أن نسمع خبراً عن إستيراد بلد مثل السودان للمنتجات الزراعية من جيرانه , لهو الفضيحة الكبرى التي ترقى إلى مستوى العار , في الوقت الذي ما تزال فيه البلاد غنية بالتربة الخصبة و المياه الوفيرة , ابتداءً من المياه المندفعة نحونا من بحيرتي تانا وفكتوريا , و انتهاءً بالأمطار الغزيرة المنهمرة على سهول السافنا الغنية على امتداد مساحات شاسعة و واسعة , من آلآف الهكتارات المربعة في جنوبي كردفان و دارفور لوحدهما , ما يمثل عاملاً طبيعياً لا تحظى به كثير من البلدان التي تشاركنا هذا الكوكب , ففي الصين مثلاً , المزارعون يمارسون نشاطهم الزراعي على سفوح وقمم الجبال , مما يزيد من الجهد الذي يبذله هؤلاء المزارعون الصينيون أكثر مائة مرة من مجهودات مزارعينا , الذين حباهم الله بأرض بكر سهلة ومنبسطة التضاريس , و محتوية على كل العناصر الداعمة لإنبات أي بذرة تسقط في جوفها , هذا بالإضافة إلى التنوع المناخي الذي يوجد في هضبة وسلسلة جبال مرة , التي تعتبر المنطقة الوحيدة بالبلاد في تمتعها بمناخ البحر الأبيض المتوسط , وهو الطقس الذي تنمو و تثمر فيه غالب أشجار الفاكهة , وعلى ذكر منتجات الفاكهة فإنّه من الواجب علينا أن لا نتجاوز منطقة جبال النوبة , فهذه الجغرافيا ذات الطبيعة الساحرة و الجاذبة , بها ثروة عظيمة من فاكهة الليمون و البرتقال و القريب , خاصة عندما ننحدر شرقاً باتجاه مدينة (ابو جبيهة) , سيدة إنتاج المانجو , فلو يعلم الناس أن التالف من فائض إنتاج هذه الفاكهة الشعبية , والذي يلقى في القمامة نهاية كل موسم , لضحكوا قليلاً ولبكوا كثيراً , فهذه الفوائض غير المستفاد منها من فاكهة المانجو تعادل تماماً تلك الكميات المهولة من الموز ,الذي يجنى سنوياً من حدائق كسلا و سنار ولا يجد السوق الكفيلة باستيعابه , فيذهب فائضه إلى حيث ذهب مانجو ابو جبيهة.
ما تمتليء به أسواق المدن الخليجية من فواكه قادمة من مصر و بلاد الشام , يمكن ان تشارك فيه منتجاتنا الوطنية الزراعية بقيمة تنافسية عالية و بجدارة منقطعة النظير , و السبب يكمن في أن هذه الفواكه السودانية المنتجة في كل من أبو جبيهة و جبل مرة و كسلا وسنار , بريئة وخالية من الأسمدة و الكيماويات , و ناضجة بنموٍ طبيعي دون أي تدخل من تدخلات العقل البشري , فالمستهلك في هذه المدن الخليجية يعي تماماً قيمة وجودة ما تنتجه البيئة السودانية , من ثروات زراعية و حيوانية , فهو صاحب تجربة طويلة الأمد مع الماشية التي يستوردها من بلادنا في مناسبات أعياد الأضحى , و على علم تام بأن الخراف السودانية شربت وارتوت من مياه امطار نقية , و أكلت من عشب المراعي البرية التي نبتت بسقيا ذات المياه المطرية العذبة , وبما ان عالم اليوم قد اجتاحته فوبيا المواد الغذائية المسرطنة , فان منتجاتنا لن تبور اذا ما اقتحمنا بها السوق الاقليمية و العالمية على حد سواء , لأنها تمتلك التميز في الجودة , وهي بعيدة كل البعد عن الخطر الصحي أو احتمالية الإضرار بالإنسان , وفوق هذا وذاك قلة تكلفة صناعة وتجارة الفاكهة في بلادنا , فعندما ترى كلمة (صنع في) على كرتونة الجوافة مثلاً , في أي سوق من هذه الأسواق آنفة الذكر , فانّ هنالك سؤال بديهي يتبادر إلى ذهنك , وهو كيف تصنع الفاكهة ؟ , وفي حقيقة الأمر إنّ عملية صناعة الفاكهة هي عملية بسيطة جداً , تبدأ بجمعها وحشوها في كراتين ثم وضعها داخل براد (ثلاجة كبيرة على ظهر شاحنة) , ليتم ترحيلها إلى ميناء المستورد عبر الطريق المعبّد إلى ميناء المصدر (بورتسودان) , هذه بكل بساطة عملية صناعة الفاكهة , فكلفة انتاجها تنحصر في اجور العمال الذين يجنونها من أشجارها , ثم قيمة الكرتونة التي توضع فيها (التغليف) , و تكلفة ترحيلها الى المحطة الاخيرة , فصناعة الفاكهة ليست كصناعة السكر أو الزيت , وعملية إجراء تصديرها من أسهل العمليات , فهي ليست كالماشية والثروة الحيوانية التي تكون بحاجة إلى رعاية ممرحلة , و تغذية وسقيا مستمرة تبدأ من المراعي التي تعيش فيها , وصولاً إلى المستهلك في البلد المستورد , فإنّ كل ما تحتاجه الفاكهة هو ان توضع في داخل (براد).
ففي ظل الأوضاع الإدارية المتردية التي تشهدها البلاد , لن نستطيع أن نصدر المانجو و البرتقال و الموز و القريب فروت , أقول الأوضاع الإدارية المتردية وليست الاقتصادية , لأنه وبحسب قناعتي الشخصية أن الإشكال في بلادنا هو إشكال إداري أكثر من كونه معضلة إقتصادية , ذلك لأن الأرض ما زال يتفجر باطنها ذهباً و وعداً و تمني , و بساتين الغرب و الشرق تؤتي اكلها كل عام , فيأكل فائض ثمارها الطير , وملايين البراميل من الذهب الأسود ما زالت كامنة في جوف الأرض , تستغيث حتى تخرج لكي تضخ عبر الأنبوب , إلى أسواق الدنيا اللاهثة وراء الحصول على الطاقة و مصادرها , لكنه سوء الإدارة و الفساد المقنن و الممنهج , الذي غرس أنيابه عميقاً في جسد هذه البلاد الغنية والطيب أهلها , فالشركة التي تمتلك الأصول الثابتة و المتحركة والذبائن و العملاء الراغبين , لن تفشل أو تخفق إلا بفشل وإخفاق المدير التنفيذي المتواضع في مهاراته الإدارية , و الفاقد للرؤية الحصيفة والثاقبة , فنحن هنا قد أخذنا عنصر الفاكهة كأنموذج فقط , حتى ندلل به على (كسل) العقل الإداري لدينا , وليس كسل الانسان السوداني , كما ظلت تروج لهذه الفرية كثير من دوائر الإعلام المجتمعي لدول الإقليم , فمزارعونا يزرعون حقولهم في البكور , و رعاة الجمال و الأبقار و الأغنام يرعون فجراً مع مسارب الضوء , ليتخيرون لحلالهم السمين من الغث من العشب , إذاً المشكلة إدراية محضة , وتتعلق بالتكلس الذي اصاب المؤسسات المفصلية للدولة , فبلادنا غنية بموردها الطبيعي , فقط ينقصها ذلك المدير النابه والحاذق , الذي يعرف كيف يحرك عجلة المنفعة ويقوم بتدويرها داخلياً و خارجياً , بحيث تعود مخرجاتها بالفائدة على المزارع و الراعي و الموظف ثم التاجر , فالمشكلة السودانية برمتها تشبه إلى حد بعيد الجلطة الدموية , التي تقف حائلاً دون تدفق الدماء المؤكسدة إلى بقية اجهزة الجسم الحيوية , من قلب و مخ و رئة , فالمنظومة الإدارية لدى بلادنا هي مثل هذه الجلطة الدموية التي شلت جسد الوطن شللاً كاملاً , فاقعدته وجعلت قيادته في رحلة طواف دائمة ودائبة , حول أقطار وعواصم الدنيا من مشرقها إلى مغربها بحثاً عن الطبيب المداوي , جاهلة أو متجاهلة أن الطبيب والدواء كلاهما موجودان على سطح تربة الوطن الخصبة , لا المحيط الخارجي , وأن الحل ينبع من صميم الضمير الحي لأبناء الأمة , و من مواردها الطبيعية الكائنة فوق وتحت أرضها.
المشهد العام لظاهرة انسداد الأفق لدى المنظومة الحاكمة في بلادنا , وفشلها الكبير في إيجاد الحلول الناجعة لهذه الأزمات الخانقة في كل الأصعدة , والتي ادخلت المواطن السوداني في دوامة مملة من الحيرة و الإحباط , وفقدانه لثقته بنفسه و بالنظام , هذا مع علمه ويقينه التامين من أن أرضه تكتنز الذهب , وتنبت فوقها اشجار المانجو و الموز و البرتقال , هذا المشهد التراجيدي يجسده بيت شعر , للشاعر الجاهلي صاحب إحدى المعلقات السبع , وهو طرفة بن العبد , حين قال :(كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ , والماء فوق ظهورها محمول) , فبرغم ما تجود به ديارنا من ثروات إلا اننا قد فشلنا في إدراة هذه الثروات المتنوعة , كفشلنا في إدراة تنوعنا الإثني و الجغرافي و المناطقي , فاندلعت الحروب الأهلية جراء هذا القصور و الإنتكاس الإدراي , على الرغم مما نحمله على ظهورنا من مقدرات إقتصادية واعدة.
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com