صلاح شعيب
برغم أولوية تفاوض قوى الحرية والتغيير مع المجلس العسكري فإن مفاوضاتها مع طرف من الجبهة الثورية في العاصمة الإثيوبية تتكامل من أجل تمهيد الطريق لانتقال سلس للسلطة. فالمساران اللذان يضبطان تفاوضات القوى الثورية الآن ضروريان لإيجاد الحكمة وسط الجدل المعني بأزمات الحكم السوداني.
فمن ناحية يقوم تفاوض هذه القوى مع المجلس العسكري على ضرورة التسليم الكامل بمدنية السلطة الكاملة حتى تعاد هيكلة كل مؤسسات الدولة تمهيدا للتداول السلمي للسلطة بعد الانتخابات. ومن ناحية أخرى يقوم حوار أديس أبابا على ضرورة وضع السلاح أرضا للبحث عن فرص السلم والأمن التي توقف إراقة الدماء، وتعمر الدمار، وتزرع الأمل في نفوس السودانيين.
كل ما تقدم يعد من الرؤى النظرية التي اعتمدتها قوى الحرية في حراكها المحلي والإقليمي. ولكن عند التطبيق تنهض أسئلة كثيرة حول مفاوضات قوى الحرية والتغيير في العاصمتين المنهكتين بأشغال النخبة السودانية. وبعيدا عن التسريبات الصحفية المفخخة حول هذه المفاوضات فإن المجلس العسكري ما يزال يطرح نفسه مشرعا، وشريكا في ما هو عمل مدني لا يدركه إلا مدنيون.
فإذا كانت أمور القوات المسلحة تخص الجيش، ولكنها لا تتم بمعزل عن رؤى ممثلي الشعب المعترف بهم فإن الأمور المدنية ينبغي ألا تكون محل تدخل من المجلس. وبناء على الاتفاق الذي وقع فإن المجلس العسكري سلب قوى الحرية والتغيير حقها من التقرير بشأن الجيش، ومليشيا الدعم السريع، وجهاز الأمن، والشرطة، وبهذا المستوى فإن المجلس التشريعي المقترح لن تتاح له الفرصة للتداول حول هذا الامر وإلا تصاعد التشاكس بين العسكريين والمدنيين، والذي ينعكس سلبا على المرحلة.
وهذا الموقف العسكري الرافض لحق المدنيين في معالجة أزمات المؤسسة العسكرية، ولواحقها من بؤر نظامية مشكل حولها، يعزز وجود فلول النظام داخل مؤسسات الدولة، ويهدد استقرارها، ووسط هولاء النظاميين انفسهم المتورطون في جرائم التعذيب، والحرب، وانتهاكات حقوق الإنسان المتعددة. فمثلما قنن البشير مليشيا موسى هلال عبر قوات المراحيل، ومليشيا حميدتي عبر الدعم السريع، فإن المجلس العسكري يقنن الآن دورا جديدا لمليشيا حميدتي عبر ربطها بالقوات المسلحة لتسهم في القرار المدني.
هذا يعني – انطلاقا من بنود الاتفاق – أن المجلس العسكري سيكون مسؤولا وحده عن شؤون الدفاع والأمن. وفي ذات الوقت لديه نصف السلطة السيادية، بجانب أحقية اعتماد، أو عدم اعتماد، ما تراه قوى الحرية والتغيير من قرارات، وترشيحات للمناصب القيادية في الدولة. بل ربما تفرز المرحلة الانتقالية المزيد من تغولات المجلس العسكري، خصوصا في المسائل الداخلية المتصلة باجراءات قضائية، وكذا المسائل الخارجية المتعلقة بعلاقات السودان الدبلوماسية، والتي لا بد أن تقوم على المصلحة التي يراها وزير الخارجية.
بالنسبة لمفاوضات أديس أبابا فإن من المعروف أن الحركات المسلحة الممثلة هناك في الطاولة هي جزء من قوى الحرية والتغيير، وبالتالي فإن هذه المفاوضات ادعى للتوصل إلى اتفاق مرض، وبناء، خصوصا أنه ليس هناك عداء بين الطرفين. بل إن من المصلحة تقديمهما تنازلات هنا وهناك لضرورات تقدير النخبة مسؤوليتها التاريخية، خصوصا أن رؤية الناس، وتحديدا الشباب، تجاه القادة السياسيين في الثلاثين عاما الماضية شابها ضيم عظيم، وذلك ما جعلهم يمنحون تجمع المهنيين السودانيين مصداقية قومية تفتقدها كل قوانا السياسية حتى الآن.
القوى الممثلة في مفاوضات العاصمة الإثيوبية – بصرف النظر عن انتماءاتهم – يمثلون النخبة السياسية التي تجاوز غالب أفرادها الخمسين عاما، وبالتالي يمثلون جيلا أتت بعده اجيال لعبت دورا في تقديم تضحيات لتفجير الثورة، وايضا حراسة رمزيتها عبر الاعتصام، والتظاهرات التي أعقبت فضه.
وقد تجاوز هذا السواد الأعظم كل إكليشيهات المشهد السياسي للنخبة المتصارعة حول أجندات آيديولوجية، وجهوية، وشخصية، وتوحد حول الشعور بالمفاهيم السودانوية. وما يزال الجيل الذي حمل عب التظاهر قادرا على تقديم المزيد من التضحيات متى ما عجزت نخبنا السياسية تقدير الموقف، والتوافق وسطها، لإنجاز حلم الشباب بأن يجد وطنا للديموقراطية، والسلام، والمساواة، والتنمية، والتقدم، والتسامح، إلخ.
ولذلك فإن مفاوضي الخرطوم، وأديس أبابا، ينبغي أن يضعوا في الحسبان أن جيل الشباب من الجنسين هو الذي ظل يقدم أرواحه في النضال الثوري السلمي والمسلح، وحتى إن تم إقصاؤه من طاولة المفاوضات فإنه من الواجب أن يجد ثمرة في تفاهمات النخب الثورية التي سيطرت على المشهد الآن.
إن من الواجب الحتمي أن يرتقي قادة الحرية والتغيير لمستوى التضحيات التي قدمها الشباب في ميدان الحرب، وساحات المدن، والاستجابة الإيجابية للتحديات المحيطة بالبلاد، وتقديم مصلحة استقرار البلاد في ظل السعي الحثيث لفلول الإسلام السياسي لتفجير الوضع. هذه فرصة جديدة للنخب السودانية ان تعمل بتوافق لتنفيذ أحلام شعبها، وما أكثر الفرص الضائعة منذ الاستقلال وكانت كلفتها ضياع الملايين من الأرواح، وتدمير فاعلية جهاز الدولة، وهجرة الملايين من الخبرات المميزة في كل حقول العمل.