أن أكثر فترة من فترات عمر الشعوب نحو فعل التحول تتطلب منها درجة عالية من الشفافية والوضوح بل الصراحة في التعاطي ومعالجة سوءات الماضي السياسي والاجتماعي والثقافي ،هي فترة ما بعد إجهاز النظام الشمولي ،وفي زخم أجندة التغيير المتكاثرة ،تأتي أولوية النقاش الجاد حول إعادة بناء الجيش لكونه عامل أساسي تستند عليه جميع مطلوبات التغيير الحقيقي نحو غايات التحول الديمقراطي وبناء نظام حكم رشيد ومستدام ،وفي النقاش عن الجيش ،لا يكون من المسائل المدعاة لأثارة الدهشة لاي شخص طبيعي ومتصالح مع الحقيقية المجردة، إن أجرينا ابتداء مقاربة موضوعية ما بين قوات الدعم السريع بوصفها قوة قوامها عرقية منحدرة من جُغرافية غرب السودان، بالمقابل، الجيش قوة تُهمين علي قيادتها وإدارتها أبناء شمال السودان ،وهذه المسألة من الأشياء الثابتة أصلا، لا يحتاج لاي دليل لإثباته ،واي مُكابر لهذه الحقيقة الثابتة فلينظر لقيادة الجيش في المستويات والرتب المختلفة .هذا إن لم نجري مقاربة بين الجرائم في رصيد الجيش بمقابل صنيعته من مليشيات الدعم السريع.
ولكن السؤال الجوهري والشكاك بهذا الصدد، ما هي الجهة التي تعمل على التسويق بقومية الجيش وضرورة المحافظة عليه كما هو!، بالطبع أن آلية خطاب السلطة، وتمركز بعض المجموعات العرقية الشمالية على السلطة عبر بوابة المؤسسة العسكرية، هي التي تخلق خطابا تبريريا يجعل من الجيش مؤسسة قومية بالمقابل تكون الكيانات العسكرية الأخرى جهوية أو عرقية! إنها حقا خطاب السلطة وآليات اشتغالها!،وتحوم الأسئلة الحرجة حول مدي جدية قوي التغيير الحقيقي حول مواجهة هذه المعضلة فكراً ونقداً وعملاً، وفي هذا المضمار، أن الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة القائد عبد العزيز حلو ، قد طرحت مبدا إعادة هيكلة الجيش كمبدأ غير متنازل عنه في مسار التفاوض بجوبا ،كان ينبغي أن يكون هذا المبدأ هو أس وجوهر لكل قوي التحرير والكيانات المدنية الأخرى الحادبة لفعل التغيير الحقيقي ،ينقل السودان من دائرة الانقلابات الشريرة الي نظام ديمقراطي مُستدام .وعلي الرغم من علم الجميع أن المؤسسة العسكرية هي التي تقف أمام أي محاولة للتغيير ،وتقوم بصناعة الحدث الدعائي وإدارتها بغرض التقليل من شأن المطالب الأساسية ومحاولة ربطها بمساس قيم الدين أو النظام العام ،وتقوم المؤسسة العسكرية بكل هذه الردود الانعكاسية فقط لأغراض السيطرة والمحافظة علي مصالح بعض المجموعات في حزمة الشركات التي تحتكرها الجيش في مجالات الصناعة وتعدين الذهب أو الثروة الحيوانية أو البنوك أو الاتصالات،،،الخ.
أن الطرح الذي يقدمه الحركة الشعبية لتحرير السودان في تفكيك الإمبراطورية العسكرية وإعادة هيكلتها ،لم يكن لمصلحة أجندة التفاوض فحسب، بل عنصر محوري لبناء جيش احترافي يكون مصدرا للتعدد الجغرافي والعرقي والثقافي في جميع مستويات وهيكليات القيادة المختلفة، من خلال الاعتماد علي قيادة موحدة تكون مرآة تعكس وجه السودان الحقيقي عبر المصادقة علي معايير موحدة للتدريب والانضباط والتجنيد علي أساس الجدارة ،كما يشمل علي ترسيخ عقيدة عسكرية تقوم علي فكرة حماية مكتسبات الدولة ومواطنيها ،وليست عقيدة ممارسة الإبادة الجماعية واغتصاب الحرائر وممارسة سياسة الأرض المحروقة كما هو الحال لدي الجيش السوداني ،والتاريخ المثقل بالخيبات والخزلان للجيش هو نتيجة حتمية لاي جيش عقدي تتدثر ورائه الأيدولوجيا العرقية ،حيث أن عمليات التخطيط والتدبير والتنفيذ التي قامت بها قيادة الجيش في الخرطوم بإبادة المواطنين في دافور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق لا يختلف من الدوافع والنزعات التي جعلت النازية في ارتكاب ابشع الجرائم.
أن ضرورة إبعاد الجيش من حلبة الصراع السياسي عبر بناء جيش قومي محترف يكون هو الضامن لاي تحول ديمقراطي علي غرار كثير من الدول التي مرت بتجارب مماثلة مثل شيلي وأرجنتين وبرازيل وغانا وغيرها من الدول الأخرى ،لان تقاليد الممارسة الديمقراطية لا تتماشي مع طبيعة النظم العسكرية ،فبنية الجيوش وأسباب اشتغالها اللذان يقومان علي مبدأ تنفيذ الأوامر من دون نقاش لا ينسجمان مع روح النظام الديمقراطي وقيمها، كما أن الطبيعة الأبوية بالمعني الفيبري للأنظمة العسكرية تحول دون تعزيز الديمقراطية .خلافاً للتصور الذي يردده براديغم الجيش وحلفائه والذي يقضي بمركزية المؤسسة العسكرية في سيرورة التغيير ؛وانها هي من ساهمت في صناعة الثورة وتقع علي عاتقها دور حمايتها ،في الحقيقة، أن الجيش لا يبني دولة القانون ،بل يحول الدولة الي أداة لممارسة السلطة فحسب ،كلما وقعت بين أيديه أو كان مصدر لها ولمشروعيتها ،لذلك بناء جيش وطني قومي محترف عبر تخليص مؤسسة الجيش من سطوة السلطويين العسكريين والأمنيين ،قد يسمح للضباط الرسميين المهنيين ممارسة وظائفهم العسكرية ممارسة مؤسساتية وطنية .
يجب أن يكون هَم ضرورة إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية هدف جميع القوي المدنية الفاعلة ولجان المقاومة الثورية وليس هَم الحركة الشعبية لتحرير السودان فحسب، لان مَؤسَسَة الجيش وتحقيق السيطرة المدنية عليها أولوية قصوي في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الثورة السودانية، وبمأسَسَة كل الخطوات والإجراءات التي يتم ولا سيما المتعلقة بميزانية الجيش وخطط الدفاع ،وعلاقة الجيش بالأجهزة الأمنية والاستخبارات والقضاء والرقابة المدنية علي كل هذه المستويات والعمليات ،وإبعاد الجيش عن إدارة القطاع العام واي مشاريع تجارية ،وإعادة هيكلة كل برنامج التعليم العسكرية .
عــبـد العـــزيز الــــتــوم
[email protected]