على الرغم من ان هذا السؤال قد لاكه قادة سفينة الانقاذ زماناً طويلاً , و ان هذا الاستفهام ايضاً ساهم في تمديد عمر المنظومة الانقاذية , الا انه اطل بوجهه مرة اخرى و لكن بطريقة مختلفة , فعندما كان يطرح هذا التساؤل من افواه الاسلاميين , و من ثم يقوم بترداده المواطن السوداني ببساطته المعهودة , كان المستفيدون من مخصصات السلطة يقصدون من وراء اشاعته احباط الناس , و تثبيط هممهم وتشكيكهم في الوثوق بالمعارضة واحزابها السياسية الضعيفة , لكن اليوم ذات السؤال بدأ يطرح من جديد , و هذه المرة بروح تختلف عن تلك الروح الحائرة التي سبق وان تم بها طرح ذات السؤال , فاليوم الوطن يزحف نحو مشارف حافة الانزلاق للمجهول , و المنظومة الحاكمة قد عجزت وافلست ووقفت موقف حمار الشيخ في العقبة , و اعلنت فشلها عبر اكثر من منبر , كان آخره خطاب رئيس الوزراء و النائب الاول لرئيس البلاد في البرلمان , والذي كشف فيه عن العجز المالي الضخم الذي يواجه النظام , وقد سبقه على ذات المنحى وزير الخارجية المقال البروفسور ابرايهم غندور , في سلسلة هذه البكائيات وهذا العويل , على حائط مبكى المبنى التشريعي الذي اسسه الرئيس الراحل جعفر نميري , فهذا الضعف و ذلك الهوان الذي اصاب النظام الانقاذي , فضح امر المعارضة المدنية و المسلحة بمختلف مسمياتها , ابتداءً من قوى الاجماع الوطني الى نداء السودان و انتهاءً بالجبهة الثورية التي ضربها التصدع وجعلها منشطرة الى نصفين متنازعين , لم يكن الناس يتصورون ان حال الاجسام السياسية و العسكرية المنادية باسقاط النظام يكتنفها الضعف والاضمحلال الى هذا الحد المثير للشفقة , فهل صدق رموز الانقاذ في الماضي القريب عندما تبجحوا , و رشقوا هذه الاجسام المتبنية للمقاومة المدنية و المسلحة بالهشاشة والضعف والهوان , وانها غير قادرة على تحريك الشارع وتعبئة الجماهير , انه من المعلوم ان التغيير السياسي يعتمد على تنظيمات واحزاب جماهيرية يكون فيها الشعب هو حاضنتها الاولى و الاخيرة , لكن في هذه الايام ومع ازدياد وتيرة تضعضع اركان النظام , وعدم تماسك هذه الجماعة الانقاذية الحاكمة , تتكشف المسافة الواسعة و الشاسعة التي تفصل ما بين هذه الجماهير وبين التنظيمات و الاحزاب السياسية الناطقة رسمياً باسمها , فلقد وضح اخيراً عظم البون الكبير بين القيادة و القاعدة , واتضح انه لا يوجد هنالك عمل تنظيمي محكم بين قمة الهرم وقاعدته , كما عهد المواطنون عكس ذلك في سابق العصور والازمان.
ان المتابع للحراك الاعلامي المناويء للسلطة الانقلابية في بلادنا , والذي ظل يقوم بتفعيله الشباب والطلاب في مواقع التواصل الاجتماعي , وعلى الارض في الارياف والقرى والاحياء و المدن , يلحظ قوة انفعال ذلك النفس الثوري الملتهب من بين ثنايا احرفهم واصواتهم , و يتيقن بان الامة السودانية بخير وسوف ينبلج صبح حريتها , ويتحقق انعتاق رقاب شعبها من اغلال وسلاسل الطغاة برغم وعورة الطريق , فمما يؤسف له حقاً ان تحظى بلادنا بمثل هذا النبض الثوري الصادق من قلوب هؤلاء الشباب , في الوقت الذي لا يجد فيه هؤلاء الشباب قيادة حقيقية , تدير و تترجم طاقاتهم المهدرة الى فعل وطني يعجّل برحيل الطغمة الاخوانية , فاصبحت هذه الاجيال المعاصرة كالحيّة التي قطعت رأسها , فلم يتحقق تواصل هذه الاجيال الحاضرة مع تلك التي مضت وسلفت ؟ , ولا ادري هل هذا التواصل يكمن حصراً في اجيال الفن والغناء دون عالم السياسة وشئون الحكم , اذ تجد تعاضد وتماسك مسيرة اجيال الفن و الغناء , منذ حقيبة الفن الى برنامج عمنا السر قدور متعه الله بالصحة و العافية , وتندهش لعدم وجود ذلك النسق في دنيا السياسة , ان انقطاع المد و الموروث الثوري السياسي عن اولادنا وبناتنا , له دلالة قوية على فشل القيادات الكهنوتية التقليدية لاحزابنا السياسية , الامر الذي تسبب بصورة مباشرة في انتاج هذه الحالة من القطيعة والفصام الذي حدث بين هاتين الشريحتين من جيلي الماضي و الحاضر.
هنالك مقالة نشرت قبل ايام قلائل للبروفسور الاستاذ الطيب زين العابدين , حث فيها الشباب لاستلام دفة قيادة العمل السياسي , والطيب ينتمي الى جيل الصف الثاني في حزبه حسب اعتقادي , لحركة الاسلام السياسي والحركة الوطنية اجمالاً , وله مواقف مناهضة لرفقاء دربه من الاخوانيين , ويعتبر من اوائل المفارقين لصف جماعته , فعندما يأتي مثل هكذا توجيه من رجل مثله , يعتبر اعتراف و في ذات الوقت اعتذار ضمني من جيل باكمله يمثله هذا البروف مقدم لجيل اليوم , عن فشل و اخفاق جيلهم في ايصال قافلة الديمقراطية و الحكم الرشيد الى بر الامان , وبذلك يكون قد مارس النقد الذاتي و آثر الترجل لترك المجال للذين تجري في عروقهم الدماء الحارة من ابنائه واحفاده لتولي زمام امر وطنهم , لعلمه ويقينه التام ان ايقاع العمل الوطني قد اختل , بسبب تمترس وتمسك ديناصورات الاحزاب و التنظيمات السياسية السودانية بقيادة وريادة هذه الكيانات , فلا اظن ان اللياقة الذهنية و البدينة و الزمنية , قد تؤهل امثال الاعمام صديق يوسف و الخطيب وفاروق ابو عيسى , وامين مكي مدني و الصادق المهدي و الميرغني , لادارة هذه اللحظة الحاضرة والمفصلية من تاريخ الامة السودانية , فتطلعات القائد يجب ان تتطابق مع تطلعات الذين هم تحت قيادته , وبالضرورة ان ترتبط هذه التطلعات بالفئة العمرية للقائد و المقود , فلا يمكن لهؤلاء القادة المعمرون الذين ابصروا النور في ثلاثينيات القرن الماضي , ان يستشعروا آمال و اشواق من وفدوا الى الحياة في مطلع الالفية الثالثة , والدليل على زعمنا هذا , هو هذه الحالة الفصامية الجارية الان ما بين كهول الامس و شباب اليوم.
سوف تتولد قيادة جديدة شابة وناضجة , بحكم تصاريف الحياة و طبيعة الاشياء والاحياء , كما حدث في الجارة اثيوبيا التي عبرت الى مرحلة جديدة من تاريخها , واصبحت دولة تحكمها مؤسسات تأتمر بأمر شعبها , بعد ان عانت من وعثاء طريق شائك بالغام الفرقة و الجهوية والمناطقية , فهي اليوم تقدم لنا مثالاً حياً في التداول السلمي للسلطة , الذي تمت فيه عملية استلام جيل الشباب لمقاليد امور وطنه , وقيامه برصف البنى التحتية الشاملة للنهضة الاثيوبية , فيبدوا ان انتقال هذه العدوى الطيبة حتمي الحدوث في منطقة القرن الافريقي , ومما لا شك فيه ان عاصفة وموجة التغيير هذه ستجتاح جماعة الهوس الديني الاخوانية وتقتلع جذورها من بلاد السودان , فالسؤال المكرور ما هو البديل , جوابه البديهي و المنطقي ان البديل هو جيل باكمله , وذلك بعد ازاحة جيل الذين هرموا و داهمهم خريف العمر , من جميع مواقع و مراكز القرار , سواء كانت هذه المواقع و المراكز في هياكل احزباهم , ام في منظمات المجتمع المدني , وهذه هي سنة الله , ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com