بقلم / مدثر الياس
تابعتُ كما تابع الكثيرون في الأسبوعين الماضيين إعلان نتيجة الشهادة الثانوية التي طال إنتظارها من قِبل الطلاب وأسرهم وذلك شعور طبيعي ينبغي أن ينتاب كل من يفعل عملاً ، إذ لا مناص من إنتظار نتيجة جهد بذلته ؛ أُعلنت النتيجة وفرحت بعض الأسر بتفوق أو نجاح فلذات أكبادها كما حزِنت الأخرى بسبب رسوب أبناؤها ومن ضمن الأسباب ما أنا بصدد كتابته الآن، إذ أن اللغة العربية باتت منذ عقود طويلة شرطاً للنجاح في الشهادة الثانوية دون مراعاة التنوع اللغوي الذي يزخر به وطننا السودان.
اللغة أداة للتواصل ما بين الشعوب وليست أداة للتعالي والتباهي على الآخرين ومحو لغاتهم وثقافاتهم التي خلقهم الله عليها و اللغات آية من آيات قدرة الله في أن خلقنا مختلفين في الألسن كما الألوان وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم الآية ٢٢ من سورة الروم : ( ومن آياته خلق السماوات والأرض وإختلاف ألوانكم وألسنتكم إن في ذلك لآيات للعالمين) كما في معناه في الكتاب المقدس – سِفر التكوين الإصحاح ١١ ذكر فيه أيضاً ذكر أنه بلبل ألسنة البشرية فجعلهم يتحدثون لغات مختلفة بعد أن كانوا يتحدثون لغة واحدة لتبيين قدرته سبحانه وتعالى.
أعود إلى النقطة التي ذكرتها سلفاً في أن اللغة العربية بفِعل فاعِل أضحت شرطاً للنجاح في الشهادة السودانية ، قُصد منها إبادة اللغات الأخرى بل وشعوبها تِباعاً إذ أنه لا يمكن أن نطلق على شعب بأنه حي ما دام لا يتحدث لغته؛ لذا دأبت الحكومات السالفة للمُستعمر في تدمير الشعوب الأصيلة بإبعادها من لغاتها كرهاً بالجلد في المدارس وقتما يتحدث الفرد منها لغته التي يسمونها إستحقاراً ( رُطانة) وهي وصمة للتخلف والرجعية كما هي خاصة بالعبيد ولا يمكنها أن تصبح لغة حتى لا تُنافِس لغة السيِّد حسب مخيلة السلطة، أو طوعاً حينما يريد الفرد أن يتعلم في المدارس الحكومية إذ لا يمكنه أن يتلقى التعليم الحكومي / الرسمي ما لم يتعلم العربية، ومن هنا بدأ صراع الإنسان الأفريقي / الزنجي / الأسود في السودان ووُضِع ما بين سندانة فهم اللغة أولاً ومطرقة فهم المنهج المراد تعلُّمه ثانياً ، لم تقتصر معاناة هذا الإنسان في العربية فقط بل عانى ذات المعاناة عندما كانت لغة الدراسة هي الإنجليزية رغم التباين في اللغتين في أن الثانية هي اللغة التي كُتبت بها معظم العلوم والمعارف على مستوى المعمورة في العصر الحديث بعد أن كتبت باللغات الأفريقية ؛ إذاً أين تكمن المعضلة الحقيقة في هذه المسألة؟ في نظري تكمن المعضلة الحقيقة في إرغام الآخر على فِعل شئ بدون إرادته المحضة والجلد في المدارس لمن يتحدث لغته الخاصة خير مثال، بل وتعدى ذلك الإرغام إلى فرض ذات اللغة لأن تكون شرطاً للنجاح في إمتحان الشهادة السودانية دون مراعاة التباين اللغوي داخل الوطن إذ لا يمكن أن تُقارن طالب يتحدث البيجاوية، النوبية ،الفورية، الدينكاوية،المسلاتية الشلكاوية ،الزغاوية… الخ في اللغة العربية مع طالب يتحدث العربية كلغة أم رضع من ثديها ، أين العدالة هنا؟ أما كان الأجدى على حكومة الثورة التي أمِلنا فيها كثيراً أن تِحقِّق أحد شعارات الثورة وهي العدالة؟ أم أن حليمة رجعت لعادتها وباتت حكومة الثورة ذاتها تسلك ذات المسلك الذي سلكته الحكومات المتعاقبة التي قسَّمت الشعب السوداني وشرخت نسيجه الإجتماعي؟ أم أنها لم تسقط بعد ؟ألم يكن من الأصوب على مدير المناهج د. القراي أن يُعيد النظر في فرض المنهج المُعرَّب على غير الناطقين بها وطباعة مناهج خاصة بهم تحترم لغاتهم وثقافاتهم، قد يقول أحدهم أن ذلك سيُكلِّف الدولة سيولة مالية ضخمة، السؤال الذي ينبغي أن يُطرح على حساب من تقوم الدولة بطباعة المنهج المُعرَّب؟ أليسه من عرق ذات الشعب؟ أم أنه لمن يتحدثون العربية إمتيازات في طبع مناهجهم بلغتهم دون الآخرين؟، هذه الدولة ملك لنا جميعاً لذا يجب أن تقف على مسافة واحدة منا جميعاً دون إقصاء أو إنحياز.
اللغة العربية كما الإنجليزية في السودان لغتان غازيتان لم يعرِف عنهما شعوب السودان الأصيلة إلا بعد إتفاقية البقط في أواسط القرن السادس الميلادي ودخول المستعمر البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر ميلادي، كانت الشعوب السودانية وقتئذ تتحدث لغاتها الخاصة كما كتبوا الكتب المقدسة بها، كانت اللغات الأفريقية حية وبها كُتبت أقدم العلوم البشرية كما درس بها فلاسفة اليونان والإغريق الذين درسوا على أيادي الكهنة الزنوج في كوش ( السودان الحالي) وقد ذكر معظمهم ذلك في مذكراتهم، لم تكن اللغات الأفريقية لغات تخلف ورجعية كما يراها ناطقو العربية في السودان اليوم ولكنها كانت لغات أقدم الحضارات البشرية على اليابسة كما كانت اللغات الرسمية في السلطنات والممالك.
اللغة العربية يجب أن تكون كغيرها من اللغات مثل النويرية، النوبية، المسلاتية ،الزغاوية ،الفورية، البيجاوية، الفونجاوية ،… الخ كأداة للتواصل ما بين الشعوب، وليست لفرضها على غير الناطقين بها وإشتراط النجاح في الشهادة السودانية بالنجاح فيها بسبب الأذى الجسيم الذي تتسبب فيها إذ يتم إسقاط ما لا يقل عن نصف الجالسين للإمتحانات بذريعة السقوط فيها كما حدث هذا العام حسب أحد الكتابات الصفحية، لقد عانى الكثيرون كما سيظل يعاني الآخرون من وِزر إشتراط النجاح بالنجاح في العربية، لديَّ عدد غير يسير من دفعتي ممن جلست معهم لإمتحانات الشهادة السودانية قبل عقد من الزمان تركوا الدراسة بعد سقوطهم المتكرر في مادة اللغة العربية التي بدون النجاح فيها لا تستحق الشهادة السودانية وغدوا يعملون في الأعمال الهامشية كعمالة رخيصة ، بربكم ما هذه السياسات الرعناء؟ بأي حق تُسقِط نتيجة طالب نجح في بقية المواد بسبب سقوطه في لغة لا يجيدها؟ ما هذا الإجحاف في حق هؤلاء الطلاب؟
الإعتراف بالآخر حق وليس موضع تفاوض، لذا يجب الإعتراف بالآخر بتباينه المظهري، الإثني ،اللوني ،الديني ،اللغوي، الجغرافي والجنسي دونه لن نستطيع بل أجزم إستحالة بناء دولة قويمة على غرار الدول الأخرى.
السودان يحوي قرابة المائة وستون لغة ولكن اللغة الوحيدة المعمول بها سواء في دواوين الدولة أو المنهج هي اللغة العربية ويا حبذا إذا كان الشعب السوداني يوماً ما أجمع على أن تكون هي اللغة الرسمية، بل في الحقيقة فُرضت فرضاً عبر سياسات الدولة الجوفاء بقصد بناء دولة عربية قحة في بلد أغلب سكانه من الزنوج.
في وجهة نظري البسيطة إذا كانت حكومتنا الحالية تنشد الدولة التي نصبو إليها يجب عليها إلغاء شرط النجاح في الشهادة السودانية بالنجاح في اللغة العربية ومن ثم جرد الإمتيازات التاريخية من هذه اللغة وجعلها كبقية اللغات لتؤدي رسالة التواصل ما بين الأقوام،دون ذلك ستستمر نار الحرب مُتقدة من أجل نيل هذه الحقوق كذلك يجب أن نحتذي بدول تحترم التباين اللغوي وتعتز به في محيطنا الإقليمي والقارِّي على سبيل المثال وليس الحصر جارتنا القريبة أثيوبيا توجد بها ست او ما يزيد من اللغات الرسمية بينما جنوب أفريقيا تتصدر ذلك إذ بها ثماني لغات رسمية ويتم التعامل بها في دواوين الدولة الرسمية بها فيها المؤسسات التعليمية، أين ستكمن المشكلة إذا درس الفونجاوي أو البرقاوي أو الفلاتي بلغته الرسمية في مراحل تعليمه الأولية إذ أنه في هذه المرحلة أحوج ما يكون في حاجة للدراسة بلغته لأنه لا يفقه لغة أخرى غير اللغة التي رضع من ثديها ومن ثم يتدرج في مراحله الدراسية الأخرى بعد أن يكون مُستعداً لأن يلتقي مع الآخرين من أبناء وطنه داخل سوح الجامعات ليدرس باللغة الإنجليزية كلغة علوم أو السواحيلية مثلاً إذا ذهبت الدولة في مضمار العودة إلى الذات الأفريقية بعد أن تغرَّب بها الإسلاميين ما خلف البحار باحثين عن العروبة؟
هل ستكون تلك معضلة؟ بالفعل لا أحسب ذلك وفقاً لوجهة نظري البسيطة إذ نكون قد تجاوزنا معضلة عدم التكافؤ في حصول الطالب على التعليم كما نجاحه دون إمتيازات لغوية لأحد على الأخرين والإلتحاق بالجامعة بعد إلغاء شرط النجاح في العربية.
الثورة مصيرها أن تنتصر
الفاتح من فبراير ٢٠٢١