بقلم عثمان نواى
تم استخدام الدين في السودان كالية سياسية للدمج وصناعة خطاب سياسي موحد للمجتمعات السودانية المتفرقة منذ دخول العرب والمسلمين في شمال ووسط السودان وخاصة مع بداية الدولة السنارية قبل 5 قرون. حيث أن القبائل العربية التي دخلت البلاد نفسها لم يكن هناك ما يمكن أن يوحدها مع بعضها علي أرضية واحدة اي عامل مشترك اقوي من الدين. لذلك كانت الطرق الصوفية والقيادات القبلية تتقاسم السلطة بين سلطة تشريعية مقدسة للشيوخ الدينيين وسلطة تنفيذية لشيخ القبيلة. في الوقت الذي لاحظ فيه محمد إبراهيم ابو سليم أن كلمة شيخ نفسها في المجتمع السوداني لها رمزيتها العالية المرتبطة بكلا السلطتين معا، اي السلطة الروحية الدينية التشريعية والسلطة التنفيذية. ولذلك فإنه في بعض الأحيان اختلطت البيوتات الصوفية وأصبحت هي أيضا القيادات القبلية. وبذلك أصبح هناك شكل من الاندماج بين السلطتين بشكل كبير، وفي اغلب الاحيان كانت سلطات شيوخ القبائل وشيوخ الصوفية هي مكملة لبعضها كما ذكرنا في شكل التشريع والسلطة الروحية التي تدعم سلطان القيادة القبلية.
هذه التركيبة السودانية المعقدة فهمها جيدا المستعمرون للدولة السودانية سواء الأتراك أو بعدهم الإنجليز. ولذلك انجزوا مهمات التمكين لذات هذه السلطات لكي تصبح هي آليات الحكم التقليدية الحاكمة للسودان المسلم في الشمال والوسط وبعض من الغرب المسلم أيضا. ولذلك فإن قيام الدولة الدينية وخاصة الدولة المهدية لم تكن ابدا شيئا غريبا على المجتمع السوداني المحكوم اصلا بمرجعيات الصوفية والقبلية. وكانت الأرضية جاهزة لتقبل كل احلام المهدي المنتظر التي لا تختلف كثيرا عن كل الرؤى التي يحكيها شيوخ الصوفية عن لقائهم بالرسول في المنام وعن صلاحهم المطلق وكراماتهم الخارقة. وكانت الدولة المهدية لا تعدو أن تكون مشروع أكثر طموحا من الطرق الصوفية التي كانت تنحصر في مناطق جغرافية وقبلية معينة. حيث استشعر المهدي إمكانيات التوسع وتوحيد الشتات القبلي عبر دعوة إلى دولة دينية اسلامية تجمع داخلها القبائل المتفرقة والطرق الصوفية المتعددة. ولهذا لم يكن من المستغرب عداء الطرق الصوفية وبعض قيادات القبائل للمهدية ورفضها لها خاصة في الشمال والوسط لأنها كنت تهدد سلطاتهم الطبيعية المتوارثة بهذا الطرح التوحيدي الجديد الذي كان سيحد من سيطرتهم. ولكن الدولة المهدية لم تكن تقدم أي جديد في إطار توحيد الدولة السودانية لكل مكوناتها خاصة تلك غير المسلمة وغير العربية بل وحتى المسلمة نفسها. لأن آليات الحكم المطروحة هي استخدام الدين وذات أساليب الصوفية في التجييش بناءا علي القداسة الروحية والترهيب والتخويف من العذاب والنقدية الإلهية، مع صناعة التحالف مع قيادات القبائل واستخدام القوة أحيانا ، ولذلك لم تكن الدولة المهدية سوى توسع جغرافي لممارسة الحكم عن طريق الدين التي كانت موجودة اصلا في أطر قبلية متفرقة داخل السودان. ولهذا كانت هي تجربة مؤسسة لإقامة دولة دينية ثيوقراطية منظمة في السودان، علي طراز دولة الملالي الان في إيران، هذا اذا كان كتب لها الصمود، وهذا ما لم يحدث.
وكانت الطائفية سواء الختمية التي سبقت طائفة الأنصار بوقت طويل، هي تجربة توسع أيضا في ممارسة السلطة الدينية في إبعاد جغرافية أوسع من التي مارستها فيها الطرق الصوفية، وجمعت طائفة الختمية ومن بعد ذلك طائفة الأنصار مجموعات وقبائل عدة بشكل يفوق اي طريقة صوفية واحدة . ولذلك كان لها فيما بعد دورها الأكثر فعالية وتأثير في مواصلة محالاوت إقامة دولة دينية في السودان، وذلك باعتبار أن الحفاظ على هذه السيطرة الواسعة للطائفية وعلي قوتها لا يمكن أن يأتي سوى من التأكد من أن الدين سيظل دوما محدد رئيس لشكل الدولة وأسلوب الحكم في السودان.
وبعد أن أتى الاستعمار واصبح لدي السودانيين فرصة لصناعة دولة حديثة في عملية التحرر من الاستعمار، فشلت النخب الأولي من الخريجين في الخروج من قوالب الدولة الدينية المبنية على أسس علاقات الصوفية والقبلية والطائفية. وهذا الفشل لم يكن فقط ناتج عن تحديات المرحلة كما يذهب بعض المحللين. ولكن لأن الخيار الأسهل كان إن تبقي أسس الحكم والسلطة في السودان كما هي، أن تبقي معتمدة بشكل كبير على هذه المرجعية الدينية التي تم النظر إليها من قبل الخريجين أو الأفندية الذين صنعوا الاستقلال بأنها ربما هي ماعون أوسع من الانتماء القبلي. حيث انقسم السودان في الشمال والشرق والوسط وبعض مناطق غرب السودان بين الانتماء لطائفتي الختمية اوالانصار. ويبدو أنه كان أقل كلفة سياسيا وفكريا لتلك النخب الأولي أن تتعامل مع طائفتين بدلا من أن تتعامل مع عشرات القبائل. ولذلك يبدو أن هذه النخب اختارت التخلص من صداع القبلية وازماتها في شمال ووسط السودان عبر التعامل مع الشعب السوادني علي اساس انه اما ختمية أو أنصار وبعض العمال والفلاحين والمثقفين كفئات ليس لها أي وزن في الدولة الناشئة وقتها. أما بقية السودان الغير عربي وغير مسلم فهو كان خارج الحسابات وخارج الصورة تماما.
فكما كان المستعمر يتعامل مع مناطق الجنوب وجبال النوبة على أنها مناطق مقفولة، فقد تعامل معها القادة السودانيون الأفندية علي انها مناطق (مكفولة). أي أنها مناطق فقط تقع تحت كفالتهم ووصايتهم، هذه الوصاية التي جعلتهم يعتقدون أن لهم الحق في التحكم وتغيير كل شيء هناك مثلما فعل المستعمر مع هؤلاء الأفندية أنفسهم عبر وضعهم في داخليات وتحويلهم الي أشباه متعلمين كما وصفهم بعض الحكام الإنجليز . فكما انتقل معظمهم من لبس السروال ابو تكة الي لبس البدلة والكرفتة، عبر القمع والضغط والاجبار من قبل المستعمر، اعتقد هؤلاء انهم قادرون أيضا على فرض اللغة العربية والإسلام علي اهل المناطق (المكفولة) وتحويلهم وتطويعهم وتعريبهم واسلمتهم في سنوات ،بنيكفس أساليب المستعمر . وهذا ما قاله المحجوب الذي كتب جازما أن الجنوب يتحرك حثيثا نحو الإسلام ،معبرا عن جهل بالواقع وآمال لم تتحقق ابدا . وللأسف أن مشروع التعريب والأسلمة هذا كان عنيفا وقاسيا وفاشلا، لأن من نفذوه كانوا أيضا يحملون احتقار للسكان من تلك المناطق لأن ذاكرتهم المرتبطة بتاريخ الرق جعلتهم ينظرون لهم بقدر كبير من الدونية، الأمر الذي أتي بنتائج عكسية أدت إلى مقاومة مستمرة منذ الاستقلال والي الان لهذا المشروع القسرى للدمج والأسلمة والتعريب. هذا الاختيار والاستستهال من قبل الافندية لم يكن فقط بسبب حسن النوايا ولكن أيضا بسبب اختيار واعي لتمكين وتثبيت أسس السلطة وتقاليد الحكم في السودان المعتمدة على الدين ومن بعد ذلك العروبة، حتي يكون هناك تواصل لاحتكار السلطة لذات المجموعات الحاكمة منذ الدولة السنارية.
لم تتوقف ابدا ممارسة الحلم بمشروع الدولة الدينية فقد كان الصراع حول الدستور الإسلامي بعد ثورة أكتوبر أكبر دليل على إصرار أصحاب المشروع على تطبيقه والحفاظ على مواقعهم التاريخية. ولكن ظهر الإخوان المسلمون في تلك الفترة ليصبح هناك مثلث جديد لداعمي الدولة الدينية يتكون من الطائفية والصوفية والإخوان المسلمين. حيث تعتمد الطائفية والصوفية علي القواعد التقليدية الداعمة لها في القيادات القبلية بينما وجد الإخوان المسلمين مكانهم بين القوى الحديثة المتعلمة التي هي نفسها لم تتخلص ابدا من ارتباطاتها النفسية والعقدية بخلفيات القبيلة والصوفية. ورغم ادعاء مشروع الإخوان التجديد الديني لكنه لم يجدد في أي شي في الواقع. فقد قام بإعادة تدوير كل المفاهيم والآليات التي استخدمتها الصوفية والطائفية مع بعض الاستفادة من تجارب العمل السياسي لليسار.
وبعد 100 عام على الدولة الدينية الأولى في السودان اي المهدية. قامت الدولة الدينية الثانية على يد شيخ أيضا ولكنه شيخ ليس خريج خلاوي الصوفية فقط كما كان المهدي الاول ولكنه خريج من السوربون ولكنه لازال شيخا كامل الدسم بكل صفات التقديس والرؤى التي يزوره فيها النبي هو وأتباعه. وقد تحلق حول الشيخ بدلا عن الدراويش المجاهدين والدبابين. حيث كما تستعرض المهدية بطولاتها في كررى بوضع بعضهم رؤوسهم في المدفع، كذلك يفخر دبابين الترابي بتفجير الدبابات برمي أنفسهم عليها. وبهذا يكرر السودان ذات التجربة بتفاصيل وعناوين جديدة في محاولة دونكوشيتية أخرى لإقامة الدولة الدينية.
وكما تمت مقاومة المهدية تجرى مقاومة الكيزان من البعض من الشمال والوسط ومعظم المناطق الغير مسلمة وغير عربية. وكما ارتكبت المهدية أبشع المجازر في جبال النوبة كذلك فعل الكيزان، وكما واصل الأنصار تجارة الرقيق كذلك وظف الكيزان العنصرية كالية حكم حتي وصلوا إلى أقصى درجاتها وهي الإبادة الجماعية. هذا التوافق الهيكلي والتنظيم وهذا التواصل للأرث من المهدية كان له دوما تجليات من خلال العلاقة الحميمة بين الإخوان المسلمين والصادق المهدي الذي لا تربطه بالترابي (مهدي القرن الواحد وعشرين) فقط علاقة نسب، بل تربطه به علاقة التوافق الفكرى والتحالف على المستوى السياسي المعلن والخافي، ولا يخفي أن الصادق فشل فيما فيما نجح فيه الترابي، وهو إقامة دولة دينية، ولهذا نرى هذا التناقض بين القرب والبعد بين الصادق والنظام الحاكم فهو كان يتمنى أن يكون هو من يقيم الدولة الإسلامية الثانية وراثة لجده وليس الترابي . حيث كان الرجلين حليفين كما ذكرنا بعد ثورة أكتوبر، وكان طرح الدستور الإسلامي احد اهم اسباب اشتعال حرب الجنوب، والتي تمكن الترابي من إيصالها لمنتهاها بالتخلص نهائيا من صداع هؤلاء غير المسلمين الذين يهددون حلم دولته الدينية. الرجلان أيضا تحالفا في عهد نميرى إبان تجربة المرتزقة المعروفة ثم عادا للتحالف بعد ثورة أبريل حتي ان الترابي والإخوان كانوا في عدد من المناصب العليا والوزارية في حكومة الصادق مما سهل عليهم بالتأكيد القيام بانقلابهم أو ثورتهم الدينية في 1989.
ان إقامة دولة دينية أو على أقل تقدير بقاء الدين كمحرك رئيس للدولة السودانية وتوازنات السلطة فيها هو واقع تاريخي معاش لا يمكن إنكاره. بل يكاد موضوع الدين ودوره هو الموضوع الذي شغل معظم صراعات السلطة في السودان منذ الاستقلال. الازمة في مسألة علاقة الدين بالدولة ليست في إنهاء العلاقة أو عدم وجود الدين كعامل ثقافي وعامل ربما يوحد بعض المجموعات في الشعب، الأزمة هي في استخدام الدين ليس كعامل توحيد بل كالية هيمنة. حيث أن توارث الطائفية والصوفية للسلطة الدينية والسياسية جعل الدين هو ايدلوجيا الخطاب السياسي المسيطر المفروضة على الشعب السوداني ما دامت هذه المجموعات في السلطة. ولكي تحافظ هي علي سلطاتها تصر على بقاء الدين لاعبا أساسيا في تحديد شكل الدولة السودانية واسلوب حكمها. وهذا ليس حرصا على هوية أو ثقافة السودانيين ولو حتى في الشمال والوسط المسلم، بل يتم استخدام الدين للتمكين لهذه البيوتات والمجموعات من الاستمرار في واجبها الذي هي تعتقد أنه واجب مقدس ومنح إلهية في أن يكونوا حكاما ابديين للشعب السوداني. هذه الإبدية والقداسة هي المعركة التي يجب خوضها بشراسة ضد تجار الدين جميعا وليس فقط الكيزان، بل كل من استخدام الدين في محاولة حكم السودان من طائفية الي قيادات صوفية او قبلية وغيرهم ، وليس ضد الدين نفسه ولا المتدينين. حيث أن الأديان تم استخدامها من قبل شعوب عديدة كاليات لصناعة قيم عليا وعوامل توحيد للمجتمعات. ففي الهند مثلا كانت حركة غاندي معتمدة على تعاليم هندوسية لكنها كانت تستخدم الدين كقيم أخلاقية وليس كسلطة تجييش وقمع. في أمريكا أيضا لم يكن لحركة الحقوق المدنية والسود أن يصلوا إلى ما وصلوا اليه دون دور المسيحية كقيم أخلاقية استطاع استخدامها مارتن لوثر كينج لاحراج المسيحيين البيض من داخل قيم الدين المسيحي التي تنبذ التفرقة. كذلك دولة مثل مصر لم يكن لها الصمود دون دور الأزهر والكنيسة معا في وضع الدين كوسيلة توحيد المصريين حول مصريتهم وليس حول اديانهم.
ولذلك فإن استخدام الدين ومحاولة إقامة دولة دينية في السودان سيظل مشروع قمعي دموى وفاشل، وقد حان الوقت لكي يعترف أصحاب هذه الأحلام من المهدويين الجدد والقدامي ووصولا الي الكيزان بفشلهم، وعلى الطوائف والطرق الصوفية والقبائل العودة إلى ثكناتها والخروج من لعبة السياسة في السودان. لأن تنوع السودان هو واقع لا يمكن أبدا إنكاره، كما أن الدولة السودانية إذا اريد لها أن تكون فلن يكون من المقبول ابدا بعد الآن للشيوخ المتوهمين أن يكونوا قادة لها في عصر التكنولوجيا والدي أن أي الذي يمكن أن يثبت ببساطة أن لا أحد من هؤلاء مدعين النسب الشريف هم حقيقة أحفاد بيت النبي، فلا قداسة بعد الآن يمكن أن تحكم السودان، فقط القانون، العدالة والمواطنة، والا فإن المصير هو الجحيم على أرض السودان ولن يملك احد صكوك غفران يبيعها ليغش بها الناس بعد الآن .
[email protected]