مآخذ وتوضيحات حول تقرير ”قناة الجزيرة“ عن نكبة إنسان بليل، بعنوان: قرية أموري – ولاية جنوب دارفور، اعداد وصوت: نزار البقداوي!
• مقدمة تأسيسية:
في الإعلام ندرك تماماً أن “الأخبار والتقارير” وبقية الأشكال الصحفية، عندما تُلقى على طاولة التحرير، تصبح “أعمالاً مصنوعة، ومنتجات مقصودة الإنتاج وإعادة انتاج بطرائق معينة تخدم أهداف معلومة مسبقاً، ومواقف مُتخذة قبلاً، وتقع في ناصية “نوع سياسة التحرير للمؤسسة الصحفية/الإعلامية” هذه عن سواها، أو هذا الصحفيّ دون غيره.
ولكن يبقى أن ثمة مستوى من النزاهة والمهنية والمصداقية والشفافية والمسؤولية والموضوعية، لا بدّ أن يحاول كل مؤسسة صحفيّة تحريها، والعمل على إظهارها، السعي نحو تعزيزها في صناعة وإنتاج أعمالها الإعلامية والدعائية والترويجية، والإخبارية. وهكذا يبدو الوضع جدليّة وصراع بين “طبيعية” وجود مصالح وأهداف ومواقف ما لكل صحفيّ أو مؤسسة إعلاميّة وبين ضرورة تحري قيم ومباديء وأخلاقيات المهنة في أدنى تقديراتها على أقل تقدير. إنها وضعيّة الجدل بين وظيفية وقيميّة المؤسسة وأهدافها ومصالحها. جدليّة الاخلاق، والمهنية؛ الفكرة وصراعها مع موضوعيتها.
وندرك أيضًا أن للمفردة والكلمة المعينة دون غيرها لها قصديتها وهدفيتها، بل وسلطتها وسطوتها لدى المتلقى بعد المرسل، لذا نختار هذه دون الأخرى بعناية وحرص وحذر ايضاً، لأن الإعلام في عموميته سلاحاً ذو حدّين، يمكن أن يقتل دون ضجيج، ويمكن أن تحيّ وتنقذ علناً أو في إخفاء. ففي الإعلام “الكلمات والمفردات” ليست بريئة دوماً، وأن ما يحدث ليس مجرد “اختبار اعتباطي” لها، عندما نتبع سلطة هذه “الكلمة” دون تلك، ونختار هذا المصطلح دون سواه.
وبالتالي حيال سرديّة ما حدثَ على إنسان ومناطق وقرى محلية بليل بولاية جنوب دارفور مؤخراً، أي في الشهر المنصرم بالتحديد، وما حاول تقرير “قناة الجزيرة” المقصود، إقراره، وصناعته، ونقله، ونشره و”تنمطيه” لدى المتلقي بعد محرر وناقل الوقائع، نرغب في عجالة نقديّة معلنة، في توضيح بعض المآخذ و”ملاحظات سالبة” حملها التقرير، وحاولت القناة بثها بالصورة والصوت والترميز، وسياق وتزامنيّة ما. وستقوم ملاحظاتنا كلها على سرديّة المقدمة أعلاه.
• سرديّة المآخذ والملاحظات:
1. إن ما حدثَ ليس “…أحداث عنف قبليّ مسلّح..” هكذا ببساطة وعفوية وسطحيّة ساذجة كما يزعم التقرير، إنما هي “اعتداءات عنف هجوميّ مسلّح وممنهج” من طرف واحد على آخر في أرضه، وعرضه، وممتلكاته وخصوصياته وحضوره ووجوده وسياقه التاريخيّ. لماذا “أعتدءات ممنهجة وهجوميّة” لأن ثمة شواهد سبقت هذه “الإفعال الإجرامية الشنيعة الفظيعة”، بل هناك دلائل ملموسة، وسوابق عيانية في شكل “ممارسات هيكليّة” تشير إلى ما فعلتها تلك الجهات بإنسان وقرى محلية بليل.
ومن أهم الشواهد المسبقة: سوابق سرقات، ونهب من مجموعات بعينها، ومحاولة فرض سيطرة واستيطان بالعنف والقوة في أراضي هذا الإنسان، محاولة عمل نقاط عسكريّة لبعض الحركات المسلحة بالقوة والإصرار، محاولة خلق وفرض “إمارات إداريّة” لبعض الإثنيات والقبائل في المنطقة قسراً، ودون إرادة وقبول إنسان هذه الدار، فضلاً عن محاولة تتبع بعض مناطق وقرى المحلية لمحليات أخرى سياسياً وإدارياً، وغيرها الكثير من الشواهد والخطط المسبقة التي باءت بالفشل أو التراجع أو الانتكاسة في تنفيذها.
2. في الشريط الإعلامي الظاهر؛ “بليل: شهدت عنفاً قبلياً..”. إن ما وقع على إنسان تلك المناطق ليس “فعلاً قبلياً” بأي شكل وصورة ورمز، إنما وقعت “هجمات عنف وقتل وتهجير قسري وتشريد مقصودة” بأيدي مليشيات الجنجويد، ومجموعات من الدعم السريع كما ظهرت في الفيديوهات التي وثقت ونقلت الصورة، وأكد حميدتي على “محاسبة/معاقبة” كل المتوّرطين من قواته، ومجموعات مسلحة لها صلة بالدولة، ومجموعات وجماعات أثنية بعينها.
علماً أن الذي الحدث لا يمكن وصفه “بالقبليّ” إلا لمّا يتم الحدث بواسطة أطراف قبليّة وأثنية فيما بينها؛ أي تحدث حالة هجمات حرب وعنف وقتل من كلا الطرفين أو الأطراف. أي يحدث فعلاً بين قبيلة وأخرى حرباً دائرة، وتصادميّة، ولها ردات فعل بينهما عاجلاً أم آجلاً. ولكن أن تعتدي مجموعات مسلحة من قبيلة ما على أخرى، ومسنودة عينياً ومعنوياً ورمزياً من عدة جهات، وأهمها من قوات هي جزء من آلية عنف الدولة، يصبح الأمر ليس قبليّاً، بل أعتدى على طرف من طرف آخر هجومياً.
3. “… عما دار من اقتتال قبلي مسلّح بين قبيلتيّ الداجو والرزيقات…”. ما حدث على إنسان ومناطق وقرى محلية بليل، وما تزال آثاره البشعة والمروعة ليس أقل من “هجمات انتهاكات ممنهجة ومتعمدة” من قِبل مليشيات الجنجويد المعروفة ارتباطها القبليّ والثقافي والاثنيّ والمؤسسيّ بمجموعات أثنية بعينها.
لماذا لأنه معلوم تماماً أن إنسان محلية بليل بالتحديد، ليس من المجموعات الثقافية والاجتماعية والاثنية التي لها أي سوابق وعقليّة “هجوم واعتداء وانتهاك ممنهج مدبر بالجماعة ومؤسسياً وأهلياً على الغير”. والتاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد والاقليم يشهد على هذه السرديّة، والمقولة. إنها مجموعة ثقافيّة وقبيلة وإثنية مسالمة ومتحابة ومتعايشة معها في دارها أكثر من عشرين اثنية وقبيلة ومجموعات ثقافية واجتماعية مختلفة ومتمايزة على الأقل في العقود الأخيرة.
4. “… كثيرون آثروا الحروب نحو معسكرات النزوح…”. في السرديّة الهجوميّة على إنسان بليل الذي حدثَ، وما يزال آثاره باقيّة وحيّة حتى هذه اللحظة، إنما “هجوماً واعتداءاً وانتهاكاً ممنهجاً”. وبالتالي ذهاب مواطنيّ تلك المناطق والقرى إلى مناطق وقرى ومدن أخرى إنما حدثَ قسرياً، وبالإكراه، وجبراً؛ فإذ معناه تهجير قسريّ، وطرد بالإكراه، ونزوح وتشريد بالعنف، بالقتل، بالخطف وغيرها من أشكال الانتهاكات.
وبالتالي الأمر ليس فيهو “تفضيل” وضع عنيف عن آخر غير عنيف. الذي حدث ليس فيه خيار البقاء أو الرحيل، بل هو إعتداء عليك دون وجه حق، وعليه، في حالة ليس في مقدورك رد الفعل أو “آثرت الاستجابة بطريقة واعية أخرى”، فما عليك سوى النزوح، والرحيل بحثاً عن حياة، عن تامين الروح، عن استقرار وآمان في مناطق وقرى أخرى أكثر أمناً، لحين زمن للعودة ثانياً إلى مناطقك الأصلية تلك.
5. “.. الاقتتال القبليّ في قرى منطقة بليل.. “. نكرر أنه ما حدث ليس “اقتتالاً قبليّاً مطلقاً”، إنما “هجمات عنف وقتل وتهجير قسري وتشريد مقصودة” من طرف واحد على آخر. منطق الاقتتال يعني ثمة حالة حرب وعنف واعتداءات ورد افعال بين أطراف ما تجاه الانتهاكات بأخرى أقوى منها لرد القوة والكرامة والعدالة.
إن ما حدث هو هجوم طرف على طرف ثاني في مكانه وتاريخه وعرضه، وممتلكاته، وخصوصياته، وثقافاته، وحضارته، وبالتالي الأمر ليس “اقتتالاً” بأي شكل من أشكال “سياق ومعاني ومقاصد” السرديّة النقديّة الاستقرائيّة التي حاولنا حياكتها حول التقرير كمآخذ وملاحظات تحليليّة.
6. عدد ورود الكلمات ذات النبرة المصطنعة، والإقراريّة، ولها صبغة “إنتاج وصناعة، ومقاصد ما” في التقرير المقصود الذي لا تتجاوز مدته ثلاث دقائق إلا ثانيتين. وهي كالآتى: وردت كلمة “إقتتال” في التقرير (3 مرات)، وكلمة “قبليّ” (3 مرات)، وكلمة “عنف وأحداث وحروب” بالنبرة غير البريئة، مجتمعةً (6 مرات).
وبالتالي نلاحظ أن ثمة “قصديّة” غير مرغوب فيها، و”صناعة متعمدة” في إنتاج مثل هذه التقارير استناداً على مدة التقرير المقصود، وشواهد وتداعيات “نكبة إنسان بليل” مسبقاً، وربط قصديّة إنتاج مثل هذا التقرير بنوع سياسة تحرير المؤسسة التي حررته. وهي حتماً تخدم سياسات معينة، فضلاً عن مخاطبة وتضمين مصالح جهات وأطراف، ومؤسسات، وأفراد، وأنظمة بعينها بمستويات مصالح، وأهداف، وسياسات ما.
محمد أبكر،
صحافيّ، باحثّ، قاصّ، وناشط اجتماعيّ.