامريكية والتي لديها قوانين صارمة تنظم صناعة التعديين منذ عام ١٨٧٢ ، فوجئت الحكومة بتحملها عبئ تنظيف التلوث الذي خلفته شركات التعدين – بعد نفاذ الخامات وهجر هذه الشركات للمناجم التي كانت تعمل بها.وبلغ العبئ الذي تحملته الحكومة ودافع الضرائب ٧١ (واحد وسبعون) مليار دولار امريكي.
(٦)
ينطوي التنقيب عن الذهب سواء كان عشوائيا اومنظما من قبل الشركات المحليه والعالمية علي مخاطر جمة ان لم يعها المسؤلون في وزارة التعدين ويتحسبون لها بانتهاج طرق الدراسة العلمية وووضع القوانين التي تحمي الانسان والبيئة والتصديق علي هذه القوانين من اعلي سلطة تشريعية ومن ثم الاشراف الفعلي اللصيق علي ممارسات التعدينين افرادا كانوا ام شركات، لقضت هذه المخاطر علي الانسان والبيئة لسنين طويلة. ولكن ما طبيعة هذه المخاطر؟
اول هذه المخاطر يتمثل في ملاين الاطنان من مخلفات التعدين من الاتربه والحجارة وتُسمي (Trailngs). وحسب افادة (Earthworks ) ( وهي مجموعة غير ربحية تهدف لحماية المجتمع والبيئة من التعدين الجائر)، ففي بعض المناجم يتطلب الحصول علي اوقية من الذهب الخالص حفر وازاحة ٦٠ (ستين) طنا من المخلفات الملوثة. ولكن ازاحة الصخور القابعة عميقا في خبايا باطن الارض لحقب زمنية سحيقة عندما تتعرض للهواء والماء تتفاعل محتوياتها من سلفات الحديد ( iron sulphide ) مع الاوكسجين ليتكون حامض الكبريتيك الذي قد يتسرـب للانهار والبحيرات ومصادر مياه الشرب.
من اكبر المشكلات في تعدين الذهب ترك هذا الركام الهائل من المخلفات المولوثه للبيئه في العراء. فقد درجت دول مثل بابوا غنيا الجديده، وهي دوله في جنوب اسيا غنية بالمعادن، من القاء خمسة مليون طن سنويا من ركام مخلفات التعدين عن الذهب في المحيط الهادي. ورغم اتساع هذا المحيط الذي يعتبر الاكبر علي الارض، قضي الركام الُملوِث علي الشُعب المرجانيه وجميع الاحياء المائية في تلك المنطقة. وتقدر االمصادر العالمية المُتابعة لهذة المشكلة ان الشركات العالمية العاملة في مجال تعدين الذهب مجتمعة تغذف ١٨٠ (مائة وثمانون) مليون طن سنويا في المحيطات والبحيرات والانهار. ( Earthwork ) غير عابئة بما ينجم عن ذلك من اضرار.
ولهذا ينبقي التعامل مع هذه الشركات بجدية وحزم في اطار القوانين التي اشرنا لها وتضمين ذلك في العقود.
درجت الشركات العالمية العاملة في مجال تعدين الذهب علي بناء سدود وخزانات توضع مخلفات التعدين الملوثة بداخاها حماية لحياة الانسان وصحة البيئة. تقدر المصادر عدد السدود والخزانات التي انشئت في العالم لهذا الغرض بنحو ٣٥٠٠ (ثلاثة الاف وخمسمائة). هل المسؤلين في وزارة المعادن انتبهوا لذلك والزموا الشركات العاملة في التعدين وطنية كانت ام اجنبية علي بناء هذه السدود والخزانات الحيويه؟
(٧)
يحتوي ركام مخلفات التعدين عن الذهب علي العديد من المواد الكماوية السامة ولكن اخطرها بجانب حامض الكبريتيك مادتين هما الزرنيخ ( cyanide ) والزئبق. ورغم الاثار السلبية المدمره للزرنيخ علي صحة الانسان (اي استخدام غير منضبط سيؤدي لانعدام الاكسجين في الجسم والموت) وصحة البيئة الا ان القدرة التدمرية للزئبق تتفوق عليه في الفتك والاستمرار في التلويث لاماد طويلة من الزمن. فالزئبق كمعدن سائل يستخدمه المعدنون كافراد وجماعات بصورة عشوائية للحصول علي الذهب. وللحصول علي قرام ( gram ) من الذهب يطلق المعدنون العشوائيون قرامين من دخان الزئبق في الهواء. ولك ان تتصور كم من الزئبق سوف يستخدم لانتاج ثلاثين او اربعين طن من الذهب سنويا حسب تقديرات وزارة المعادن !! وعندما يتسرب الزئبق من ركام مخلفات التعدين للانهار والبحيرات و المياه الجوفية يمكنه الاندياح لمسافات ومسحات شاسعة. ان الزئبق المتسرب من هذه الانشطة التعدينية يلحق اضرارا جسيمة بصحة الانسان تشمل الفشل الكلوي، وامراض الكبد، امراض القلب والدماغ والرئتان والغولون ويضعف نظام المناعة كما يؤثر علي نمو الاطفال والاجنة .
ومشكلة الزئبق انه كماده مدمره لصحة الانسان والبيئة تظل اثاره السلبية علي التربة والمياه ماثلة لالاف السنين. وجدير بالذكر ان المواد السامة ٠( Toxic ) iالمتسربة من المناجم التي اقامها الرومانيون في شمال انجلترا قبل الفيَ عام ما تزال تؤرق البريطانين حتي اليوم رغم التقدم التقني الذي احرزته بريطانبا خلال عشرين قرنا.
ونظرا لما يلحقه تعدين الذهب من اثار ماساوية طويلة المدي علي صحة الانسان والبيئة لا سيما في الدول النامية نتيجة للتعدين العشوائي للمواطنين و سعي الشركات لتعظيم ربحها دون اي احساس بالمسؤلية المجتمعية والاخلاقية، سُمي هذا النوع من الذهب بالذهب القذر ( Dirty gold ). هنالك حملة عالمية نشطة في الولايات المتحدة الامريكية وغرب اوروبا لمقاطعة الذهب الرث او القذر وتقوم بهذه الحملة مجموعة ( Brilliant Earth ) . حسب المصادر فان ثمانية من اكبر عشرة شركات لبيع المجوهرات في امريكا قد وافقت علي مقاطعة هذا النوع من الذهب وان ٢٠٪ من المواطنين يرون ان خاتم الخطبة والزواج لا يستحق كل هذا الدمار والخراب الذي يلحقه تعدين الذهب بهذه الطريقة علي انسان الدول النامية وبيئته.
واذا ما اتسعت الحملة وقويت شوكتها ودعمتها الحكومات، لان اهدافها مجتمعية وبيئية وليست سياسية (والمقاطعة السياسية يعاني منها السودان حاليا)، سيصبح تسويق الذهب القذر في الاسواق العالمية معضلة لا يمكن تجاوزها الا بترتيبات سرية عن طريق الاتفاق مع دول اخري لتسويقه نيابة عن السودان او بيع الذهب لها تفاديا للمقاطعة وفي كلا الحالين سيباع الذهب باقل من الاسعار العالمية السائدة.
د. علي عبدالحفيظ
اقتصادي متقاعد -ولاية فرجنيا
aliabusami@gmail.com