نما إلى أسماعنا عبر وسيط (الواتساب) بعض التراشقات الكلامية , التي دارت بين مجموعة من الأفراد الذين ينتمون إلى الطيف القبلي والاجتماعي التشادي الشاسع والواسع , وجاءت هذه التراشقات الصوتية على خلفية الأحداث المؤسفة و المؤلمة التي راح ضحيتها عدد مقدر من شباب الجمهورية التشادية المنقبين عن الذهب , بثت هذه التسجيلات الصوتية فجاءت معبرة عن روح قبلية وعنصرية صادرة من مجموعة من الأشخاص , ينتمون إلى كل الأطراف المتنافسة حول آبار تنقيب الذهب , والتي تعتبر (أي هذه الآبار) أحد الدوافع وليست كلها التي أدت إلى اندلاع هذا الصراع القبلي , فاذا لم تتدخل سلطة الدولة ممثلة في الرئيس ادريس ديبي لحسم صراع القبائل هذا , فان كينونة الدولة التشادية ستكون في مهب الريح , وعلى الأشقاء في جمهورية تشاد أن يعتبروا بما جرى من أحداث مشابهة , في كل من السودان والصومال ورواندا و أفريقيا الوسطى , و ما تبع تلك الأحداث من مآسي وجرائم حرب و جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الانسانية , أرتكبت بحق الأبرياء على خلفية ذات الصراعات القبلية المدمرة , والتي تحولت لاحقاً إلى صراع سياسي يستهدف كرسي الحكم , ذلك بعد أن قضت على الأخضر و اليابس , فتلك الحروب هي الأخرى قد بدأت إنطلاقتها الأولى بالكلام القبلي المجرد من الغرض السياسي , ثم انتهت بأبشع جريمة إنسانية عرفها ضمير العالم في القرن الواحد و العشرين , فالحذر كل الحذر من مغبة الوقوع في نفس الخطأ الذي وقع في فخه الآخرون , فمآلات الوضع الراهن تتطابق مع إشارات أبيات الشعر التي نظمها أحد ولاة بني امية في مناسبة مشابهة , وظلت هذه الأبيات الشعرية مصنفة بأنها من المواعظ و الحكم المأثورة , التي تنبه و تلفت اهتمام الناس لعدم الاستهتار بالاحداث الصغيرة , فعلى مر الحقب و الأزمان تجيء الكوارث الكبيرة من إرهاصات الأسباب الواهية و التافهة , التي لا يعتبر بها العامة من الناس , فذلك الأموي الحكيم و الحصيف قال : (أرى تحت الرماد وميض جمر…ويوشك أن يكون له ضرام , فإن النار بالعودين تُذكى … وإن الحرب مبدؤها كلام , فإن لم يطفها عقلاء قوم … يكون وقودها جثث وهام).
إنّ نعمة الأمن و الأمان و الإستقرار لا يستشعرها , إلا من تجرع كؤوس الموت الزؤام ومعاناة النزوح و اللجوء و خراب البيوت و المساكن , فعلى نظام الدولة ان ينظم و يراقب عمليات التنقيب العشوائي عن هذا المعدن النفيس , و أن يضع جدولاً عادلاً للمنافسة الشريفة حول تخصيص الأراضي التي توجد بها هذه الحقول المعدنية , وأن لا يترك الأمر سائباً هكذا دون حسم إداري من الأجهزة المعنية في الدولة , وعلى أئمة المساجد و خطباء صلوات الجمعة أيضاً دور توعوي فاعل في إخماد نار الفتنة التي بدأ لهيبها يستعر , و الدور الأكبر يؤديه ويقوم به السلاطين و رموز وسادة هذه القبائل المتصارعة , و كذلك على النظام السياسي في تشاد ان يعتبر بمآلات وممارسات نظام الحكم السوداني السالبة في هذا الخصوص , والذي ترك نيران الحرب تشتعل في اطراف السودان البعيدة ظاناً في نفسه أنه سوف ينجو من حريقها و لهيبها المستعر , حتى داهمه هذا الحريق في مركز سلطته داخل عاصمة بلاده , فعندما يغض الطرف النظام الحاكم في تشاد ويصرف النظر عن هذه النزاعات العرقية , فانّ ذلك لا يأتي عليه بخير ولا يؤدي مثل هذا التجاهل إلى دعم ديمومة و استمرارية الحكم في انجمينا , فجميع الأنظمة السياسية في القارة الأفريقية عصفت بها مثل هذه الحروب الأهلية , وأضعفتها هذه الانتمائات القبلية والولاءات العشائرية الضيقة , و كي لا ننسى , هنالك أمر في غاية الخطورة و الأهمية , يجب الإحتراس له من قبل الشعب و الحكومة التشادية , ألا وهو استغلال منابر المساجد من بعض ضعاف النفوس , واستخدامها في تغذية الكراهية العرقية والتباغض القبلي بين سكان الدولة , فالمساجد يجب أن تكون للعبادة و تزكية النفس وتنقية الروح و تهذيبها , لا أن تفتح ابوابها ومنابرها لكل صاحب غرض , لأن يبث سمومه وأفكاره الشاذة وسط مكونات هذا الشعب الكريم والمتسامح .
فالمجازر التي ارتكبت بحق الشباب المنتمين إلى جميع أطراف الصراع , ما هي إلا نتاج للتعبئة العرقية الهدامة و الضارة والفاتكة بتماسك المجتمع , فقد عاش الناس في ظل نظام الرئيس إدريس ديبي زماناً ينعمون بالأمن والاستقرار ونابذون فيه للقبلية , بل درجوا على استقبال الآخرين القادمين إليهم من دول الجوار بكل حفاوة وترحاب , خاصة اللاجئين الذين طردتهم الحروب من جمهورية أفريقيا الوسطى , و من السودان بعد أن شردتهم مأساة إقليم دارفور المجاور لجمهورية تشاد , فاذا لم يحرص التشاديون حكومة وشعباً على تماسك نسيجهم المجتمعي , ولم تكترث قيادتهم لخطورة تفشي ظاهرة الكراهية القبلية و العرقية , لتحول حالهم إلى الأسوأ , و لأصبحوا مشردين و هائمين على وجوههم لدى جيرانهم , فبدلاً من أن يكونوا هم الذين يستنجد الناس بهم , و يسعى إليهم المستجير والمكلوم و المصاب و المحروم , سوف يصبحون بين ليلة وضحاها قابعين في مكان هؤلاء البؤساء , الذين بطشت بهم أنظمة الحكم الظالمة في بلدانهم.
فجميع البلدان ذات السيادة في الشرق الأوسط وأفريقيا , عملت جاهدة من أجل مكافحة الإرهاب و القضاء على بؤر تواجده , ذلك لأن حوادث الإرهاب تأتي من مستصغر الشرر , وتنموا وتزدهر بسبب أدق الخلافات و الاختلافات و المشاكسات بين مكونات ذات مجتمع الدولة التي كانت متماسكة , فمثل هذه الأحداث المؤسفة والتي أطلت بوجهها القبيح في الأيام و الشهور الفائتة , يمكنها ان تكون مصدراً محفزاً لدخول الجماعات الإرهابية التي لاتريد سلاماً ولا استقراراً لأي بلد كان , و دونكم ما تتحمله ميزانية دولة راكزة مثل كينيا من تكاليف و أعباء أمنية و إدراية , في سبيل استئصال خلايا هذا الداء السرطاني الإرهابي , ألذي يطل برأسه من وقت لآخر ويقوم بزرع العبوات المفخخة والناسفة , في المطاعم و المقاهي ودور التسوق ومنتجعات الترفيه , فاليوم قد أصبحت الدول الطامحة الى التقدم و الرفاه في إقليمنا الأفريقي و الشرق أوسطي , تولي أهمية قصوى لملف الإرهاب و تعمل بكل ما أوتيت من قوة لوقف ومحاصرة تمدد جماعاته المنحرفة , و توجه لها الضربات الأستباقية الخاطفة قبل أن تتمكن و تستشري في جسد المجتمع وأجهزة الدولة , فالإرهاب يماثل تماماً الورم الخبيث , الذي اذا لم يتم القضاء عليه في ساعاته وأيامه الأولى تمادى و أحكم السيطرة , و استحالت معه أقوى الجرعات الكيماوية وأخفقت في إجراء عملية البتر والاستئصال.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com