حينما يختل الرأس يفقد الجسم توازنه كحال سودان اليوم، الذي فقد توازنه محلياً وإقليمياً ودولياً، وساءت سمعته وبلغت السقوط بسبب اختلال وتخبط رأس الدولة وزمرته، ويكفي اتِّهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتشريده لشعبه، ومُلازَمة هذه التهم لشخصه أين ما رحل وارتحل. فالبشير، شئنا أم أبينا هو رئيس السودان ويسيطر على مجريات أموره وتسييرها كيف شاء ومتى أراد، بغض النظر عن اغتصابه للسلطة وقفزه على الحكم من ظهر دبابة، أو تخصصه فى التضليل وتزوير الانتخابات، أو براعته فى قمع الشعب وتجويعه وإذلاله.
لم تعد هذه المُسلَّمات بحاجة لعرض وتوضيح لأنها معلومة للقاصي والداني، داخل وخارج السودان، وإنما المدهش والمؤلم في آنٍ واحد، كيف لبلدٍ عريقٍ كالسودان انطلقت منه مجموعة حضارات إنسانية، وحباه الله بموارد بشرية وطبيعية عديدة وموقع جغرافي استراتيجي، وكان سباقاً في تفجير الثورات وإشاعة العلوم والمعارف عبر أبنائه المستنيرين في كافة أرجاء العالم، وفي مُختلف المجالات الأكاديمية والمهنية، كيف لبلدٍ بكل هذه المعطيات يستسلم للبشير وزمرته الفاسدة ليفعلوا ما يفعلون طوال هذه المدة؟ والبشير الذي نعنيه ليس فقط الفرد الذي يحكم ظاهرياً، وإنما المنظومة الأيدلوجية الإخوانية المتأسلمة، وفق ما أقر عرابهم المقبور وعقلهم المدبر الترابي، اذ قال أكثر من مرة أنه لا يعرف البشير أصلاً، إلا قبل أيام من تنفيذ انقلابهم في يونيو 1989، حيث احتاجوا لضابط جيش بمواصفات محددة انطبقت في البشير، وهذه إفادة وثقتها قناة الجزيرة في أكتوبر 2010, وتم بثها فى 2016 عقب هلاك الترابي (لأسبابٍ لا نعلمها). وهي تصريحاتٌ لها دلالات عديدة، إذ بدا الترابي متحسراً جداً بعد ما خانه البشير ومن معه من الفاسدين، واستفرادهم بخيرات البلاد ومواردها وتجاهلهم لعرابهم وتحجيمه سلطوياً ومالياً، وهذا هو ديدن المتأسلمين حيث يجري الغدر والجبن في دمائهم، سواء مع الآخرين أو في ما بينهم، وحرصهم الكبير على الحياة وملذاتها.
وبقدر إجرام البشير وبطشه وصلفه الظاهري الماثل، إلا أنه يحيا الآن أضعف حالاته تبعاً لتخبطاته يُمنةً ويُسرى، على نحو هرولته الاخيرة لروسيا وانبطاحه المشين لرئيسها، بطريقة أهدرت كرامة وسمعة السودان وأهله، وأحرجت وأربكت مضيفه بوتين، الذي اضطر للابتسام بضيق من هول المفاجاة التي لم تخطر على باله، إذ لم يشهد التاريخ أن رئيساً طلب الحماية من رئيسٍ آخر وعلى الهواء مباشرة، وبأسلوبٍ وعباراتٍ مهينة ومنكسرة، في منظر أشبه بعضو مافيا يجلس بإحدى الحانات ويستجدي حماية رفيقه الأقوى (بمقابل)! ولعل في ما فعله البشير بمنتجع سوتشي كان إشارة واضحة وقوية لعجزه عن إدارة ذاته، وحتمية رحيله العاجل غير مأسوفاً عليه، ولكن الى أين سيتجه؟؟ والأهم من ذلك، متى سينتفض شعبنا السوداني الأبي كما فعلت بقية الشعوب القريبة، والتي كان حالها أحسن بكثير من أحوالنا البائسة التي نحياها الآن. ومن ذلك ما فعله أخوتنا أحفاد الثائر سانكارا ببوركينافاسو الذين اقتلعوا الديكتاتور كمباوري بثورةٍ عارمةٍ لم تستغرق أكثر من ثلاثة أيام، وأنهوا حكماً استبدادياً استمر 27 سنة، وقبلهم فعلها التونسيون مرتين!
تمنينا أن يفعلها ما تبقى من شرفاء القوات المسلحة، كما فعلها رصفائهم الزيمبابويين، حين اجبروا الدكتاتور العجوز روبرت موغابي على ترك السلطة، بعدما عاث وأسرته وعصابته فساداً فى زيمبابوي لمدة 33 سنة. مع ملاحظة، أن موغابي من الداعمين للبشير هو وصديقه جاكوب زوما، ولولا تواطؤهما في قمة الاتحاد الأفريقي يونيو 2015 لواجه البشير مصيره المحتوم فى لاهاي، حيث قاما بتهريبه من جوهانسبيرغ بحجة أن محكمة الجنايات الدولية سيف مسلول على رقاب الأفارقة فقط، وجعلوا من البشير بطلاً رغم إجرامه السافر ضد مواطنيه، واعطوه الضوء الأخضر لارتكاب المزيد من الانتهاكات. وقبلها هرب البشير من قمة الاتحاد الأفريقي بنيجيريا عام 2013، بطريقةٍ دراماتيكية إلا أن حادثة جوهانسبيرغ هي الأقوى، قياساً بتكاليفها الباهظة على خزينة الدولة والتي بلغت ملايين الدولارات، لإيجار الطائرات الحربية لحماية طائرة البشير، الذي ما أن عاد للسودان إلا وعلا صراخه وأعوانه، وجعلوا من هروبه المشين والمكلف نصرٌ مبين.
نحن بحاجة للتساؤل عن النهاية التي يريدها البشير، في ضوء ما فعله وزمرته بالسودان وقياساً بما جرى حولنا من ثورات وتغييرات كبيرة في عددٍ من الدول، سواء على الصعيد الإقليمي القريب أو الدولي الكبير. وهذا تساؤل هام جداً ليس فقط بالنسبة للبشير وازلامه، وإنما لجميع السودانيين خاصة الشباب، ومن الأهمية وجود إجابة واضحة وصريحة على هذا التساؤل، وهذا سيقودنا لقراءة بعض مراحل التاريخ الإنساني المعاصر، والوقوف على نهايات الطواغيت والديكتاتوريين الذين اخترنا نماذجاً منهم، لترجيح احتمالات مآل البشير وفق تلك المعطيات. وفي هذا الإطار، نتوقف على سبيل المثال وليس الحصر، في نهاية النازي أدولف هتلر الذى حكم ألمانيا 12 عاماً، وكان شجاعاً حينما تناول مادة السيانيد السامة التى ساعدته على الانتحار قبل أن يطلق النار على راْسه، طاوياً صفحته بنفسه إلى الأبد، حسب أقوى الروايات! ولكن البشير لا يملك الشجاعة الكافية للانتحار، وسيتعلل بأنه حرام، وسيقوده لجهنم مع فرعون وهامان والفاسقين والخونة، رغم أنه يفوقهم فسوقاً وفجوراً. ومن بين الطغاة، الجنرال أوغستو خوسيه رامون بينوشيه، الذي اغتصب السلطة في شيلي بانقلاب عسكرى من رئيس منتخب من شعبة ثم قتله، وهو من أسوأ الانقلابات العسكرية فى العالم، وتخصص في الاغتيالات السياسية وإخفاء معارضيه وتعذيب وقتل شعبه وتشريده، وخطط لوضع دستور يجعله حاكماً للبلاد طوال حياته، وكان عدواً للمفكرين والكتاب والصحفيين والطلاب كما هو الحال مع البشير، ورغم هذا الصلف والجبروت لقي نهاية تليق به وبأمثاله داخل زنزانته، بعدما رفضت بريطانيا طلب لجوئه وأعادته لبلاده، ليُحاكم فى بلاغات متعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان.
وهناك الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش، الذى أدين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وانتهى به المقام بزنزانة فى محكمة الجنايات الدولية، ثم وجد ميتاً فى العام 2006! وربما يرغب البشير في نهاية ملك ملوك أفريقيا، معمر القذافي، الذى حكم الليبيين لأكثر من 40 سنة، فى أطول فترة شهدتها المنطقة والعالم، صال فيها وجال مفتخراً ومتبختراً، حتى أتاه اليقين، وطويت صفحة تاريخه الحافل بالإثارة والمغامرات إلى الأبد، باستقرار طلقات في رأسه، بعدما أخرجوه من إحدى أنابيب الصرف وهو الذي وصف شعبه بالجرذان! وقد يريدها البشير نهاية بالنسخة الحوثية الصالحية اليمنية، حينما قتل الحوثيون علي عبد الله صالح الذي حكم اليمنيين لأكثر من ثلاثة عقود، وهو المعروف بالدهاء ونهب ثروات البلاد ونقض العهود، والسعي يمنةً ويسرى دون اخلاق أو مبدأ، كحال بشيرنا المتجبر.
سردنا هذه النماذج من مختلف أرجاء العالم لتشابه هؤلاء القادة فى الكثير من الصفات، كما أردنا تذكير المؤمنين بما ينفعهم، والأسباب تتعدد والموت واحد، بغض النظر عن الطريقة سواء كانت انتحاراً أو مغسة وحزن بإحدى الزنازين التي طالما أدخل الشرفاء فيها، أو بطلقة أحد المرتزقة والمأجورين والمستجلبين الذين يملأون البلاد، وأدخلوا السودان – بأفعالهم وممارساتهم الإجرامية – في قائمة الدول الراعية للارهاب، والدول الفاشلة والأكثر فساداً. وهنا يحضرني اسحق أحمد فضل الله، راعي أهازيج الكذب والنفاق التي طغت على بدايات البشير، على شاكلة: مالي أراك تكرهين الجنة قد طالما قد كنت مطمئنة، ويا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت، ولا لدنيا قد عملنا، والذي اختصاه المولي عز وجل بعلم الغيب والخوارق، مما ساعده في اختيار شهداء الدرجة الأولى مثل أحمد محجوب حاج نور ومحمود شريف ومصطفي الطيب على وعبيد ختم وياسر كرم الله، وسيد الدبابين على عبد الفتاح، الذى يفجر دبابات العدو (أشقائنا الجنوبيين) بحجارة يرميها بيديه المباركتين. بجانب معرفة اسحق الخارقة بأصحاب الحظوة – وفق المعايير الكيزانية – ونوايا اعتزامهم الجهاد، وكيفية قضائهم لحاجاتهم وتطهرهم وتلاوتهم للقرآن وصلاتهم وصيامهم، وقيامهم لليل وإكرامهم لزوجاتهم ووفائهم وطاعتهم لرؤسائهم …. و….الخ، وفقاً لتوثيقات برنامجه (فى ساحات الفداء).
تذكرت اسحاقاً هذا، لتخصصه الاستثنائي في معرفة أحلام الشهداء وملاطفتهم للطير الأبابيل التى تقاتل فى صفوفهم وتكشف لهم عن أماكن وجود الألغام الأرضيّة، وحواراتهم مع ملائكة الرحمن والصحابة الذين يرتدون عمامتهم بالطريقة السودانية، لعله يتصدق ويتلطف على (مشيره) البشير ويعينه في معرفة النهاية التي تنتظره من بين النهايات أعلاه، وليساعدع في اختيار الأخف منها لطفاً ورحمةً به. وتمشياً مع مقولة (المرء مع من يحب)، فليت اسحاقاً يرافق بشيره أيضاً، ويحظون معاً بالسعادة والقصور والحور و(الولدان).