د. فيصل عوض حسن
منذ نحو أربعة أشهر وحُكَّام السُّودان (العَسْكَر/المدنيُّون) يُسابقون الزمن، لإكمال التطبيع مع الصهاينة (دون تفويضٍ) من الشعب، الذي أغرقوه بالتطبيقات الكثيفة والمُتداخلة لأُسلوب الإدارة بالأزمات Management by Crisis واستراتيجيَّات تشومسكي، انطلاقاً من التضليل والتعتيم المُصاحب لجميع إجراءات (التطبيع)، والأزمات (المصنوعة) والمُضَخَّمة، كأزمة المناهج والوقود والخبز الذي انتهى لوَزْنِه بالكيلو وغيرها.
معلومات التطبيع القليلة التي أفْصَحَ عنها حُكَّام السُّودان، جاءت مُتأخِّرة ومليئة بالتضليل/الكذب، ولم يُفصحوا عنها أصلاً إلا عقب نشرها بواسطة الإعلام (الإسرائيلي)، ومن ذلك على سبيل المثال وليس الحصر، (إدِّعاء) حمدوك المُوثَّق بعدم معرفته (المُسبقة) بمُقابلة البرهان ونتنياهو في أوغندا، ثُمَّ تكذيب هذا (الإدِّعاء) بواسطة مُستشار حمدوك و(صديقه)، الذي أكَّدَ أنَّ حمدوك يعلم بكافَّة ترتيبات/تفاصيل المُقابلة! وفي 29 أكتوبر 2020، ادَّعى مُسْتَوْزِرْ خارجِيَّة القحتيين أنَّه أقَالَ المتحدث باسم الوزارة (حيدر بدوي)، لأنَّه تحدث حول التطبيع بصفته الشخصيَّة (دون تفويض)، وأنكر علمه كـ(مسئول عن الخارجِيَّة) بالتطبيع، وأنهم لم يُناقشوا الموضوع بمجلسي السيادة والوُزراء من أساسه، مُؤكِّداً عدم ربط الأمريكان بين التطبيع ورفع اسم السُّودان من قائمة الإرهاب! غير أنَّ صحيفة الراكوبة في 8 نوفمبر 2020، فَضَحت تضليلات/أكاذيب هذا المُسْتَوزِرْ، حينما نقَلت عن فورن بوليسي الأمريكيَّة، أنَّ الرئيس ترمب يضع اللمسات الأخيرة لـ(صفقة) التطبيع بين السُّودان وإسرائيل! وفي اليوم التالي، 9 نوفمبر 2020، كَشَفَت صحيفة المواكب (نقلاً عن الإعلام الإسرائيلي)، تفاصيل اتّفاق فتح الأجواء السُّودانِيَّة وتسيير الرحلات (المُباشرة) مع إسرائيل! وحينما كَشَفَ (الإسرائيليُّون) عن وصول وفدهم للسُّودان، يوم 23 نوفمبر 2020، نَفى المُتحدِّث باسم مجلس حمدوك (علمهم) بتلك الزيارة، ولا بأعضاء الوفد أو الجهة التي دعته واستقبلته! لكنَّ المُتحدِّث باسم مجلس السيادة، فَضَحَ أكاذيب مجلس حمدوك، إذ أكَّدَ لصحيفة حكايات في 29 نوفمبر 2020، بأنَّ (جميع) أعضاء مجلسي السيادة والوُزراء مُشاركون في ملف التطبيع!
أكبر دليل على تضليل/أكاذيب حمدوك ومُسْتَوْزِريه عن جهلهم بالتطبيع، فَضَحه توقيع مُسْتَوْزِر العدل على إعلان أبراهام في السفارة الأمريكيَّة بالخرطوم، في أوج زوبعة المناهج (المصنوعة)! ولتغطية هذا التجاوُز، أطلقوا مجموعة من الأكاذيب عن فوائد (خُرافِيَّة) للتطبيع، يصعُب تحقيقها والتَحقُّق منها، كالدعم الأمريكي البالغ مليار دولار، وإعفاء الديون والدخول في هِبْكْ Heavily Indebted Poor Countries (HIPC)، وإشاعتهم بأنَّ حمدوك سافر إلى الإمارات لاستلام 4 مليارات دولار، كدعمٍ أوَّلي مُقابل التوقيع على اتفاقِيَّة أبراهام، وغيرها من الأكاذيب والتضليلات. فالمليار دولار ليست سِوَى قرض تجسيري، يستهدف عادةً تمويل المَدِيِن/المُقْتَرِضْ، الذي يحتاج زمناً إضافياً لتلبية التزاماته الحالِيَّة، ويتم سداد هذا القرض للبنك الدولي ويبقى ليوم أو يومين، ويُعاد للدَّائن/المُقْرِضْ مرَّةً ثانية، عقب تثبيت سداد المَدِين لديونه، مما يعني عودة السُّودان للاستدانة بـ(شروط) البنك الدولي، وما أقسى تلك الشروط وصعوبة تلبيتها. وهذه الخطوة لا تعني أبداً (إعفاء) ديوننا الخارجِيَّة، وإنَّما خطوة أوَّليَّة/مفتاحِيَّة للتفاوُض مع الدَّائنين بشأن المديونِيَّة.
أمَّا الدخول في (HIPC)، فهي مُبادرة بدأها صندوق النقد والبنك الدَوْلِيَيْن عام 1996، أهدافها (الظاهرِيَّة/المُعْلَنَة) تهيئة/توفير الديون بفوائد مُنخفضة، أو خفض أقساط الديون الخارجيَّة لمستوياتٍ مُستدامة، ولكنَّ هذه المُساعدات مقرونة/مُرتبطة بشروطٍ (ظاهرها) اقتصادي وباطنها/جوهرها (سياسي)، سواء كان ذلك ضمنياً أو صراحةً! وكمثال توضيحي، أشاعوا بأنَّ هناك شرطين لرفع اسم السُّودان من قائمة الإرهاب، أوَّلهما (التطبيع) مع إسرائيل، رغم أنَّه لم يكن سبباً لدخولنا في هذه القائمة، ولم يظهر إلا عقب زيارة حمدوك لأمريكا (دون دعوة رسميَّة)، فضلاً عن إنكار كلٍ من العَسْكَر والمدنيين، لربط التطبيع والرفع من القائمة، وهذه بداية دخولنا (عملياً) تحت الوصاية أو السيطرة السياسيَّة والأمنِيَّة. وأمَّا الشرط الثاني، فهو اقتصادي ويتكوَّن من عدَّة شروط فرعِيَّة، كرفع الدعم عن السلع الاستراتيجيَّة والاستمرار في سياسات الإفقار والتَبعِيَّة، وبعبارةٍ أدق (الوصاية الكاملة) لكلٍ من البنك وصندوق النقد الدَوْلِيَيْن وتوابعهما من المُؤسَّسات المالِيَّة العالمِيَّة، بما يُحتِّم التفكير/التَدَبُّر في التكلفة (الباهظة) التي سنتحمَّلها قبل الابتهاج بهذه الكارثة!
الأهم من كل ذلك، أنَّ الجُزء الأعظم من ديوننا (خارج) مَظَلَّة البنك الدولي، كالقروض الصينيَّة أو الإماراتيَّة أو السعودِيَّة، التي نالها المُتأسلمون وأحالوها لمصالحهم الشخصيَّة، وقَدَّموا مُقَدَّرات السُّودان كـ(ضماناتٍ) لِنَيْلِها وامتنعوا عن سداد الأقساط، وهي قروضٌ ضخمة يستحيل إعفاؤها، وهذه الحقيقة يعلمها العَسْكَر والمدنيُّون جيداً، ومع ذلك يُضلِّلون السُّودانيين بأكذوبة (إعفاء) الديون، وسنفرد مقالة مُنفصلة لهذا الموضوع! أمَّا صندوق أبراهام، فقد تَأسَّسَ بالقدس في أكتوبر 2020، بشراكةٍ إسرائيليَّة/إماراتِيَّة ورأس مالٍ قدره 3 مليارات دولار، لتنفيذ بعض الاستثمارات التنمويَّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مما يفضح أكذوبة الـ4 مليارات دولار التي أدَّعوا أنَّ حمدوك سافر لاستلامها من الإمارات، كاستحقاقٍ أوليٍ مُقابل التوقيع على اتفاقِيَّة أبراهام، لأنَّ هذا المبلغ يفوق رأس مال صندوق أبراهام (3 مليارات دولار) بكامله! بخلاف، أنَّ الصندوق ما يزال في مرحلة التأسيس، ولم يَمضِ على إعلانه سِوَى أربعة أشهرٍ فقط، ويستهدف منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس فقط السُّودان!
واهمٌ جداً من يعتقد أنَّ أزماتنا المصنوعة ستختفي بـ(التطبيع)، وإنَّما ستزداد لتدمير وإضعاف ما تَبقَّى مِن البلاد والعِباد، ولنأخذ العِبْرةِ/العِظَة من شعوب دول الجِوَار (المُطَبِّعَة) مع الصهاينة، وانعكاسات ذلك التطبيع على أوضاعهم الاقتصادِيَّة والسياسيَّة، وسنجد أنَّ جميع تلك (الشعوب) لم تَجْنِ غير السراب والخراب. فالمصريُّون كمثال، عانوا من التخريب الصهيوني المُتعمَّد لقطاعهم الزراعي، ومن البذور (المُلَوَّثة) التي أصابتهم بمُختلف الأمراض المُمِيتة، بخلاف إغراقهم في المعونات التي سَلَبت إرادتهم، وباتوا ألعوبة في إيدي الصهيونِيَّة العالمِيَّة. وهناك الأردُنيُّون الذين غَيَّروا تركيبتهم السُكَّانِيَّة تماماً، وأصبحوا (أقَلِيَّة) في بلدهم ومُعرَّضون للطرد منها بإشارةٍ من إسرائيل. ويحيا التشاديُّون اختناقاً معيشياً مُتواصلاً، ويُعانون من نقص غالِبِيَّة السلع الاستراتيجيَّة كالسُكر والدقيق والوقود. وكذلك الحال بالنسبة للإريتريين، الذين تَشَرَّدُوا في جميع أصقاع العالم، ويتم (تهريب) جميع احتياجاتهم من السُّودان، بما في ذلك (الطَعمِيَّة والزلابيا)! وجميع هذه الشعوب تُعاني من قمع وبطش الأنظمة التي تحكمها، على مرأى ومَسْمَع العالم الذي يهتم بمن يُلبي أطماعه من موارد تلك الدول!
وفقاً لمُعطياتنا الماثلة، سنعاني من (جميع) المشاكل/المخاطر التي تحياها شعوب الدول (المُطبِّعة)، فسيتم إكمال تغيير التركيبة السُكَّانِيَّة لأهل السُّودان، مع نهب وتدمير ما تَبَقَّى من مواردنا الزراعِيَّة، والاستفراد بمزايانا النسبِيَّة خاصَّةً المياه وأراضي الزراعة العُضوِيَّة بشرق وغرب البلاد، والسيطرة الكاملة على موانئنا البحرِيَّة والبرِّيَّة وثرواتنا الطبيعيَّة. ويجد كلاً من البرهان والمُرتزق حِمِيْدِتي دعماً كبيراً من الطَّامعين الخارجيين، وعلى رأسهم أمريكا وإسرائيل وأزلامهما، لأنَّهما غارقان في جرائم خطيرة (مُوثَّقة) تُسهِّل ابتزازهما كالبشير تماماً، وهذا ما حذَّرتَ منه كثيراً، وقلت بأنَّهما سيستكملان مُخطَّط نهب وتفكيك البلاد. وتحدَّثتُ بصفةٍ خاصةٍ عن حِمِيْدْتي، وخطورته على السُّودان ووحدة تُرابه/وجدانه، لأنَّه خائنٌ وغَدَّارٌ بالفطرة، ولا ينتمي للسُّودان لا جينياً ولا أخلاقياً، ولا يتوانى عن فعل أي شيء للتَرَبُّح والنجاة بذاته، حتَّى (مرتزقته/أعوانه) تَاجَرَ بهم في حرب اليمن، وباعهم بالرأس كما تُباع الخراف! وفعلياً يعمل هذا المُرتزق الآن كَحِصان طرْوادة الذي استخدمه الإغريق لضرب الطُرواديّين من الدَّاخِل، عبر إشعال الاصطفاف القَبَلي/الجِهَوِي، وتغيير التركيبة السُكَّانِيَّة بشرق وغرب السُّودان، وجلب المئات من المُرتزقة واستيعابهم في مليشياته الإجرامِيَّة، ومنحهم المزايا الماليَّة والعينيَّة خصماً على السُّودان وأهله.
المُحصِّلة، أنَّ الجميع مُشاركون في عمليَّة التطبيع المُتسارعة، سواء البُرهان ورُفقائه أو حمدوك وعُملائه، رغم أنَّها تخرج عن اختصاصات مجالسهما وعن الفترة الانتقالِيَّة بكاملها، ويتعجَّلون لإكمالها بدعمٍ خارجيٍ كبير قبل أي حِراكٍ سُّوداني (مُتوقَّع)، واعتلاء حُكَّام وطنيين (أولاد حلال) يقطعون الطريق أمام كل تلك الأطماع. وهنا، أكرِّر مَرَّةً أخرى بأنَّ التطبيع لن يحل مشاكلنا، وهذا اعتقادٌ خاطئٌ رَسَّخه المُتأسلمون عبر ترسانتهم الإعلامِيَّة المأجورة، بعدما أغرقونا في الأزمات المُتلاحقة. فالصهاينة ليسوا (أغبياء) ليُهدروا وقتهم وقدراتهم دون مُقابل، وليسوا (أخياراً) يبتغون الحَسَنات الإلهيَّة ليصرفوا على السُّودان وأهله وإنَّما يسعون لمصالحهم وإشباع أطماعهم، وليتنا ننتبه للأثمان (الباهظة) المُترتِّبة على التطبيع، التي بدأت ملامحها تلوحُ في الأفُق. فما أن شَاعَ نبأ التطبيع مع إسرائيل، حتَّى سَارَعَ الإثيوبيُّون (الفلاشا) لتقديم طلباتهم إلى نتنياهو، مُشترطين تضمينها في الاتفاقيَّة مع السُّودان، كموضوع (المفقودين/القتلى) خلال رحلة هجرتهم إلى إسرائيل، وضرورة بناء نصب تذكاري لهم (داخل السُّودان)، وهذه هي البداية وسُرعان ما ستنتقل إلى أحقِّيَّة (تاريخيَّة) ببعض الأراضي، التي في الغالب تكون مُحدَّدة و(مُتَّفقٌ) عليها مُسبقاً، وسيستجيب البرهان ورُفقائه وحمدوك وقحتيُّوه، للأسباب التي ذكرناها أعلاه، ودونكم (التَسَارُع) الكبير في إجراءات التطبيع، و(التعتيم/التضليل) المُريب حول تفاصيله التي نتفاجأ بها تباعاً، وعبر الإعلام الإسرائيلي (حصراً)!
أُجَدِّد قولي السابق، بأنَّنا (نحن السُّودانيين) غير مُؤهَّلين حالياً، للبت في (التطبيع) أو حتَّى مُجرَّد الحديث عنه، لأنَّ حُكَّامنا عُملاء ودون سُقُوف أخلاقِيَّة أو إنسانِيَّة، ولأنَّنا نتعامل بـ(العواطف) ولا نفكر في المُقابل الذي ينشده الصهاينة وغيرهم، ومدى قدرتنا على الإيفاء بذلك المُقابل، بخلاف أنَّنا مُحاصرون بالجوع والتجهيل والفِتَن وسُطْوَةِ الأجانب، وغيرها من الأزمات التي تُعيق تقديرنا للأمور بنحوٍ سليم. فلندع الحديث عن (التطبيع)، ولنُسرع بتحرير بلادنا من العُملاء الذين يحكموها الآن من العَسْكَرِ والمدنيين، ثُمَّ نعمل على بناء بلادنا اعتماداً على ذواتنا، لأنَّ الشعوب (الحُرَّة) لا تنتظر مِنَحْ (الآخرين) لتنال حُرِّيَّتها، وإنَّما تقتلع حقوقها وتُحرِّر قيودها وتُحقِّق رفاهيتها، وتكسب الاحترام الدَّولي والإقليمي بقدراتها الذاتيَّة.